كردستان العراق: نقص الرواتب «ينهك» السكان والموظفون يلوذون بـ«الأجر اليومي»

الخلافات السياسية بين بغداد وأربيل تلقي بظلالها على سوق العمل والخدمات العامة

مواطنون في إحدى ساحات أربيل عاصمة إقليم كردستان (أ.ف.ب)
مواطنون في إحدى ساحات أربيل عاصمة إقليم كردستان (أ.ف.ب)
TT

كردستان العراق: نقص الرواتب «ينهك» السكان والموظفون يلوذون بـ«الأجر اليومي»

مواطنون في إحدى ساحات أربيل عاصمة إقليم كردستان (أ.ف.ب)
مواطنون في إحدى ساحات أربيل عاصمة إقليم كردستان (أ.ف.ب)

ليس جديداً أن تراود الدهشة العراقيين الذين يسافرون إلى مدن إقليم كردستان، خصوصاً من يتجول فيها لأول مرة.

غالباً ما تبدأ تلك المشاعر بعد تجاوز حدود محافظات كركوك وديالى ونينوى المحاذية للإقليم، بالنظر لحالة الانضباط العامة بالنظام والطرق النظيفة والمنسقة والمزروعة بعناية، خلافاً لحال معظم الطرق في بقية المدن.

كما أن الطبيعة الجغرافية الساحرة والمتنوعة، حيث المرتفعات الجبلية التي يغطي الثلج بعض قممها، إلى جانب الأشجار والمساحات الخضراء، تزيد من حالة الانبهار التي يشعر بها الزائرون.

بعد دخول مراكز محافظات الإقليم، وهي السليمانية، أربيل، ودهوك، سيشعر الزائر باختلاف ملحوظ مقارنة بالمدن التي جاءوا منها حتى لو كانت العاصمة بغداد، لجهة الطراز المعماري للمباني وألوانها المتناسقة وشوارعها النظيفة.

اللافت في محافظات إقليم كردستان أيضاً، انحسار المظاهر العسكرية في الشوارع وعدم وجود نقاط التفتيش داخل المدن واقتصار ذلك على رجال الشرطة والمرور، خلافاً لبقية المدن.

جانب من الطريق البرية الرابطة بين أربيل والسليمانية (الشرق الأوسط)

مدن نظيفة ولكن

مظاهر النظافة والأناقة والنظام التي تتمتع بها معظم مدن الإقليم تخفي متاعب وهموماً غير قليلة يعيشها الموظفين الكرد، فالشكوى من صعوبة تحمُل الحد الأدنى من تكاليف الحياة اليومية عبارة شائعة على الألسن هناك، بسب نقص فادح في الرواتب التي يتأخر صرفها كل 3 أشهر، في أفضل الأحوال.

في سوق السليمانية القديم القريب من «الجامع الكبير»، وبمجرد أن تدخل مقهى صغيراً في الجوار يرتاده موظفون متقاعدون، يمكنك من الوهلة الأولى أن تشعر بغضبهم وانزعاجهم من تأخر الرواتب، بعضهم لا يوفر نقده للحكومتين في بغداد وأربيل على حد سواء.

يقول «كاك محمد» الذي تحدثت معه «الشرق الأوسط»، إنه تقاضى آخر مرتب، على قلته، أواخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وما زال بانتظار «فرج» أن تصل رواتبه المتأخرة.

ويضيف محمد، وهو موظف متقاعد، أن «سنوات طويلة من الخدمة في صفوف البيشمركة ذهبت أدراج الرياح (...)، لا نتلقى الاحترام الواجب، رواتبنا تتأخر باستمرار، وظروفنا المعيشية صعبة للغاية».

ويعتقد محمد أن مدن الإقليم محظوظة بالنشاط السياحي، مع تدفق الزائرين العرب الذين يسهمون في تحريك سوق العمل المتأثرة هي الأخرى بنقص الرواتب.

وأعلنت هيئة السياحة في كردستان، نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أن 7 ملايين و500 ألف شخص زاروا إقليم كردستان ومناطقه السياحية، خلال 11 شهراً من عام 2023، وقالت إن «العدد يجسد رقماً قياسياً».

ودفعت الأوضاع المعيشية الصعبة الموظفين في الإقليم إلى تدابير مختلفة لتمشية متطلباتهم عائلاتهم، بينها شراء الحاجيات الأساسية بالآجل، وبات شائعاً في مدن الإقليم أن تجد في عموم محلاتها «دفاتر الديون» وهي تدون مئات الأسماء.

