ينسى الجالس في وسط مدرّجات «استاد لوسيل» لـ25 دقيقة، أنه متواجدٌ في ملعبٍ لكرة القدم. يغيب العشب الأخضر وتتوارى شِباك المرمى وتصمت صفّارات الحُكّام، لتتقدّمَ المشهدَ صحراء نبتت في رمالها واحة من الورود، وأضاءت سماءها نجوم الأمل ودوت فيها مفرقعاتُ الترحيب بضيوف كأس آسيا لكرة القدم، التي تنظّمها دولة قطر بنسختها الـ18.
لحفل الافتتاح الذي يمتدّ نصف ساعة ويقف خلف تنفيذه 1600 شخص، أرادت الجهة المُنتجة «استوديوهات كتارا» رسائلَ إنسانية هادفة، تمتدّ من أدنى الشرق إلى أقصاه. وللغاية، فقد نهل فريق العمل من كتابٍ يضرب عميقاً في التراث الأدبيّ والفلسفيّ الآسيويّ عموماً والعربيّ خصوصاً؛ «كليلة ودمنة».
«الفصل المفقود من كليلة ودمنة»
العرضُ الموسيقيّ والبَصريّ الضخم هو امتدادٌ للحكاية، ويحمل عنوان «الفصل المفقود من كليلة ودِمنة». بحكمته المنبثقة من الهند والعابرة إلى الفُرس ثم إلى العرب والعالم من خلال الترجمات، يدور لبُّ الرسالة حول مفاهيم إنسانية كاحترام الآخر وتقبّل اختلافاته الثقافية والاحتفاء بها.
قبل الدخول إلى أرض الملعب الذي استحالَ مسرحاً ضخماً، تتحضّر الشخصيات في الكواليس. ليست مهمةً سهلة أن يعتمر 24 ممثلاً رؤوس حيوانات صُنعت خصيصاً في جنوب أفريقيا من أجل هذا العرض، وذلك على أيدي 14 حِرَفياً. كلٌ من أبطال أسطورة «كليلة ودمنة» يمثّل دولةً آسيويّة من الدول المُشارِكة، وقد تطلّبَ الأمر أبحاثاً لمعرفة الحيوانات التي ترمز إلى تلك البلاد.
هنا أسدٌ يمازح زميله الدبّ، وهناك طاووسٌ أزرق يتباهى بجناحَيه الملوّنين، أما تنّين كومودو الإندونيسي فيأخذ قسطاً من الراحة جلوساً لأن الزيّ ثقيل. صُنعت رؤوس الحيوانات وأزياؤها بحِرَفيّة ودقّة عاليتَين، وقد استغرق تحضيرها 4 أشهر على ما يخبر أحد أعضاء الفريق «الشرق الأوسط». أما الممثلون الذين يرتدونها فآتون من مختلف أنحاء العالم؛ بعضهم من روسيا، وصربيا، وكوريا الجنوبية، فيما قدم آخرون من عدد من الدول العربية.
ذكاء بشريّ مائة في المائة
على كثبان الرمل التي تفترش أرض الملعب وبين آلاف أوراق الورد المتناثرة فوقها، تقف الشخصيات مستعدّةً لانطلاق صفّارة العرض. العدّ العكسيّ من 10 إلى 1 يُتلى باللغة العربيّة، ليصدح بعد ذلك صوت عبير نعمة بشخصية «ثانون». عن هذه الإطلالة التي مزجت فيها الغناء والأداء التمثيلي، تقول الفنانة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط» إنها مدعاة فخر بالنسبة إليها. «لهذه المشاركة قيمة إنسانية كبيرة خصوصاً في هذه الفترة الأليمة التي تمرّ بها منطقتنا»، تضيف نعمة التي رأت في العمل رسالة عدالة وصداقة وإنسانية، في وقتٍ العالم هو أحوَج ما يكون إلى صداها الإيجابي.
صحيحٌ أن التكنولوجيا لعبت دوراً كبيراً في العرض الافتتاحيّ، إلا أنّ القيّمين عليه يؤكّدون أن الذكاء البشريّ وحده تولّى التفاصيل من ألفها إلى يائها، من دون الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. للأزياء مصمّموها الذين أعدّوا تصاميم سينمائيّة تذكّر بأفلام الفنتازيا، ومعظمها مستوحى من الثقافات الآسيوية القديمة. وللديكور مهندسوه الذين لم يكتفوا بكثبان الرمل وواحة الورد، بل رفعوا 5 مرايا ضخمة وسط الملعب، بشكلٍ يحاكي خشبات المسارح العالمية، هذا إلى جانب المؤثرات البصريّة والضوئيّة الخاصة.
في هذا الإطار، يوضح المنتج المنفّذ للعمل محمود حماقي أن مستوى العرض لا يقلّ شأناً عن حفلات افتتاح الألعاب الأولمبية. ويلفت حماقي إلى أنّ التحضير بدأ منذ سنة تحديداً، أي فور الانتهاء من فعاليات كأس العالم 2022؛ «لم نُرِد عرضاً اعتيادياً ولا تقليدياً، بل كان الهدف إحياء تراث رمزيّ مع الحفاظ على عنصر الإبهار».
من الملعب إلى المسرح
يمزج النص ما بين الشعر والفلسفة، وهو يستقي من روح «كليلة ودمنة» ليضفي عليها لمسةً إنسانية هادفة وعميقة. تقوم الرؤية وفكرة السيناريو التي وضعها الرئيس التنفيذي لاستوديوهات كتارا أحمد الباكر، على ابتداع فصل جديد من الكتاب الأصليّ، يشجّع الناس على الإيمان بأنفسهم وبأهدافهم، رغم غرابة ما يصادفون في الطريق. وبقلم الكاتبة الكويتية هبة مشاري حماده، تحوّلت القصة إلى «ميوزيكال» بأغانٍ على درجة عالية من الإنسانية، تعكس الرسائل بشكلٍ ترفيهيّ جذّاب.
كما تتآخى حبّات الرمل لتصنع صحراء، وكما تتلاحم أوراق الورد لتصير وردةً، يمكن للبشر أن يفعلوا. هذا ما تتمنّاه الأغنية حين تصدح: «سأصفّق لك فصفّق لي»، أو عندما تهتف: «لنقترب من بعض كتفاً إلى كتف، ولنحبّ بعضنا البعض حتى نكون الهدف».
منذ انطلاق النغمة الأولى، تتّضح الضخامة الموسيقيّة. يقرّ المؤلّف والمنتج الموسيقي المصري إيهاب عبد الواحد، الذي تعاون توزيعاً مع الفنان نادر حمدي، وعزفاً مع أوركسترا قطر الفلهارمونية، بأنّ «افتتاح حدثٍ عالميّ خاص بكرة القدم بواسطة قصة مثل (كليلة ودمنة) شكّل تحدياً صعباً». بسرعةٍ قياسية تطلّبت سهراً وتفرّغاً كاملاً، أُنجزت الموسيقى خلال شهرَين. ويلفت عبد الواحد إلى أن «التركيز انصبّ على صناعة ألحان ذات مستوى عالمي تستطيع أن تلمس المتفرّجين أينما أتوا، شرط أن تبقى وفيّة للروح العربية».
| من حفل افتتاح #كأس_آسيا2023 في ملعب لوسيل. pic.twitter.com/eKHkoZr0Qh
— الشرق الأوسط - رياضة (@aawsat_spt) January 12, 2024
شكّل حفل الافتتاح لقاءً جامعاً لمواهب عربية، فإضافةً إلى عبير نعمة من لبنان قدّم عددٌ من الفنانين أصواتهم وأداءهم التمثيلي لـ«الفصل المفقود من كليلة ودمنة»؛ في طليعتهم حمود الخضر من الكويت، وفهد الحجاجي وناصر الكبيسي ومشعل الدوسري من قطر.
وبما أن «جمال الحكاية يضاهي روعة الأهداف»، على ما يقول أحد المقاطع المغنّاة، فإنّ العرض لن يتوقّف عند حدود استاد لوسيل. يكشف القيّمون على استديوهات كتارا أنّهم في صدد تطوير العرض إلى مسرحية موسيقية متكاملة، تمتدّ لساعتَين من الوقت. حُدّد موعد الافتتاح المبدئي في الربع الأول من عام 2025، على أن تنطلق المسرحية من الدوحة إلى عواصم خليجية وعربية وأجنبية. أما الهدف الأساسي من ذلك، فهو سرد حكاياتٍ شرقية وعربية من منظور عربي، وبصناعةٍ محلّية.
تحيّة لفلسطين
قبل أن تنسحب الرمال وتتطاير أوراق الورد استعداداً لبدء المباراة، قُدّمت باقة الختام إلى غزّة وفلسطين. بصوت الفنانة القطرية الشابة دانة المير، صدحت «الملالة» الفولكلورية، بمرافقة أوركسترالية عصرية إلى جانب الرقصة الفلسطينية التقليدية.
«لطالما حلمت بأن أقدّم صوتي لفلسطين، وعظيم جداً أن يتحقق الحلم ضمن حدث كرويّ عالمي في الدوحة». هكذا تختصر المير تأثّرها بالمُشاركة، هي التي افتتحت بصوتها الأوبرالي كأس العالم 2022.