«ساكسيشن» يتصدر ترشيحات جوائز «إيمي»

بعد تأجيل الحفل 4 أشهر

أبطال مسلسل «ساكسيشن» خلال حفل توزيع جوائز اختيار النقاد التاسع والعشرين (أ.ف.ب)
أبطال مسلسل «ساكسيشن» خلال حفل توزيع جوائز اختيار النقاد التاسع والعشرين (أ.ف.ب)
TT

«ساكسيشن» يتصدر ترشيحات جوائز «إيمي»

أبطال مسلسل «ساكسيشن» خلال حفل توزيع جوائز اختيار النقاد التاسع والعشرين (أ.ف.ب)
أبطال مسلسل «ساكسيشن» خلال حفل توزيع جوائز اختيار النقاد التاسع والعشرين (أ.ف.ب)

تجتمع نخبة الوجوه التلفزيونية في الولايات المتحدة في الاحتفال الخامس والسبعين لتوزيع جوائز «إيمي» التلفزيونية الذي يقام (الاثنين) في لوس أنجليس متأخراً أربعة أشهر عن موعده الأساسي، بعدما أدى الإضراب المزدوج لكتاب السيناريو والممثلين إلى تأجيله، وتتجه الأنظار إلى ما سيحققه مسلسل «ساكسيشن» (Succession) الذي يتصدر قائمة الترشيحات ويُعدّ الأوفر حظاً لحصد الألقاب.

ودرجت العادة على إقامة احتفال توزيع هذه الجوائز المعادلة تلفزيونياً لمكافآت «الأوسكار» السينمائية في سبتمبر (أيلول)، لكنّ المنظمين ارتأوا إرجاءه إلى يناير (كانون الثاني)، بناء على توقعات تبيّن أنها كانت صائبة بانتهاء إضرابَي الممثلين وكتاب السيناريو قبل ذلك، مما يتيح لأهم النجوم حضور الحدث والإطلالة من فوق سجادته الحمراء.

وأجريت عملية التصويت خلال الصيف الفائت، علماً أن بعض المسلسلات رُشِّحَت عن مواسم عُرضَت قبل أكثر من عام.

وبدا واضحاً أن «ساكسيشن»، أو «الخلافة» (Succession)، الذي حصل على 27 ترشيحاً سيفوز بمجموعة كبيرة من الجوائز، يُتوقَع أن تكون بينها تلك المخصصة لأفضل مسلسل درامي التي سبق لهذا العمل أن فاز بها مرتين، حسبما أفادت «وكالة الصحافة الفرنسية».

ويتناول هذا المسلسل الذي أنتجته شبكة «إتش بي أو» وقوبل باستحسان النقاد، الصراعات بين أفراد عائلة روي النافذة والثرية التي تملك إمبراطورية إعلامية.

وتضم لائحة المرشحين الستة لجائزة أفضل ممثل في مسلسل درامي ثلاثة من أبطال «ساكسيشن» هم: كيران كالكن وجيريمي سترونغ وبراين كوكس.

بطلة مسلسل «ساكسيشن» سارة سنوك خلال حفل توزيع جوائز اختيار النقاد التاسع والعشرين في كاليفورنيا (أ.ب)

وتُعدّ بطلة المسلسل سارة سنوك من بين الأوفر حظاً في الفوز بجائزة أفضل ممثلة، فضلاً عن أن لدى ماثيو ماكفايدن الذي فاز أخيراً بجائزة «غولدن غلوب» لأفضل ممثل في دور ثانوي في مسلسل درامي، فرصة كبيرة للحصول على تتويج ثانٍ (الاثنين).

تراجع كبير لعدد المشاهدين

وقد يكون الفوز الكبير المتوقع لـ«ساكسيشن»، إذا صحّت الترجيحات، على حساب اثنين من أبرز المسلسلات المنافسة له. فرغم حصوله على 24 ترشيحاً، قد يخرج «ذا لاست أوف آس» (The Last of Us) خالي الوفاض مساء (الاثنين)، إلا إذا تمكّن نجما هذا المسلسل المقتبس من لعبة فيديو تحمل العنوان نفسه الممثلان بيدرو باسكال وبيلا رامزي، من تحقيق مفاجأة.

بيدرو باسكال وبيلا رامزي بطلا مسلسل «ذا لاست أوف آس» (أ.ب)

أما «ذي وايت لوتس» (The White Lotus) الذي حصل على 23 ترشيحاً، فيأمل في الفوز بجائزة «إيمي» لأفضل ممثلة في دور ثانوي في مسلسل درامي؛ إذ تضمّ قائمة المرشحات الثماني في هذه الفئة أربعاً من اللواتي جسّدن شخصياته. ومن أبرز هؤلاء جنيفر كوليدج، وهي الوحيدة العائدة إلى المسلسل في موسمه الثاني الذي تدور أحداثه في صقلية.

ويُتوقع ألا يكون تأجيل احتفال توزيع جوائز «إيمي» عاملاً مساعداً في تحسين أعداد مشاهديه الآخذة في التراجع منذ سنوات، فمتابعو احتفال العام الفائت لم يتجاوزوا 5.9 مليون، وهو رقم يقلّ حتى عن ذلك الذي سُجّل في نسخة 2020 التي أقيمت من دون نجوم بفعل الحجر الصحي، وأُطلِقَت عليها تسمية «PandEmmys»، المركّبة من كلمة «Pandemic» (أي الجائحة) واسم الجوائز «Emmys».

وأدّى التأجيل أيضاً إلى وقوع احتفال «إيمي» هذه السنة بين عدد من الأحداث الكبرى المتعلقة بالجوائز الهوليوودية، ومنها أمسية «غولدن غلوب» والإعلان عن الترشيحات لـ«الأوسكار».

فرصة جديدة في نفس العام

في فئات المسلسلات الكوميدية، يتمتع مسلسل «ذا بير» الذي تدور أحداثه في مطبخ مطعم فوضوي في شيكاغو بحظوظ جيدة في موسمه الأول.

وفي حال لم يفز أيّ من نجومه جيريمي آلن وايت وآيو أديبيري وإيبون موس باكراك، بجائزة (الاثنين)، ستتاح لهم فرصة أخرى في سبتمبر، في نسخة 2024 من جوائز «إيمي» التي سيكون الموسم الثاني من المسلسل مؤهلاً للمنافسة فيها.

الممثلة الأميركية أيو إيدبيري بطلة مسلسل «ذا بير» (أ.ب)

أما «تيد لاسو» الذي سبق أن حصل على عدد كبير من الجوائز، فسيكون احتفال (الاثنين) آخر فرصة أمامه لنيل المزيد منها، بعد موسم ثالث وأخير كان مخيّباً للجمهور والنقاد.

وغالباً ما يكون التنافس حامي الوطيس في فئات المسلسلات القصيرة المخصصة للأعمال التي تقتصر على موسم واحد، ومن أبرز تلك التي تتنازعها هذه السنة إنتاجان من «نتفليكس» نال كل منهما 13 ترشيحاً هما «بيف» و«دامر: مونستر- ذي جيفري دامر ستوري».

وقد تنال بطلة «بيف» آلي وونغ جائزة أفضل ممثلة عن دورها كسائقة تتحدى رجلاً من أصول آسيوية مثلها بعد خلاف على أفضلية المرور في موقف للسيارات، وتسعى إلى الانتقام منه.

ويتولى الممثل أنتوني أندرسون تقديم احتفال توزيع جوائز «إيمي» الذي يبدأ في الساعة الخامسة عصراً بتوقيت لوس أنجليس (الأولى فجر الثلاثاء بتوقيت غرينتش).


مقالات ذات صلة

أربعينات القرن الماضي تجذب صناع السينما في مصر

يوميات الشرق أحمد عز في لقطة من فيلم «فرقة الموت» (الشرق الأوسط)

أربعينات القرن الماضي تجذب صناع السينما في مصر

يبدو أن سحر الماضي دفع عدداً من صناع السينما المصرية إلى اللجوء لفترة الأربعينات من القرن الماضي بوصفها مسرحاً لأحداث أفلام جديدة.

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق مهرجان القاهرة السينمائي لتنظيم ورش على هامش دورته الـ45 (القاهرة السينمائي)

«القاهرة السينمائي» يدعم صناع الأفلام بالتدريبات

أعلن «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» عن تنظيم مجموعة متخصصة من الورش لصنّاع الأفلام.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج معتز التوني يتوسط وأمينة خليل فريق العمل خلال العرض الخاص بالقاهرة (الشركة المنتجة)

«X مراتي» فيلم مصري جديد يراهن على «الضحك» فقط

يرفع الفيلم المصري «X مراتي» شعار «الضحك للضحك» عبر كوميديا المواقف الدرامية التي تفجرها قصة الفيلم وأداء أبطاله.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق  الحدث يهتم بالتنوّع البيولوجي والسينما (مهرجانات ريف)

انطلاق «مهرجانات ريف»... ومشكلات بيئة جنوب لبنان في الصدارة

تُعدّ «مهرجانات ريف» المُقامة في بلدة القبيات، الوحيدة لبنانياً التي تتناول موضوعات البيئة، فتضيء على مشكلاتها وتزوّد روّادها بحلول لمعالجتها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق حورية فرغلي (إنستغرام)

حديث حورية فرغلي عن حياتها الشخصية يلفت الانتباه في مصر

لفتت الفنانة المصرية، حورية فرغلي، الانتباه في مصر بعد حديثها عن تفاصيل في حياتها الشخصية، والسبب الذي لأجله قالت إنها «تمنت الموت».

محمد الكفراوي (القاهرة )

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».