ويشكل تأخر رواتب موظفي الإقليم ضغطاً هائلاً على السلطات الكردية، سواء في السليمانية التي تخضع لنفوذ حزب «الاتحاد الوطني» أو في محافظتي أربيل ودهوك اللتين تخضعان لنفوذ الحزب «الديمقراطي» الكردستاني.

في السليمانية تحديداً، تتواصل الاحتجاجات الشعبية لقطاع الموظفين، لا سيما الكوادر الصحية والتعليمية، على تأخر رواتبهم، وفي الأشهر الأخيرة باتت تصدر دعوات صريحة من طيف واسع من الموظفين هناك، بأن تتولى الحكومة المركزية في بغداد صرف مستحقاتهم بشكل مباشر، لضمان انتظامه كما يقول من تحدثت إليه «الشرق الأوسط».

وكانت السلطات الصحية في السليمانية قد أعلنت صيف العام الماضي أن «آخر عجلة إسعاف لديها خرجت عن الخدمة بسبب نقص الوقود»، كما أن الموظفين أضربوا عن العمل بسبب عدم صرف رواتبهم».

مشهد أمامي لقلعة كالار التاريخية جنوب السليمانية (الشرق الأوسط)

بغداد هي المسؤولة

في مقابل الانتقادات الشعبية للحكومة والإدارات المحلية في الإقليم جراء تأخر وصول المرتبات، تحمل حكومة الإقليم بغداد المسؤولية من خلال «عدم التزامها ببنود الموازنة العامة، وإيصال مستحقات الإقليم في وقتها المحدد».

ورغم عشرات الوفود الكردية التي زارت بغداد خلال السنوات الأخيرة للتوصل إلى صيغة تفاهم حول حصة الإقليم من الموازنة العامة، فإن ذلك لم يأت بثماره المرجوة، وظلت الأمور معلقة على ما يشبه الأحجية التي تعكف بغداد وكردستان على حلها دون جدوى»، على حد تعبير سياسي كردي.

وارتبطت المشكلة أصلاً بما يقوله مسؤولون في بغداد بأن إقليم كردستان يمتنع عن تسليم حصته المقررة من النفط البالغة 250 ألف برميل يومياً وفق قانون الموازنة الاتحادية.

وتعقدت الأزمة أكثر حين أوقفت تركيا تدفقات نفط إقليم كردستان مطلع عام 2023، بعد خسارة أنقرة قضية تحكيم أمام هيئة دولية لصالح بغداد في نزاع حول قضية تصدير نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي، والإيقاف تسبب بخسارة العراق وإقليم كردستان نحو 5 مليارات دولار.

باعة جوالون في محيط جامع السليمانية الكبير (أ.ف.ب)

اتهامات متبادلة

وتحت ضغط أزمة الرواتب والهجمات الصاروخية التي تشنها الفصائل المسلحة على قاعدة «حرير» في أربيل، شن المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان بيشوا هورماني، الأسبوع الماضي، هجوماً لاذعاً على بغداد، وحمّلها مسؤولية الهجمات الصاروخية، واتهمها بتجويع الشعب الكردي.

وقال: «الحكومة العراقية صامتة وعاجزة ضدهم، لكنها تتمتع بالشجاعة الكافية في قطع قوت شعب كردستان، ويجري تمويل هذه المجاميع بنفس تلك الأموال».

وفي المقابل، أبدت بغداد استغرابها من هذه الاتهامات، وقال المتحدث باسم الحكومة باسم العوادي، إن «تصريح المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان العراق تضمن شتى الاتهامات غير الواقعية وغير المسؤولة، لما ورد فيه من «خلط لمعلومات مضللة وأكاذيب باطلة»، خصوصاً «الادعاء بتجويع المواطنين في الإقليم، متناسياً الأرقام الرسمية للتمويلات المالية باعتراف موظفي الإقليم».

«شدة اليأس»

في الطريق عبر مصيف دوكان وصولاً إلى عاصمة الإقليم أربيل، يستمر مشهد الجبال والسفوح الخضراء، وهو مشهد لا نظير له في وسط البلاد وجنوبها، وصولاً إلى نقطة التفتيش الفاصلة بين السليمانية وأربيل، التي يتوجب فيها على العابرين من الكرد والعرب الحصول على «تصريح أمني» للإقامة، في مشهد متناقض آخر في إقليم كردستان.

وبسبب التنافس مرة والخلاف مرة أخرى، بين الحزبين الرئيسين في الإقليم، فإن تأثير العلاقة المضطربة بينها يصل إلى مستويات مختلفة، ليس أقلها توحيد العمل بالإطار الأمنية والإدارية بين مدينتي السليمانية وأربيل.

ويقول من تحدثت معهم «الشرق الأوسط»، إن الأزمة المالية وتأخر الرواتب زاد من حجم الانقسام بين الحزبين، ويكاد يتحول ذلك إلى انقسام مجتمعي حاد.

يقول «أوسر أمين» وهو سائق سيارة أجرة، في طريق الخروج من أربيل عند نهاية هذه الرحلة، إن «الموظفين لا يكترثون اليوم لما يقوله السياسيون عن المتسبب الحقيقي بالأزمة المالية، لأنهم نسوا تماماً الاهتمام بوظائفهم، وانخرطوا من شدة اليأس في أعمال بالأجر اليومي».


مقالات ذات صلة

العراق يصف تقلبات السوق الموازية الأخيرة بـ «التذبذب الطارئ»

الاقتصاد رجل عراقي يقود قاربه في نهر دجلة وسط بغداد (أ.ف.ب)

العراق يصف تقلبات السوق الموازية الأخيرة بـ «التذبذب الطارئ»

أكد مظهر محمد صالح، المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي، يوم السبت، أن سعر الصرف الرسمي للدينار مقابل الدولار ثابت عند 1320 ديناراً.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)

الحكومة العراقية الجديدة مفتوحة على المفاجآت

توتر سياسي واسع داخل المعسكر الشيعي الحاكم في العراق بعد التراجع عن إدراج «حزب الله» اللبناني وجماعة «الحوثي» اليمنية على قوائم الإرهاب.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي مقاتلون حوثيون خلال استعراض في صنعاء باليمن 21 سبتمبر 2024 (رويترز)

الرئاسة العراقية تنفي علمها بقرار اعتبار «حزب الله» والحوثيين «جماعتَين إرهابيتَين»

نفت رئاسة الجمهورية العراقية علمها أو مصادقتها على قرار اعتبار جماعتَي «أنصار الله (الحوثيين)»، و«حزب الله» اللبناني إرهابيَّتين، وتجميد أصولهما وأموالهما.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)

العراق يصنف «سهواً» حلفاء إيران «إرهابيين»... وارتباك داخل «التنسيقي»

في غضون ساعات، تراجع العراق عن وضع «حزب الله» وجماعة «الحوثي» على قائمة إرهاب، بعد ارتباك وذهول بين أوساط حكومية وسياسية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي مناصرون يحملون أعلام «حزب الله» اللبناني في بيروت (رويترز)

السوداني يوجه بالتحقيق في خطأ يتعلق بقائمة لتجميد أموال شملت «حزب الله» و«الحوثيين»

وجَّه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، اليوم الخميس، بتحقيق عاجل ومحاسبة المقصرين بشأن الخطأ بقرار لجنة تجميد الأموال.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

الشرع: لن نصدّر العنف إلى إسرائيل

الشرع: لن نصدّر العنف إلى إسرائيل
TT

الشرع: لن نصدّر العنف إلى إسرائيل

الشرع: لن نصدّر العنف إلى إسرائيل

رفض الرئيس السوري أحمد الشرع، أمس، مطلب إسرائيل بإقامة منطقة منزوعة السلاح جنوب سوريا، معتبراً أن ذلك من شأنه أن يدخل بلاده في «مكان خطر»، ومؤكداً في الوقت ذاته «(أننا) لسنا معنيين بأن نكون دولة تصدّر العنف، بما في ذلك إلى إسرائيل».

وتعهد الشرع، في حوار على هامش مشاركته في منتدى الدوحة، «محاكمة مرتكبي الجرائم في الساحل والسويداء»، في إشارة إلى مواجهات دموية شهدتها مناطق يقطنها دروز وعلويون في وقت سابق من هذا العام.

وعشية ذكرى مرور سنة على إسقاط حكم الرئيس السابق بشار الأسد، بثت قناة «العربية/ الحدث» تسجيلات مصوَّرة تجمع الرئيس المخلوع بمستشارته لونا الشبل، التي قُتلت في ظروف غامضة عام 2024. وتتضمن «تسجيلات الأسد» ومستشارته سخرية من الجنود السوريين الذين كانوا يقاتلون في صفوف قواته، وشتائم وجهها الرئيس المخلوع لغوطة دمشق (يلعن أبو الغوطة)، كما تتضمن انتقادات للقائد العسكري سهيل الحسن الملقب بـ«النمر»، ولـ«حزب الله» اللبناني.

واعتبر سوريون أن ما كشفت عنه التسريبات بصوت الأسد يشير إلى أنه سقط مرة ثانية الآن في أعين مناصريه والذين قاتلوا إلى جانبه في سوريا ومن دول الجوار، بعدما سقط في المرة الأولى عسكرياً بدخول فصائل المعارضة دمشق، وإطاحة نظامه قبل سنة من الآن.


احتقان متزايد ضد الدولة و«حزب الله»

الدخان يتصاعد في بلدة المجادل في جنوب لبنان إثر استهدافها بقصف إسرائيلي يوم الخميس (أ.ف.ب)
الدخان يتصاعد في بلدة المجادل في جنوب لبنان إثر استهدافها بقصف إسرائيلي يوم الخميس (أ.ف.ب)
TT

احتقان متزايد ضد الدولة و«حزب الله»

الدخان يتصاعد في بلدة المجادل في جنوب لبنان إثر استهدافها بقصف إسرائيلي يوم الخميس (أ.ف.ب)
الدخان يتصاعد في بلدة المجادل في جنوب لبنان إثر استهدافها بقصف إسرائيلي يوم الخميس (أ.ف.ب)

عكست وقفات وتحركات احتجاجية في قرى الحافة الأمامية في جنوب لبنان، احتقاناً شعبياً ضد الدولة و«حزب الله»، على خلفية التأخر في دفع التعويضات للمتضررين، مما اضطر كثيرين إلى الخروج وبدء حياة جديدة خارج قراهم.

تأتي هذه التحركات بعد مرور أكثر من عامين على بدء الحياة المأساوية التي يعيشها سكان البلدات الحدودية، الذين ما زالوا يعانون تجربة النزوح بعدما خسروا منازلهم وممتلكاتهم، ولم يحصلوا على تعويضات إعادة الإعمار بعد، علماً أن الاستهدافات الإسرائيلية لا تزال شبه يوميّة هناك، والأضرار قابلة للازدياد أكثر مع الوقت.

في هذا الإطار، يقول المحلل السياسي علي الأمين، لـ«الشرق الأوسط»، إن بروز مثل هذه التحركات «أمر طبيعي، لأن هذه القرى شبه متروكة»، ويؤكد «أن هذه الاحتجاجات تأتي في وجه من أدار ظهره للناس، وفي ذهن المحتجين أن مواقفه (أي حزب الله) تسهم في إغلاق الأفق أمام أي إمكانية للمعالجة».


انشغال عربي بمنع تهجير سكان غزة عبر رفح

منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة (أ.ف.ب)
منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة (أ.ف.ب)
TT

انشغال عربي بمنع تهجير سكان غزة عبر رفح

منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة (أ.ف.ب)
منظر عام لمخيم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة (أ.ف.ب)

مع مواصلة إسرائيل تدمير ما تبقّى في المناطق الخاضعة لسيطرتها داخل قطاع غزة، استباقاً للمرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار ووسط مشهد غير واضح، انشغلت دول عربية وإسلامية بالتصدي المسبق لخطر تهجير الغزيين عبر رفح.

وقال وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، خلال منتدى الدوحة، أمس، إن «معبر رفح لن يكون بوابةً لتهجير الفلسطينيين، بل فقط لإغراق غزة بالمساعدات الإنسانية والطبية».

وكان مكتب منسق أنشطة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية قد أعلن، الأربعاء الماضي، فتح معبر رفح «خلال الأيام المقبلة حصرياً لخروج سكان قطاع غزة إلى مصر بالتنسيق مع القاهرة».

إلى ذلك، شدد وزراء خارجية كل من السعودية ومصر والأردن والإمارات وإندونيسيا وباكستان وتركيا وقطر، مساء الجمعة، على «الرفض التام لأي محاولات لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه».