اليوم يومها. سندريلا أسترالية من والدين إسكوتلنديين بعيون لوزية وشعر بُنِّي دخلت في عام 2004 القصر الدنماركي أميرةً واليوم تُتوَج ملكةً. كان لقاؤها الأمير الدنماركي محض صدفة. حمل اللقاء كل العناصر التقليدية والكليشيهات: نظرة وابتسامة ثم لقاءات انتهت بالزواج. وهكذا أصبحت ماري رفيقة درب الأمير فريدريك أوف الدنمارك وقوته الناعمة. رغم أنها من طبقة متوسطة ومن قارة بعيدة وثقافة مختلفة، تفانت في تعلم فنون اللياقة والبروتوكول فسرقت قلوب الشعب الدنماركي وحظيت بإعجاب واحترام العالم.
اليوم ستتوَّج على العرش الدنماركي ملكةً. ففي بادرة غير مسبوقة فاجأت حماتها الملكة مارغريت كل العوائل الملكية الأوروبية في آخر يوم من العام الماضي، بإعلان تنحيها عن العرش لابنها فريدريك بعد 52 عاماً. تعللت بتدهور صحتها وخضوعها لعدة عمليات جراحية، كانت آخرها عملية في الظهر. صرَّحت: «كانت الجراحة بطبيعة الحال سبباً في التفكير في المستقبل، وما إذا كان الوقت قد حان لترك المسؤولية للجيل القادم». بعض المشككين والمصطادين في الماء العكر رأوا أن المرض مجرَّد حجة لا أقل ولا أكثر. السبب في رأيهم أن التنحي جاء بعد انتشار صور للأمير فريدريك مع نجمة المجتمع المكسيكية جينوفيفا كازانوفا، ومزاعم عن علاقة حميمة بينهما.
هؤلاء رأوا في التنحي صفقة ذكية قامت بها الملكة لإرضاء زوجة ابنها وتجنيب القصر الدنماركي فضيحة قد تثير بعض الشوشرة حتى إن لم تكن صحيحة. كان العرش هو الثمن. وسواء كان السبب صفقة أو رغبة في الراحة والاستمتاع ببقية العمر في سلام، فإن الشعب الدنماركي بقدر ما تفاجأ بالخبر، تلقّاه بترحاب لما تتمتع به الأميرة ماري من احترام وتعاطف. كما أن الأمير فريدريك يتمتع بشعبية لا يستهان بها.
بيد أن هذا لا يمنع أن القرار كان صدمة للمعجبين بأسلوب الملكة البالغة من العمر 83 عاماً، والعاشقين لشخصيتها الجانحة للفن والغرابة. قد تكون من جيل قديم وتعشق أي شيء يتعلق بالماضي والآثار، لكن لا شيء في حياتها مُكبَّلاً بالتقاليد أو التمسك بالماضي إلى درجة التضحية بالهوايات الجميلة والاهتمامات الحياتية اليومية. ظلت تمارس هواياتها من دون شرط أو قيد. فهي لم ترَ أبداً أن حياتها الشخصية يمكن أن تؤثر أو تتناقض مع دورها كملكة. فهي رسامة لها إسهامات كثيرة ومترجمة كتب، منها كتاب عن سيمون دي بوفوار، كما شاركت في عدة اكتشافات أثرية، بل صممت ملابس وأزياء خاصة بها. في عام 2007 مثلاً حضرت حفل عيد ميلاد سونيا، ملكة النرويج السبعين بمعطف من البلاستيك المطبوع بالورود، الذي يستعمل عادةً في طاولات الحدائق والهواء الطلق. قالت إنها استقصدت من خلاله أن تُضفي على المناسبات الصيفية بعض الفرح والبهجة عندما فاجأوها الأمطار وتتلون السماء بالرمادي. بقدر ما أثار المعطف استغراب البعض، وأثار إعجابهم أيضاً لأنه كشف الجانب الفني والجامح في شخصيتها. وصل إعجاب مصمم دار «بالنسياغا» ديمنا فازاليا، إلى حد أنه استلهم منه إطلالة مشابهة في عرض علامته الخاصة «فيتمون».
لم يفُت أسلوبها الخاص مجلة «فوغ» التي وصفتها بأيقونة موضة لم تأخذ حقها. وصفت أسلوبها بأنه مزيج من الفانتازيا والتاريخ. كانت أيقونة موضة من نوع ملكيّ وديمقراطيّ في الوقت ذاته، وهو ما كشفت عنه صورها طوال فترة حكمها الممتدة إلى 52 عاماً.
بعد إعلانها تنحيها، فتحت الشهية لاكتشافها ومعرفة المزيد عنها. ربما لأنها كانت تعيش في ظل الأسرة المالكة البريطانية التي كانت تستحوذ على الاهتمام الإعلامي. واللافت في هذا الاكتشاف أن هناك تقاطعات كثيرة تربط بين العائلتين الدنماركية والبريطانية، على رأسها أن صلة قرابة تربط مارغريت والراحلة إليزابيث الثانية. فالاثنتان تنحدران من نسل الملكة فكتوريا والأمير ألبرت، كما أنهما أكثر ملكتين تحظيان بالحب والتقدير على مستوى شعبيهما والعالم على حد سواء، إضافةً إلى أن الموضة جمعتهما. فالاثنتان تتمتعان بذوق مطبوع بالغرابة يجسّده تفضيلهما الألوان المتوهجة والقبعات المثيرة، التي كانت تُنتقى لتمييزهما عن المحيطين بهما. الفرق أنه بينما تتميز الملكة مارغريت بشخصية جامحة لا تتقيد بالبروتوكول، وهو ما تشير إليه صورها وهي تدخن بشراهة وبشكل علنيّ، فإن الراحلة إليزابيث الثانية كانت أكثر التزاماً ومحافظةً.
ومع ذلك كانت الملكة مارغريت تردد دائماً أنها معجبة بالملكة إليزابيث الثانية وتقتدي بها. تقول في أحد تصريحاتها «عندما كنت صغيرة، قال لي والداي تعلمي من بريطانيا». وهذا ما فعلتُه. جعلت قريبتها «ليليبيت» قدوتها كما تعلمت من تجاربها، إذ كانت تسارع إلى إغلاق أي باب يمكن أن تدخل منه الدراما إلى قصرها حتى وإن تطلب الأمر تجريد أحفادها من ابنها الثاني يواكيم من ألقابهم، والأهم من هذا أنها لم تفتح المجال أن تسرق منها التزاماتُها كملكة لذَّةَ العيش كامرأة وفنانة.
السؤال اليوم هو: كيف سيختلف أسلوب ملكة الدنمارك اليوم عن ملكة الأمس؟ والجواب بكل بساطة سيكون بتوديع الأسلوب المتمرد واستقبال الأناقة الكلاسيكية الهادئة. التناقض لافت بسبب فارق السن بينهما. فواحدة في الـ83 من العمر والأخرى في 51. وهو ما يجعل الصورة تبدو معكوسة. المقصود هنا أنه يُفترض أن تكون ملكة اليوم، ماري هي الأكثر جرأة وليس العكس. لكن الغريب أن الهدوء والتحفظ من أهم سماتها واختياراتها.
فهي كلاسيكية وتنتبه إلى التفاصيل بدقة متناهية. ظهر هذا منذ أول يوم دخلت فيه القصر الدنماركي حين اختارت فستان زفافها من أوف فرنك، وهو مصمم دنماركي مع أنه كان بإمكانها أن تختاره من أي ماركة عالمية. نجاحها في نيل احترام وإعجاب الشعب الدنماركي امتدت تأثيراته إلى بريطانيا، إذ يقال إن كايت، أميرة ويلز، تقتدي بها في الكثير من الأمور؛ من الأزياء إلى طريقة التعامل مع البروتوكول وتربية الأطفال.
في أحد لقاءاته وصف المصمم الراحل كارل لاغرفيلد كلاً من كايت ميدلتون وماري ب"الأختين" نظرا لتشابه ملامحهما وإطلالاتهما. والحق أن كايت، أميرة ويلز، ومنذ أن بدأت تقتدي بالأميرة ماري، سواء بتطويل فساتينها تحت الركبة أو تبني التايورات والمعاطف المفصلة، ارتقت بأسلوبها إلى مرحلة جديدة من الأناقة والنضج. مثل ماري أيضاً تتبنى كايت أسلوباً بسيطاً يمكن لأي امرأة أن تتّبعه للنهار والمناسبات العادية، لكن للمساء فإنهما تتألقان في فساتين سهرة من ماركات عالمية تعكس مكانتهما وطموحاتهما في الوقت ذاته.
الاثنتان أيضاً تحرصان على تدوير أزيائهما، وإعادة ارتدائها في عدة مناسبات بعد إجراء تغييرات طفيفة عليها لتجديدها. الملكة ماري مثلاً استعملت فستان السهرة المخمليّ الأحمر الغامق، الذي ظهرت به في حفل آخر السنة ما لا يقل عن ثلاث مرات، وكلها في نفس المناسبة لاستقبال عام جديد، كأنها تتفاءل به. أما في حياتهما العادية، فهما تمزجان الغالي والماركات العالمية بالرخيص من المحلات الشعبية. فبينما تشتهر كايت بميلها لعلامات مثل «زارا»، تميل ماري لعلامات دنماركية بِنيّة دعمهم تماشياً مع دورها راعيةً رسميةً لأجندة الموضة العالمية، وهي نفس المؤسسة التي تدير أسبوع كوبنهاغن للموضة.