عن دار «التكوين»، صدرت مجموعة قصصية جديدة للكاتب العراقي حيدر المحسن، وهي بعنوان «رائحة صنوبر قديم».
من أجواء المجموعة:
فراشة
الجواميس تعوم ولا يبين منها غير غلالة سوداء ترسمها موجات متراكضة. يا لها من مخلوقات ساحرة، كأنّه يراها أوّل مرّة! إنّ هيئاتها الضّخمة، بالإضافة إلى اللّمعة الآسرة في عيونها تحفر في دمه حنيناً يكاد يبكيه، وهي تنظر إلى جهة لا يعرف مكانها بالضّبط. هل هي السّماء، أو غابة النّخيل التي تمتدّ فسيحة بجوار النّهر، أو أنّها تتأمّل ناحيةً لا نراها نحن بني البشر؟ الجاموس مخلوق جميل وحكيم، لو تبادل معه الرّأي في أمور حياته ربّما أشار له بالحلّ، وهذا ما لم يفعله أقرب الناس إليه.
لمح حركة بين جذوع النخل أعادت إليه التفكير في وضعه الحالي، وجاءته رشقة من رصاص، ثمّ حلّ صمت ضاع فيه صدى الإطلاقات الأخيرة، ومن جهة النّهر هبّ نسيم نديّ. لا يريد أن يموت وألوان جواميسه تملأ عينيه، ولا يريد أن يموت عدوّه كذلك. إنّه في الحقيقة لا يريد أن يموت أحدٌ في العالم. آنذاكَ تحرّكت في قلبه رغبة قويّة في أن يتصالح مع غريمه. نادى بأعلى صوت:
- يا حسين، هل يمكننا التفاهم؟
سمع الصّدى يتردّد في الفضاء. صاح ثانيةً، متودّداً هذه المرة:
- أنت صديقي وابن عمي. أنت أخي. منْ يصدّق أنّنا نتقاتل منذ الأمس؟
مرّت لحظات سعيدة وهو في حال سلام كامل مع النّفس، سلام يسع العالم كلّه. تابع يقول بصوت جهوري:
- لا داعي للقتال، يمكننا أن نحتكم إلى أيّ أحدٍ تختاره من الأقارب.
دوّت رصاصتان ما إن انتهى من كلامه، ولم تصبْه لحسن الحظّ لأن إحداها كسرت غصن شجرة الصّفصاف الذي يمسّ صدغه، في حين أصابت الثّانية جذعها. إنّ لدى ابن عمّه إرادة إجراميّة، فهو يرفض الصّلح أبداً. علا صوت أذان الظّهر من جامع القرية، وفكّر في أن يطلق النّار، ويجري في أثناء ذلك بطريقة الحبْو على أربع إلى الجامع ليؤدّي الصلاة، لكنّ الأمر سوف يفسّر بأنّه فرار من المعركة، وهذا يعني الجبن، والموت أهون بكثير من أن يوصف به. حاول أن يناور في مكانه، فزحف مسافة وتسلّق جذع شجرة وركض وهو يطلق النّار، ووجد نفسه بعد حين جنباً إلى جنب مع حسين الذي لم يكن متوقّعاً هذا التّبدّل في الحال، وتأهّب مباشرة لإطلاق النّار، لكنّه كان أسرع في الإجهاز على غريمه.
عصفت ريح قادمة من جهة النّهر، وتدحرجت جثّة القتيل واستقرّت على جانبها الأيمن. هو الشّابّ حسين بكلّ بهاء وجهه، حاجباه مقرونان كأنّه يفكّر، ووجهه طفوليّ ويغطّي خديه زغب متفاوت. كان يبدو مستغرقاً في النوم وبه حاجة غامضة إلى اليقظة. في لحظة، سوف يستنشق الهواء بقوّة، وتعود الحياة إليه. هل يتكلّم؟ وإذا تكلّم، ماذا يقول، وكان هو السبب وراء هذه الكارثة؟ يا لعناده وسوء خلقه...!
زحف ضياء الشّمس على جسد الفتى وثيابه ملوّثة بالوحل، والدّماء تصبغ شعره. رصاصتان غائرتان في الرّأس، وأخرى تثقب عنقه. ثمّة دخان كثيف يتصاعد من أحد المصانع القريبة، وعلى الأرض بدأ النّمل يتجمّع حول سيل الدّماء الحمراء النقيّة. فراشة سوداء الجناحين راحت تتوغّل في العشب. سكنتْ. فتحت جناحيها وضمّتهما بحنان آسر، وفتحتهما ثانيةً وضمّتهما. الفراشة مرسومة بالقلم ذاته الذي أبدع الجواميس. الرّياحُ تهبّ رماديّة من حوله، وشعور بالغيظ والضّيق يخنقه. حاول أن يتمالك نفسه ويكون طبيعيّاً أمام مشهد الموت الذي يراه أوّل مرّة. رفرفت الفراشة بجناحيها وابتعدت. وفي تلك اللّحظة علا صوته بالبكاء، وشقّ نشيجه الأرجاء.