«الحرب الروسية الأوكرانية»... مقدمة لسلسلة صراعات أخرى في النظام الدولي؟

دراسات لباحثين مصريين متخصصين في الشؤون الاستراتيجية

«الحرب الروسية الأوكرانية»... مقدمة لسلسلة صراعات أخرى في النظام الدولي؟
TT

«الحرب الروسية الأوكرانية»... مقدمة لسلسلة صراعات أخرى في النظام الدولي؟

«الحرب الروسية الأوكرانية»... مقدمة لسلسلة صراعات أخرى في النظام الدولي؟

يتضمن كتاب «الحرب الروسية الأوكرانية والشرق الأوسط» الصادر حديثا عن مركز الدراسات الاستراتيجية بمكتبة الإسكندرية، دراسات تبحث في جذور وسياق وآفاق المعارك والصراع الدموي الدائر بين روسيا وأوكرانيا، وتأثيراته المحتملة على منطقة الشرق الأوسط، وما يمكن أن يكون عليه النفوذ الروسي في العديد من الملفات حال انتصار موسكو، أو خسارتها المعارك.

الدراسات كتبها باحثون ومتخصصون مصريون في الشؤون الاستراتيجية، وتسعى لتحليل الأزمة الروسية الأوكرانية، وتوضيح ما لها من تأثيرات متسعة ومتفاقمة على الاقتصادات الدولية والوطنية؛ حيث تتداخل وتتعقد سلاسل الأزمات من طاقة وأغذية، وتتعمق في ظل عالم تجتاحه الكوارث والحروب المتتالية، وكان منشغلا قبل اندلاع الحرب بتداعيات جائحة كورونا.

ويحاول الباحثون عبر دراساتهم الكشف عن حقيقة ما يجري في الحرب الروسية الأوكرانية، وهل تمثل ردة فعل على سقوط الاتحاد السوفياتي، أو هي مقدمة لسلسلة من اضطرابات وصراعات أخرى أعمق في النظام الدولي؟

دوافع معقدة

تشير دراسات الكتاب إلى أن عوامل المواجهة الروسية الغربية الحالية ودوافعها المعقدة والمركبة يصعب حصارها في حدود المعارك في أوكرانيا أو في دول الجوار المباشر الذي يشهد تنافساً على النفوذ وتعزيزاً لبناء القدرات العسكرية بين مختلف أطراف المواجهة بما ينذر في الأمدين القريب والمتوسط، ليس فقط بتصاعد المواجهات العسكرية، ولكن أيضا بتفاقم سباق التسلح لمستويات ونطاقات جديدة غير مسبوقة.

وما بين الجائحة والحرب، تشير الباحثة الدكتورة ريهام صلاح خفاجي إلى ما رأت أنه «الطريق إلى نظام عالمي جديد»؛ حيث أسفرت الحرب عن اضطراب واضح في مفاصل النظام الدولي القائم يضاف إلى تفاقم سلسلة التداعيات الناجمة عن جائحة كورونا، ويؤدي إلى حالة كبيرة من التضخم العالمي في مجالات الطاقة والغذاء والمعادن وسلاسل التوريد، واضطراب كبير في البورصات العالمية والأسواق المالية وأسعار العملات.

أوكرانيا، حسب خفاجي، في حربها مع روسيا لم تكن موضوعاً للصراع العسكري والسياسي، بقدر ما كانت ضحية لصراع الإرادات بين قوة متنفذة على رأس النظام العالمي الدولي هي أميركا، والقوة الروسية المرشحة بالتحالف مع الصين الصاعدة لأن تمثل مركزاً آخر.

وذكرت الباحثة أن نيران الحرب كشفت عن تهالك النظام الدولي الحالي، وعدّتها جزءاً من الصراع القائم نحو تشكيل نظام عالمي جديد، بعد أن امتدت التساؤلات لما هو أبعد من مجرد التكهن بإعادة تشكيله، وأصبح التساؤل الحالي حول ملمح هذا العالم ومكوناته، خاصة أنها لن تقتصر فقط على رسم خريطة السلم والحرب فيه، لكنها سوف تتجاوزها لرسم محددات أنظمة الطاقة والأموال والإنتاج والتوزيع.

