الشعر العربي يودّع راعيه وحاضن مبدعيه... عبد العزيز البابطين

رجل الأعمال الذي سخّر ثروته لرعاية الأدب من أجل التعايش والسلام

عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله
عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله
TT

الشعر العربي يودّع راعيه وحاضن مبدعيه... عبد العزيز البابطين

عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله
عبد العزيز سعود البابطين في ذمة الله

فقدت الكويت، والخليج، والعالم العربي، رجل الأعمال والشاعر عبد العزيز سعود البابطين، الذي يُعدُّ صرحاً للأدب والشعر، وحاضناً للإبداع الشعري العربي، ورائداً في مسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات، وفاعلاً مهماً لترسيخ ثقافة السلام في جميع أنحاء العالم، ورجل الأعمال الذي سخرّ جزءاً كبيراً من ثروته لرعاية الأدباء وإقامة الأنشطة الثقافة والمواسم الثقافية في العالم العربي ودول أوروبا والعالم.

وكان آخر مشاريعه الإعلان عن مسابقة تقدمها جائزة البابطين للكتابة الشعرية عن مأساة غزة، التي استجاب لها عشرات الشعراء العرب، ولم تعلن نتائجها بعد.

يُعد الشاعر عبد العزيز سعود البابطين صرحاً للأدب والشعر وحاضناً للإبداع الشعري العربي

وقد توفي البابطين في مزرعته بالشيط، في السعودية، عن 87 عاماً، قضاها في خدمة الثقافة والأدب ورعاية الإبداع الشعري في العالم العربي، وهو رئيس مجلس أمناء مؤسّسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافيّة، ورئيس مجلس أعضاء مؤسّسة البابطين الثقافيّة بالاتّحاد الأوروبي. كما أنّه عضو في العديد من المجالس والجمعيّات والرابطات الناشطة في مجالات مختلفة.كما يُعدّ الراحل من أبرز رجال الثقافة والشعر في المشهد الثقافي الكويتي والعربي وأصدر ثلاثة دواوين شعرية: «بوح البوادي» 1995، و«مسافر في القفار» 2004، و«أغنيات الفيافي» 2017.

والبابطين حائز على أكثر من 14 شهادة دكتوراه فخرية عربية وأجنبية، من قبل عدد من الجامعات المرموقة تقديراً من دوائرها لجهوده في المجال الثقافي والعمل الخيري الإنساني ونشاطه الداعم للسلام وحوار الثقافيات، كما نال العديد من الأوسمة الرفيعة والدروع والجوائز تقديراً لما قام به من جهد في ميدان الثقافة في المحافل العربيّة والدوليّة.

ونعت الأمانة العامة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت رجل الأعمال الأديب والشاعر عبد العزيز سعود البابطين، حيث نقلت الأمانة العامة في بيان لها تعازي وزير الإعلام ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عبد الرحمن المطيري لذوي الفقيد ومحبيه على هذا المصاب.

كانت مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، والجائزة التي تحمل الاسم ذاته، عنوانين لحشد جمهور الشعراء العرب وتشجيع إبداعهم وإقامة الفعاليات الدورية والمسابقات الشعرية التي تكرم مسيرتهم، وكان أحد أهم إنجازاته إصدار معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، وإصدار كتب محققة عن الشعر العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن طباعة العديد من الكتب والبحوث في كل فنون الأدب واللغة.

كان البابطين رائداً في مسيرة الحوار بين الثقافات والحضارات وفاعلاً مهماً لترسيخ ثقافة السلام في جميع أنحاء العالم

حديث لـ«الشرق الأوسط»

في حوار أجرته معه «الشرق الأوسط» في أكتوبر (تشرين الأول) 2014، قال عبد العزيز البابطين متحدثاً عن انطلاق مؤسسة البابطين للإبداع الشعري: «كانت انطلاقة المؤسسة عام 1989 البذرة التي أنبتت الجذع فالأغصان. كانت البذرة عبارة عن تأسيس لمشروع أدبي شعري تحديداً. ثم وجدنا أن الأغصان تتفرع في اتجاهات مختلفة يصب جميعها في خانة الأدب والفكر الإنساني وتلاقي الحضارات. وألفينا أنفسنا ننشئ مراكز متعددة، مثل (مركز البابطين لحوار الحضارات) في جامعة قرطبة، و(مركز البابطين للترجمة) في بيروت، و(مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية) في جامعة الإسكندرية، و(مركز الكويت للدراسات العربية والإسلامية) في جامعة الإمام الشافعي بجزر القمر. وأقمنا دورات في اللغة العربية وعلم العروض، فيما يزيد على 40 جامعة في مختلف الدول العربية والإسلامية. ونؤسس اليوم لكراسٍ للدراسات العربية في الجامعات الأوروبية. وهذا يعني أن الطموح يتجدد كل مرة مع تجدد الحياة، ووجود معطيات جديدة تستوجب منا النهوض بمسؤولياتنا الثقافية تجاهها».

وفي سؤال عن نجاح المؤسسة فيما فشلت فيه وزارات الثقافة في العالم العربي، لجهة جمع شمل الأدباء والشعراء والمثقفين، قال: «النجاح كان لافتاً ومتميزاً، بدليل الاستمرارية التصاعدية وليس العكس. ولا أدري ما هو الوضع بالنسبة لوزارات الثقافة، لكي أعتقد أن العمل الثقافي للهواة أنجح من العمل الثقافي للموظفين الرسميين في الوزارات، لأن هاوي الثقافة يعطيها بشغف ومحبة، ويكرس لها وقتاً وجهداً كبيرين، ليس فقط في أوقات العمل الرسمي الذي يخصصه الموظف عادة، فالهواة يعملون طيلة النهار، وأثناء الليل أحياناً. أما الموظفون في الوزارات، فيلتزمون ساعات العمل المحددة، لذلك تتحول العلاقات الثقافية في حالة الهاوي إلى ما يمكن اعتباره علاقة عائلية منسجمة، فالضيوف الذين يحضرون أنشطتنا يشعرون معنا بجو أسري، وكأن كل واحد فيهم أسهم في تكبير عمل المؤسسة بجهوده الأدبية والفكرية. الأمر الآخر هو أن الوزارات مضطرة للعمل الثقافي بحكم وظيفتها، بينما في الثقافة الخاصة التي يؤسسها أفراد، لا أحد يجبرهم على ذلك، بل يقومون به بحب ورغبة حقيقية في العمل الثقافي».

كما تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن مسيرة التطور لمؤسسة البابطين من مجرد مانحة لجوائز للشعراء لتصل إلى حوار الحضارات، قائلاً: «في بداية إنشاء المؤسسة، اقتصر الأمر على حفل تكريم للفائزين بجوائزها المتمثلة في أفضل قصيدة، وأفضل ديوان، وأفضل كتاب في نقد الشعر، إلى جانب جائزة تكريمية لشاعر من الرواد. ثم أصبح الأمر مصحوباً بندوة أدبية عن شاعر له تاريخ عريق. بعد ذلك، في عام 2004، أدخلنا ندوة عن حوار الحضارات بدأناها في الأندلس مهد تعايش الحضارات والديانات السماوية إبان الحكم العربي الإسلامي. ومن ثم بدأت التوسعات الكثيرة التي ذكرتها في إجابة سابقة، وإنشاء المعهد العربي الأوروبي لحوار الحضارات في إيطاليا».

الشعر من أجل السلام

وبعد أن نظّم ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي»، سألته «الشرق الأوسط» هل يمكن للشعر أن يوفّر للناس وللمبدعين خاصة سفينة تعبر بهم عواصف الصراعات المحتدمة في العالم العربي اليوم؟ فأجاب: «نعم، وجوابي هنا عملي وليس نظرياً، من خلال الملتقى الذي أقمناه في دبي عن الشعر والتعايش السلمي بين الشعوب (2011). فقد قدم الباحثون ندوات تؤكد حقيقة أن الشعر عنصر مهم وحيوي في التعايش بين الأمم، كونه نتاج فكرٍ إنساني متشابه ومتماثل في أذهان كل الشعوب من دون استثناء. والشعر هو المتوغل في وجدان القارئ في أي مكان. وبالتالي يمكن اعتماد الشعر أداة إنسانية للتواصل الحضاري. كما وقف شعراء عرب وأجانب جنباً إلى جنب في الأمسيات الشعرية، وتبين عمق الرغبة المشتركة في العيش بسلام على هذه الأرض».

كما سألته «الشرق الأوسط» قلتم إن «الشعر والحوار هما من نبع واحد»، يمكنهما إخراج الناس «من الخنادق التي حفرت لهم، والكهوف التي حشروا فيها إلى الفضاء الإنساني العام». أليست التصورات هذه رومانسية في عصر الانفجار الدموي للكراهيات؟ فأجاب: «كلما انخرط العالم في صراعات أكثر، كلما ازدادت الحاجة للقريحة الإنسانية المتمثلة بالشعر والأدب الداعي للسلام. أصلاً، ما حاجتك إلى أدب يدعو إلى السلم في أوقات السلم؟ أنت في زمن الحروب تحتاج إلى الشعر الداعي إلى إطفاء لظى الكراهية بين الشعوب، حين تتأجج الصراعات الدامية. والأدب بشكل عام، هو الوحيد الذي لا يتأثر بالخلافات بين الشعوب. فلا أحد يمتنع عن قراءة أشعار شاعر ينتمي إلى بلد يعاديه، لأنه وليد فكر بشري خلاق نحو الإبداع وليس نتاج فكرٍ عسكري أو حربي. وإذا استطعت نشر الأدب الداعي إلى السلم بين الناس، فسوف تتشكل شرائح مناهضة للحروب وداعية للسلام».

لكن الشاعر الذي سخّر الأدب من أجل الحوار والتعايش السلمي قال لـ«الشرق الأوسط» رداً على سؤال عن دور الانقسام السياسي بين المثقفين العرب: «الانقسام السياسي بين المثقفين العرب لا يعيقنا، بل يؤرقنا ويشكل بالنسبة إلينا هاجساً لتلافيه وردم الفجوات بين هؤلاء المثقفين، لعلهم يؤثرون في شعوبهم وفي سياسات بلدانهم لدفعها نحو التقارب لا التناحر. وكل ما نقوم به، يقع ضمن مشروعنا الداعي إلى هذا التقارب، لذلك تجد في دوراتنا وملتقياتنا وأنشطتنا بشكل عام، ضيوفاً من بلدان هي فعلاً في حالة خلاف ونزاع سياسيين، وقد تكون هذه البلدان ذات تاريخ مشترك وثقافة مشتركة، لكن الخلافات السياسية باعدت بين شعوبها. فهم يلتقون في ندواتنا ويتحاورون ويتصافحون دلالةً على أن الثقافة تسمو على الخلافات التي يتسبب بها السياسيون».

أدباء ينعون

نعاه الشاعر الكويتي دخيل خليفة، عبر منصة «إكس» قائلاً: «فقدت الكويت والعالم العربي اليوم رجل الأعمال الشاعر عبد العزيز سعود البابطين، الذي خدم الشعر العربي من خلال مؤسسة البابطين الثقافية التي قدمت مواسم ودورات كثيرة في عواصم عربية وغربية».

كما نعاه الشاعر السعودي جاسم الصحيح قائلاً: «أحرّ التعازي أرفعها إلى الأسرة الثقافية في مؤسسة البابطين والكويت وكل الأقطار العربية والإسلامية في رحيل رائد الثقافة الكبير الشاعر عبد العزيز البابطين».

وأضاف الصحيح عبر منصة «إكس»: «لقد نذر (أبو سعود) نفسه وكلَّ ما يملك لخدمة اللغة العربية في أجمل تجليَّاتها (وهو الشعر) منذُ أنْ فتح عينيه على بحرين: بحر الخليج وبحر القصيدة، فاتَّحَدَتْ في يديه الأشرعةُ والقوافي، المجاديف


مقالات ذات صلة

في بيت منصور الرحباني... غاب «الأستاذ» وبقي العطر والشِّعر والقلم

يوميات الشرق «الشرق الأوسط» تزور بيت منصور الرحباني في مئويّته الأولى (الشرق الأوسط)

في بيت منصور الرحباني... غاب «الأستاذ» وبقي العطر والشِّعر والقلم

عشية انتقالها إلى معرض خاص، كاميرا «الشرق الأوسط» تعاين عن قرب أغراض منصور الرحباني الخاصة، وتلتقط صوراً حصرية من داخل منزله الأشبَه بمتحف.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق اكتشاف نادر ومثير (جامعة أكسفورد)

اكتشاف نسخة نادرة من قصيدة لشكسبير عمرها مئات السنوات

«الاكتشاف المثير» من شأنه مساعدة الباحثين على فهم شعبية الشاعر الكبير ويليام شكسبير خلال العقود التي تلت وفاته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق يوم للاحتفاء بصلاح جاهين (وزارة الثقافة المصرية)

 مصر تخصص يوماً للاحتفاء بـ«عمنا صلاح جاهين»

خصصت مصر اليوم (الأربعاء)، للاحتفال بالفنان والشاعر ورسام الكاريكاتير صلاح جاهين في كثير من المواقع الثقافية عبر معارض تستعيد رسوماته وندوات لقراءة أعماله.

حمدي عابدين (القاهرة )
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
يوميات الشرق الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

من جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري، وحضوره، التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة.

سوسن الأبطح (بيروت)

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق
TT

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

يقول لنا الفلاسفة المعاصرون ما معناه: الفلسفة تعني أن تعيش مع العقل وبالعقل الذي هو وحده الكوني. فالعقل في الغرب أو في الشرق واحد. علم الفيزياء واحد في طوكيو أو الرياض أو القاهرة أو أبوظبي أو نيويورك، إلخ. لا يوجد عقل خاص بالجامعات العربية وآخر خاص بالجامعات الغربية. أما العقائد التراثية فهي خصوصية. فالمولود في التراث الصيني الكونفشيوسي مثلاً غير المولود في التراث المسيحي أو اليهودي أو الإسلامي. ولكن المناهج الفلسفية العقلانية السائدة في الصين هي ذاتها السائدة في كل مكان. العقل واحد للبشرية والتراثات الخصوصية شتى.

هل أصاب هيدغر عندما قال إن الفلسفة هي حصراً إغريقية وأوروبية غربية فقط؟ بالطبع لا. وإلا فماذا سنفعل بفلاسفة العرب كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل، إلخ؟ ماذا سنفعل بفلاسفة الصين والهند؟ ولكن يبقى صحيحاً القول إن الفلسفة في العصور الحديثة بلغت أوجها في الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى. فلا يوجد عند العرب ولا عند الصينيين ولا عند سواهم فلاسفة في حجم ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه، إلخ. ولهذا السبب فإن اليابان التي هي أكبر بلد مترجم في العالم تكلِّف الأساتذة الأكاديميين عندها بترجمة كبار فلاسفة الغرب إلى اللغة اليابانية. فهناك أكاديميون مختصون بترجمة هيغل، وآخرون بترجمة كانط، إلخ. كل أكاديمي ياباني مختص بترجمة أحد فلاسفة الغرب الكبار. وعلى هذا النحو اغتنت اليابان بالفكر الحديث منذ زمن إمبراطورية الميجي: أي إمبراطورية العهد المستنير. عُدْنا إلى التنوير. لا مفرَّ منه. التنوير نجح في اليابان على عكس العالم العربي لأنهم عثروا على تلك الصيغة السحرية التي تجمع بشكل موفق بين التراث والحداثة. أو قُلْ لأنهم عثروا على الحلقة المفرغة، الحلقة الضائعة، التي لا نزال نبحث عنها منذ أيام محمد علي حتى الآن. من هنا سر عذابنا وتخبطنا.

قلنا إن الفلسفة تعني أن نعيش بالعقل، بواسطة العقل. ولكنَّ الفلسفة تعني أيضاً طرح التساؤلات الراديكالية حول جوهر التراث ومعنى الوجود. الفلسفة تساعد على تحرير الروح من ظلماتها وتراكماتها. ليسمح لي القارئ هنا بأن أروي بعض الذكريات الشخصية لتوضيح هذه النقطة. عندما تعرفت على محمد أركون وحضرت دروسه في جامعة السوربون لأول مرة ذُهلت بالفكر الجديد الذي يقدِّمه عن تراثنا الإسلامي العظيم، وفكرت فوراً في كتابة مقالة حول الموضوع وذلك قبل أن أشرع في ترجمته. وهي أول مقالة أكتبها في حياتي. وكانت بعنوان: «جولة في فكر محمد أركون. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». عنوان أصلي وعنوان ثانوي. ثم أرسلتها إلى مجلة «المعرفة» السورية التي كانت إحدى المجلات الشهرية المحترمة في ذلك الزمان. وفوجئت بأنها نُشرت بشكل جيد على الرغم من أنني كنت آنذاك كاتباً مغموراً تماماً. كنت مجرد نكرة من النكرات. بل ليس فقط نشروها دون سابق معرفة شخصية وإنما أرسلوا لي نحو 300 فرنك فرنسي. وهذا ما زاد من سعادتي وانشراحي بطبيعة الحال. بل جعلني أشعر بأني أصبحت شخصاً مهماً ومعتبراً. لكن الشيء الأساسي ليس هنا. الشيء الأساسي يكمن فيما يلي: لقد ذهبت بعدد المجلة إلى أستاذي البروفسور محمد أركون، وانتظرت مقابلته على الباب حتى جاء دوري. وعندئذ دخلت عليه في مكتبه بالسوربون وفي يدي مجلة «المعرفة» وأنا شديد الفخر والاعتزاز بنفسي. وعندما قرأ العنوان دُهش جداً لأني قلت: «نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». لم يكن يتوقع إطلاقاً أنني قادر على إيجاد عنوان باريسيّ طليعيّ من هذا النوع. بل ربما راح يتساءل: هل يدرك هذا الشخص فعلاً ما يقول؟ هل يعرف معنى كلمة أركيولوجيا الفلسفية لا تلك الخاصة بعلم الآثار. أتذكر تماماً ردّة فعله الآن: نظر إليّ من فوق نظارته وتأملني جيداً وابتسم. أعتقد أنني نلت إعجابه وقتها. أقول ذلك خصوصاً أنني كنت حديث العهد في باريس ولم يمضِ بعد وقت طويل على وصولي إلى العاصمة الفرنسية. حتماً راح يتساءل بينه وبين نفسه: كيف فهم هذا العفريت مقصدي ومنهجيتي؟ هل فعلاً يعي ما يقول؟ كنت أشعر آنذاك بجوع عارم إلى الفكر. كنت أبحث عنه في كل الزوايا الباريسية. كنت أريد أن أفهم كنه الأشياء. وكنت أعرف أن الزلازل والبراكين قادمة لا محالة. ولذلك شطبت على حياتي الشخصية كلياً وتفرغت لما هو أهم وأخطر.

فيما بعد اكتشفت بالفعل أن جوهر منهجيته يكمن في الحفر الأركيولوجي عن أعماق تراثنا الإسلامي الكبير بغية الكشف عن جذوره الأولى وإضاءته بشكل غير مسبوق. إنه حفر في العمق أو في عمق العمق. لم يتجرأ أي مفكر مسلم قبله على طرح التساؤلات الراديكالية التي طرحها على التراث. لم يذهب أي مفكر مسلم إلى الأعماق السحيقة التي ذهب إليها هو. ولا حتى ابن رشد ولا حتى الفارابي في الماضي. ولا حتى طه حسين في الحاضر. من هنا الطابع التحريري الهائل لفكر محمد أركون. لقد قدم أكبر خدمة للإسلام والمسلمين والعرب أجمعين. لهذا السبب نقول إن الفلسفة هي تساؤل راديكالي عن جوهر الموضوع التراثي، أيَّ موضوع كان. إنها لا تتوقف في منتصف الطريق و«تقطع الحبلة فينا» كما يُقال، وإنما تذهب إلى آخر مدى. الفلسفة بهذا المعنى هي فكر الفكر أو عقل العقل. هكذا كان يفهمها ديكارت وكانط وهيغل وكذلك نيتشه، وبالأخص نيتشه. وهكذا كان يفهمها ميشيل فوكو أيضاً الذي وضع عنواناً ثانوياً لكتابه الشهير: «الكلمات والأشياء - أركيولوجيا العلوم الإنسانية».

ولكن الفلسفة تعني أيضاً: تعرية الأوهام الشائعة، والأحكام المسبقة الموروثة، والآيديولوجيات والشعارات الديماغوجية. الفلسفة هي العدو اللدود للأدلجة والآيديولوجيا. وكذلك هي العدو اللدود للفتاوى التكفيرية الموروثة عن القرون الوسطى. كل الأحكام السلبية المسبقة والكليشيهات المشوهة التي تشكلها الطوائف بعضها عن بعض تجري تعريتها وتفكيكها عن طريق الفلسفة. بهذا المعنى نحن أحوج ما نكون إلى الفلسفة والفكر العميق في عالمنا العربي. وبهذا المعنى فإن الفلسفة هي معركة سلاحها العقل الفعال والحفر الأركيولوجي في الأعماق. مَن أعداء الفلسفة؟ الغباء والجهل والتعصب الأعمى والظلامية التراثية. مَن حلفاؤها؟ العلوم الإنسانية، وبخاصة علم التاريخ الحديث الذي يكشف عن أعماق الماضي التراثي ويحفر عنها أو عليها. ولهذا السبب كانت مدرسة الحوليات الفرنسية من أهم مرجعيات محمد أركون. بل اعترف يوماً بأنه استيقظ لأول مرة على الفكر العميق بعد أن حضر بالصدفة في جامعة الجزائر ذلك الدرس المنهجي الشهير لمؤسس مدرسة الحوليات: لوسيان فيفر. وقد صعقه الدرس إلى حد أنه خرج منه مذهولاً. بعدئذ ابتدأ أركون يصبح المفكر الكبير الذي نعرفه. تذكرت كلام أركون هذا عندما اطّلعت لاحقاً على كتاب لوسيان فيفر عن مدشن الإصلاح الديني في أوروبا بعنوان: «مارتن لوثر: قدر»! انه كتاب يدوّخك بالمعنى الحرفي للكلمة. هل هو مؤرخ فقط أم فنان أم فيلسوف يتلاعب بعقلك كما يشاء ويشتهي؟ تكاد تلتهم الصفحات التهاماً. كتاب عبقري ولا أروع. قرأته مرتين أو ثلاثاً. وحتماً سأعود إليه مرة أخرى فقط من أجل المتعة والاستمتاع. إنه يوضح لك كيف تولد الشخصيات الاستثنائية في التاريخ. ولماذا تولد؟ ومتى تولد؟ إنه يشرح لك كيف يظهر الرجال العظام الذين يغيِّرون مجرى التاريخ البشري. عندئذ فهمت لماذا أثَّر هذا المؤرخ الفرنسي الكبير كل هذا التأثير على محمد أركون.

نضيف أن الفلسفة تعني أن نفكر بشكل أفضل لكي نعيش بشكل أفضل. إنها تعلِّمنا كيف نعيش حياة أكثر إنسانية وأكثر مرونة وأكثر رصانة وأكثر عقلانية وأكثر حرية. وهي بذلك مكمِّلة للدين بالمعنى الروحاني العالي المتعالي. إنها ليست ضد الدين وإنما فقط ضد الظلامية الدينية. مثلاً بول ريكور (صديق أركون) كان في ذات الوقت فيلسوفاً كبيراً ومؤمناً بالله والقيم الروحية والأخلاقية العليا للدين. نضيف أن الفلسفة بهذا المعنى تحرِّرنا من رواسبنا الطائفية والمذهبية التي ورثناها عن طفولاتنا وعائلاتنا وبيئاتنا الأولى. وهي أشياء كنا نعتقد أنها حقائق مطلقة لأننا رضعناها مع حليب الطفولة، في حين أنها نسبية وخصوصية. والدليل على ذلك هو أننا لو وُلدنا في طفولات أخرى وبيئات أخرى لاعتقدنا العكس تماماً. يقول أحد العلماء الكنديين المعاصرين: «أنا وُلدت في عائلة مسيحية كاثوليكية ولكني لو ولدت في عائلة صينية كونفشيوسية هل كنت سأعتقد ذات الشيء؟».

أخيراً فإن الفلسفة ما هي إلا اختراقات في جحيم الانسدادات. عندما تطْبق الغمة والظُّلمة على أمة من الأمم يظهر الفلاسفة الكبار. انهم لا يظهرون في الأزمان السعيدة المريحة المرتاحة وإنما في الأوقات العصيبة المدلهمّة مسدودة الآفاق. وعندئذٍ يقدمون لنا المفاتيح الفلسفية التي تحل مشكلة العصر وتفك عقدة التاريخ. على هذا النحو ظهر ديكارت عند الفرنسيين أو كانط عند الألمان، إلخ. الفلاسفة بهذا المعنى ظهورات بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس في كل يوم يظهر فيلسوف كبير. هيهات! أحياناً يمر قرن أو قرنان قبل أن يظهر مفكر واحد له معنى!