خلاصة دراسة خفاجي تقول إن الحرب بين روسيا وأوكرانيا تعد بداية لظهور انقسامات عالمية جديدة، إضافة لأخرى قديمة تعود للسطح. وإذا كانت رحاها تدور حاليا داخل نطاق أوكرانيا، فإن الرهان يقع خارجها بعد أن تحولت إلى ساحة لاستعادة الأوزان السياسية في العالم، وسوف يترتب على نتائجها شكل التموضعات الجديدة للتحالفات في ظل استمرارها وتضاعف كلفتها وتبعاتها المدمرة يوما بعد يوم، ومن المتوقع أن تؤدي لتغير بعض المواقف والاتجاهات طبقا للمصالح، لكن تحديد مسار سياسات دول العالم في ذلك سوف يحتاج، طبقا للباحثة، إلى كثير من التدبر والتفكير.

سوف يترتب على نتائج الحرب الروسية - الأوكرانية شكل التموضعات الجديدة للتحالفات في ظل استمرارها وتضاعف كلفتها وتبعاتها المدمرة يوما بعد يوم

بنية متعددة الأقطاب

في دراسة بعنوان «عودة الدبلوماسية الثلاثية: حرب أوكرانيا والطبيعة المركبة للعلاقات الصينية الروسية» تحدث الباحث الدكتور محمد العربي عن مسارات مستقبلية للتعاون بين البلدين، يقوم الأول منها على إقامة تحالف شرطه انتصار الروس، وينبني عليه تقسيم المهام بينهما، تستأثر خلاله بكين بالمحور الاقتصادي دون الجانب الأمني، ويكون بمثابة فرصة لزيادة قوتها الجيوسياسية في مواجهة التحالف الرباعي «الهندي الباسيفيكي» الذي تقوده واشنطن، وأما موسكو فسوف يكون من مهامها في هذا السياق تولي الأمور الأمنية، وضمان استمرار تعاون اقتصادي بينها وبين الصين تتدفق طبقا لالتزاماته استثمارات الأخيرة في قطاع الطاقة والموارد الطبيعية.

لكن في حالة هزيمة روسيا في حربها مع أوكرانيا، فيشير الباحث إلى أنها سوف تصبح تابعا للصين، وهو مسار يراه مستبعداً، ويتناقض مع رؤية القيادة في الكرملين.

أما المسار الثالث للعلاقات الروسية الصينية فيقوم على نجاح القوى الغربية في إفشال التعاون بينهما عن طريق إدماج موسكو في المنظومة الأمنية الغربية، وهذا ما يستبعده الباحث أيضا بسبب وجود عوامل تاريخية وجيوسياسية عميقة تتمثل في صعوبة تقبل الغرب روسيا ضمن تحالف تكون فيه الأخيرة ضمن شراكة أمنية في مواجهة الصين.

ويشير آخر المسارات في الدراسة لاستمرار ديناميات التعاون والتنافس الروسي الصيني، وهو سيناريو، حسب وجهة نظره، تدعمه بنية متعددة الأقطاب للنظام الدولي في مرحلة تآكل الهيمنة الغربية، وعدم تعارض الأولويات الأمنية لدى البلدين، وحجم التعاون الاقتصادي بينهما.

وتركز الدكتورة نيفين مسعد في دراستها «الحرب الروسية الأوكرانية وصراعات الشرق الأوسط» على تأثير دور موسكو في تفاعلات أمن المنطقة، مشيرة إلى أن استمرار الصراع بين البلدين سوف يقلل من قدرات الروس في الساحتين السورية والليبية، فضلا عن الملف النووي الإيراني والصراع العربي الإسرائيلي.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم