الدبلوماسية السعودية تجاه فلسطين... تاريخ من الاعتدال

الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
TT

الدبلوماسية السعودية تجاه فلسطين... تاريخ من الاعتدال

الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)
الأمير محمد بن سلمان مترئساً القمة العربية - الإسلامية غير العادية في الرياض 11 نوفمبر 2023 (واس)

في حال حدوثه، فإن التطبيع مع السعودية سيكون بمنزلة نقطة تحولٍ رئيسية في تاريخ إسرائيل منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد عام 1979. حيث إن الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات سيادة يُعد من المحرمات عند معظم الدول الإسلامية والعربية. لكن هذا لا يعني أن الدول الإسلامية جميعها تتبنى هذا الموقف. فعلى سبيل المثال، اعترفت تركيا بدولة إسرائيل في 28 مارس (آذار) 1949، وأرسلت بعثتها الدبلوماسية إلى تل أبيب في يناير (كانون الثاني) 1950. كما اعترفت إيران بدولة إسرائيل في 14 مارس 1950.

وكانت تركيا وإيران آنذاك أقوى الدول ذات الغالبية المسلمة. غير أن الدولة الصهيونية كانت تتطلع لاعتراف سياسي من دولة عربية كبرى، وتنظر لذلك الاعتراف باهتمام أكبر من بقية الدول المسلمة؛ وذلك ما حدث بالضبط في 26 مارس 1979، عندما وقّع كل من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على المعاهدة التي رعاها الرئيس جيمي كارتر.

وكما هو الحال عند اليهود والمسيحيين، فإن القدس المحتلة مدينة مقدسة عند المسلمين. على الرغم من ذلك، فإن قضية فلسطين كان يتم تداولها بوصفها قضية عربية أكثر من كونها قضية إسلامية. وثمة حقائق عدة تكمن خلف وضع الهوية الإثنية كأولوية تسبق الهوية الدينية للقضية. لقد أطلق العرب مصطلح «النكبة» لوصف قيام دولة إسرائيل عام 1948 الذي فرض أمراً واقعاً بوجود الدولة العبرية بين الدول العربية.

الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن يتعانقان في 17 سبتمبر 1978 بعد توقيع اتفاقية السلام في الغرفة الشرقية للبيت الأبيض تحت أنظار الرئيس الأميركي جيمي كارتر (أ.ف.ب)

وبعد سنوات قليلة من النكبة، برز الخطاب القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر الذي اتخذ من قضية فلسطين شعاراً رئيسياً لمشروع الوحدة العربية الذي كان ينادي به. لقد أضفى خطاب عبد الناصر البعدَ القوميَ (أي العربي) للقضية الفلسطينية. وبالتالي، فإن الصراع بين العرب واليهود هو صراع قوميات وليس صراعاً دينياً بين المسلمين واليهود. يفسّر هذا الموقف المصري ردّة الفعل العربية القاسية تجاه المعاهدة التي وقّعتها مصر مع إسرائيل، مقارنة بالموقف الذي أبدوه تجاه تركيا وإيران الملكية، حيث لم تقاطعها الدول العربية.

في الفترة المصاحبة لمعاهدة كامب ديفيد، تصاعدت الصحوة الإسلامية التي صاحبت الثورة الإيرانية عام 1979. وقتها، بدأ الثوريون الإسلاميون في استخدام شعارات تحرير فلسطين والمسجد الأقصى كأبرز شعرات التعبئة الجماهيرية لديهم. ولعل هذا ما يفسر التحولات في النخبة الفلسطينية، حيث كانت تسود القيادة اليسارية (منظمة التحرير) والتي تراجعت شعبيتها بين الفلسطينيين لصالح المقاومة الإسلامية، والتي أكدت على الهوية الإسلامية للقضية الفلسطينية. نستذكر في هذا الصدد كون غالبية الشخصيات الإسلامية ترفض وتستنكر اعتبار فلسطين قضية عربية خالصة، وتصرّ على إسلامية القضية ومحورية قدسية المسجد الأقصى.

بتسارع الأحداث نهاية القرن الماضي، طرأ تغيير كبير في المشهد عندما وقّع الفلسطينيون مع الإسرائيليين على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) 1993. وتبع ذلك معاهدة السلام الإسرائيلية - الأردنية التي أُبرمت في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1994.

المصافحة التاريخية برعاية الرئيس بيل كلينتون بين ياسر عرفات وإسحاق رابين بعد اتفاق أوسلو بواشنطن يوم 13 سبتمبر 1993 (غيتي)

يمكن النظر للسعودية بوصفها رائدة في مجال الخطط العربية الشاملة للسلام مع إسرائيل؛ ففي 7 أغسطس (آب) 1981، أعلن الملك فهد بن عبد العزيز (كان وقتها ولياً للعهد) خطة للسلام في الشرق الأوسط. وتضمنت الخطة ثمانية مقترحات بعنوان «مبادئ السلام». ولخّصت هذه المقترحات قرار الأمم المتحدة رقم 242، والذي يتضمن: حل الدولتين (على أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية)، والتأكيد على حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم مع منح تعويض لأولئك الذين يختارون طوعيّاً عدم العودة. رفضت إسرائيل بشدة هذه الخطة ووصفتها بأنها مخطط للإجهاز على إسرائيل في نهاية المطاف.

في وقت لاحق، أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرة أخرى في مؤتمر قمة جامعة الدول العربية الذي عُقد في بيروت يوم 28 مارس 2002. جاء الإعلان عن خطة سلام شامل قبل شهر من زيارة الأكاديمي والصحافي الأميركي توماس فريدمان للرياض ولقائه الملك عبد الله (كان وقتها ولياً للعهد) الذي نشر الخبر معه. طرح فريدمان فكرة السلام، فنظر إليه ولي العهد - حسب قوله - بدهشة ساخرة، وقال: «هل اقتحمتَ مكتبي؟»، غير أن المبادرة العربية قوبلت برفض إسرائيلي قاطع مرّده لكون المبادرة تستند إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194 والذي يؤكّد على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.

بعد رفض إسرائيل تلك المبادرات، ظهر جلياً أن فكرة طرح سلام شامل بين العرب وإسرائيل غير قابلة للتطبيق. إن الواضح كون إسرائيل تُفضل عقد اتفاقيات ثنائية منفصلة مع كل دولة عربية.

تعدّ وجهة النظر الإسرائيلية واضحة؛ فهي لا تريد أن يحصل اتفاق عربي - عبري؛ لأن من شأن ذلك أن يضع إسرائيل في موقف ضعيف كونها تقف منفردة أمام تكتل دول الجامعة العربية. يستند الموقف الإسرائيلي إلى كونهم يريدون التعامل مع الدول المجاورة بوصفها دولاً منفردة، وليس تكتلاً إقليمياً.

بالنظر إلى «اتفاقيات إبراهيم» الثنائية عام 2022 التي وقّعتها إسرائيل مع كلٍ من الإمارات، والبحرين، ثم السودان، وأخيراً مع المغرب، فإنها وُقّعت بشكل منفصل. هذه الاتفاقيات الثنائية لا تلزم إلا الأطراف التي وقّعت على كل اتفاق على حدة، من دون النظر للاتفاقيات الأخرى التي تشكّل إسرائيل القاسم المشترك الوحيد فيها.

مراسم توقيع «اتفاقيات إبراهيم» في حديقة البيت الأبيض في 15 سبتمبر 2020 (أ.ف.ب)

على الجانب السعودي، لا ترغب الرياض في أن تكون جزءاً من «اتفاقيات إبراهيم». يرجع ذلك إلى إدراك ولي العهد رئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، أهمية وثقل بلاده الذي يعني الكثير للإسرائيليين الذين يتوقون للتوصل إلى اتفاق مع دولة بحجم السعودية.

يُضاف إلى ذلك مجموعة من الحسابات المعقدة، والأكثر خطورة بالنسبة للجانب السعودي في حال تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي حسابات تفوق حسابات الإمارات والبحرين. ولهذا السبب؛ لم يتطرق الأمير محمد بن سلمان مطلقاً لعبارة ««اتفاقيات إبراهيم»» في مناقشاته التي جرت حول التطبيع مع إسرائيل. إنه يريد صياغة اتفاقه الخاص بعيداً عن الاتفاقيات مع دول أخرى مهما كانت قوة ارتباط السعودية بها.

وقبل التعمّق في مسألة إمكانية التطبيع السعودي مع إسرائيل، لا بد من أخذ لمحة عن السياق الذي بني عليه المبدأ السعودي في التعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي خلال النصف الأول من القرن العشرين؛ هذا السياق سيسهل على القارئ فهم الدور السعودي في ذلك الصراع.

لماذا السعودية؟

بالنظر إلى مكانتها الريادية في العالمين العربي والإسلامي، فإن المتوقع من السعودية أن توازن بين المحافظة على مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في الشراكة مع الولايات المتحدة من ناحية، وأن تفي بالتزاماتها القيادية على المستويين العربي والإسلامي من ناحية أخرى.

لقد قلت يا أخي إنني مستعد للتضحية بنفسي وأبنائي من أجل فلسطين. وأقول مرة أخرى: النفط ليس أغلى من أبنائي. أنا مستعد لإلغاء الامتيازات النفطية إذا كان ذلك يخدم القضية.

الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن («نيويورك تايمز» 13 يوليو 1948)

جدير بالذكر، أنه قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، كانت وسائل الإعلام الغربية تصفُ موقف الحكومة السعودية بأنه يصرّ على «الحق العربي» في فلسطين. على سبيل المثال، ذكرت صحيفة «التايمز» الصادرة في 8 سبتمبر (أيلول) 1936 أن «مَلِكَ المملكة العربية السعودية عرض تسخير جهازه الحكومي في سبيل التنسيق مع الحكام العرب الآخرين، في حال كان من الممكن تأمين تعاونهم».

لم تمنع هذه اللغة الدبلوماسية المملكةَ من إدانة موضوع بناء المستوطنات اليهودية في فلسطين («التايمز»، 22 يونيو (حزيران) 1943). بل ذهب الموقف السعودي إلى أبعد من ذلك عندما تحدت السعودية قرار الأمم المتحدة بشأن الصراع الفلسطيني - اليهودي (من كتاب عبد الله فيصل آل ربح (2023) «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو أميركية: تغطية المملكة خلال القرن العشرين». تايلور وفرنسيس. ص 89).

في هذا السياق، يتجدد دائماً السؤال الذي أُثيرَ في عام 1940 حول استخدام حظر النفط كوسيلة لدعم الفلسطينيين ضد المواقف البريطانية والأميركية الداعمة لليهود – الإسرائيليين. نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» تعليقاً بتاريخ 13 يوليو (تموز) 1948، قال فيه الملك عبد العزيز: «لقد قلت يا أخي إنني مستعد للتضحية بنفسي وأبنائي من أجل فلسطين. وأقول مرة أخرى: النفط ليس أغلى من أبنائي. أنا مستعد لإلغاء الامتيازات النفطية إذا كان ذلك يخدم القضية».

يمثل الموقف السعودي تجاه فلسطين جزءاً من سياستها الإقليمية الاستراتيجية الدائمة. وبالعودة إلى 14 فبراير (شباط) 1945، التقى الملك عبد العزيز، مؤسس المملكة العربية السعودية، الرئيس فرانكلين روزفلت على متن السفينة «يو إس إس كوينسي» في البحيرات المُرّة الكبرى قرب قناة السويس بمصر.

كان لدى روزفلت هدفان من لقاء الملك عبد العزيز: الأول، الدافع السياسي للوصول إلى حل قاطع للمشكلة الفلسطينية - اليهودية، الدافع الآخر اقتصادي يتمثل في التوصل إلى علاقة استراتيجية أميركية - سعودية تتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية، تضمن حصول الأمريكيين على النفط السعودي.

وعلى الرغم من السردية الإيجابية التي يتبنّاه كل من السعوديين والأميركيين حول هذا الاجتماع، فإن جوهر النقاش كان يهيمن عليه الاختلاف حول مستقبل فلسطين؛ ففي حين دافع روزفلت عن إقامة دولة يهودية، احتج الملك عبد العزيز على ذلك؛ معللاً موقفه بأنه يتوجب على اليهود أن يقيموا دولتهم في مكان آخر.

الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت (الشرق الأوسط)

بدأت الاتصالات المتعلقة بقضية فلسطين بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت قبل سنوات من الاجتماع الذي عُقد على متن «يو إس إس كوينسي» عام 1945. ونشرت وزارة الخارجية الأميركية رسائل عدة بعث بها الملك عبد العزيز إلى الرئيس روزفلت بين عامي 1938 و1943 يطالب فيها بحقوق الفلسطينيين في الاحتفاظ بأرضهم، وإدانة السياسة القائمة على توسيع المستوطنات اليهودية في فلسطين.

لقد مثّل هذا الاجتماع نقطة تحول في التواجد الأميركي في الشرق الأوسط؛ إذ شجع الاجتماع المملكة العربية السعودية على تحويل تحالفها الرئيسي من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة. لقد كان الهدف من لقاء الملك عبد العزيز مع الرئيس روزفلت يتمثّل في رسم أجندة التحالف السياسي والنفطي في العلاقة بين البلدين، والتي ما زالت قائمة حتى الآن. ومن الجدير بالذكر، أن اتفاقات ابن سعود – روزفلت دخلت حيّز المراجعة في المرحلة ما بعد عام 2016 في ظل التوتر الذي قادته إدارتا الرئيسان دونالد ترمب ثم جو بايدن. تضمنت مراجعات الجانبين الأجندة النفطية والعسكرية؛ إذ تسعى كل من واشنطن والرياض إلى تحقيق الحد الأعلى لمصلحة أجندتهما الوطنية. وفي كل الأحوال، بقيت القضية الفلسطينية موضوعاً تُعاد مراجعته بجدية بعد ما يقرب من سبعة عقود على لقاء عبد العزيز - روزفلت.

عند الحديث عن الصعوبة البالغة والتحديات التي تواجه السعودية فيما يتعلق بمسألة التوصل إلى تسوية شاملة مع دولة إسرائيل، ثمة واقع تاريخي للمملكة يُضاف إلى مكانتها الروحية كموطن للحرمين الشريفين. فالملك السعودي يُلقّب رسمياً بخادم الحرمين الشريفين، بينما الحرم الثالث هو المسجد الأقصى الذي يقع في القدس. ولعل هذا ما يفسر الإصرار السعودي على ضمان الحقوق الفلسطينية قبل توقيع الرياض على أي اتفاق سلام مع إسرائيل.

سياسة محمد بن سلمان تجاه الصراع

في 20 سبتمبر 2023، أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز»، ناقش فيها مواضيع مختلفة، بما في ذلك سياسته تجاه إسرائيل. وكانت إجابته المختصرة هي أن احتمالات تطبيع العلاقات بين البلدين «تقترب» كل يوم، ومع ذلك، ظلّت مسألة التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين قضية «مهمة جداً» يجب حلها بالنسبة للسعوديين. وهذا ما يدفعنا للقول إن الإصرار على ضمان حقوق الفلسطينيين كشرطٍ للتطبيع مع إسرائيل، ليس مجرد مطلب هامشي لمسألة خارج حدود السعودية. وكما ذكرنا من قبل، فإن محمد بن سلمان على دراية تامة بما تتمتع به بلاده من وزنٍ ثقيل، ولن يُعرّض مكانتها الدبلوماسية والروحية للخطر مقابل لا شيء.

 

خلال المحادثات الأخيرة التي دارت بين الزعيمين حول حرب غزة في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أبلغ الأمير محمد بن سلمان الرئيس بايدن بأنه «لا بديل عن العودة لمسار السلام من أجل ضمان حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة ومن أجل تحقيق السلام العادل والشامل». وبالإشارة إلى الصفقة المتوقعة، أصرّ الأمير محمد بن سلمان على تضمين الموضوع الفلسطيني كجزء من خطة السلام على أن تكون السلطة الفلسطينية في رام الله ممثلاً للشعب الفلسطيني.

مبدأياً، فإن السلطة الفلسطينية تتبنى موقفاً إيجابياً تجاه السلام مع إسرائيل مقابل الاعتراف المتبادل. وإذا نجح ولي العهد السعودي في الضغط على إسرائيل للاعتراف بفلسطين كدولة على أساس اتفاق أوسلو، فإنه سيحفر اسمه في التاريخ كونه قام بحل جزء كبير من الصراع العربي - الإسرائيلي. غير أن العائق الأكبر أمام ذلك هو الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي لا يقبل حل الدولتين.

تكمن قوة الموقف الإسرائيلي في إصراره على أسلوب المفاوضات الثنائية مع الدول العربية بشكل منفصل. ويسعى الإسرائيليون إلى التوصل إلى اتفاق ثنائي مع السعودية تحت عنوان «مصلحة البلدين» من دون إشراك طرف ثالث في أي اتفاق محتمل (أي الفلسطينيين). وقد يُقدم الإسرائيليون بعض الوعود الشفهية وبلغةٍ مواربةٍ تحمي طموحاتهم. في المقابل، يرغب السعوديون في الحصول على التنسيق مع الفلسطينيين حول أي وعود الإسرائيلية في المفاوضات؛ حتى يضمنوا موقفهم في حال نشوب أي توتر  مستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

جانب من لقاء سابق بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفلسطيني محمود عباس (واس)

يسعى الأمير محمد بن سلمان للحصول على أعلى سقف من الممكن أن يصل إليه من الاتفاق مع الولايات المتحدة وليس إسرائيل التي ليس لديها الكثير لتطرحه على الطاولة. وعليه، يهدف ولي العهد السعودي إلى فرض شروطه على واشنطن - وليس على تل أبيب - للحصول على المزيد من الضمانات الأمنية التي تشمل الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا العسكرية الأميركية. في حال تمكّن من تحقيق تلك الأهداف؛ فإن السعودية ستحصل على صفقات عسكرية لم تحصل عليها في تاريخها كله.

ثمة حقيقة لا بد من التوقف عندها تتلخص في أن انخراط السعودية في مفاوضات مع إسرائيل لا يضمن التوصل إلى اتفاق نهائي. ومع ذلك، نجح الأمير محمد بن سلمان في توجيه إدارة بايدن إلى الاتجاه الذي يخدم أجندته. لقد عمل منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك وسيطاً للاتفاقيات الاقتصادية والأمنية التي فكت الجمود في العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وفي هذا السياق، يعد شطب تعهد بايدن بجعل المملكة «منبوذة» خطوة أولى - وغير مشروطة - في هذه المفاوضات، وهذا مكسب سياسي يسجّل لإدارة محمد بن سلمان.

ثمة وقت محدود للغاية أمام الإدارة الديمقراطية للتوصل إلى الصفقة التي من شأنها أن تفوق «اتفاق إبراهيم» الذي حققته إدارة ترمب الجمهورية. وبذلك يُفهم أن بايدن سحب بعض شعاراته المعادية للسعودية التي استخدمها في حملته الانتخابية عام 2020. وإذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق سلام سعودي - إسرائيلي، فقد يؤثر ذلك على ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2024، الذي هو محل شك في الأصل. في هذه المرحلة، يرى بعض المراقبين أنه على الرغم من تعثر الاتفاق السعودي ـ الإسرائيلي، ربما يكون الأمير محمد بن سلمان قد حصل بالفعل على ما يريد من الانخراط في المفاوضات وإن لم يتم التوقيع.

حرب غزة 2023

لقد أربكت الحرب الأخيرة في غزة الأوضاع في الشرق الأوسط، وجعلت الأمور أكثر صعوبة. حيث أشارت معظم تقارير مراكز الأبحاث والمنصات الإعلامية إلى أن حركة «حماس» بدأت العمل العسكري بهدف تعطيل الاتفاق المحتمل بين السعودية وإسرائيل. فعلى سبيل المثال، كتب ماثيو ليفيت مقالاً في مجلة «فورين أفيرز» يتهم فيه «حماس» باستهداف إمكانية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، والذي وصل إلى مرحلة إجرائية أكثر جدية من أي وقت مضى.

ويرى ليفيت أن العامل الذي دفع قيادة «حماس» إلى تنفيذ الهجوم والتسبب في هذا التصعيد كان عرقلة الجهود الدبلوماسية مع السعودية في المقام الأول. ويضيف ليفيت، أن قيادة «حماس» تعتقد أن اتفاقاً كهذا من شأنه أن يُقوض موقف القضية الفلسطينية داخل منظومة الدول العربية والإسلامية. علاوة على ذلك، فإن التطبيع المتوقع يمكن أن يعزز التحالف الإقليمي الفعال ضد إيران وحلفائها، ومن ضمنهم «حماس» و«حزب الله». لذا؛ فقد ذهب التنظيمان إلى ما هو أبعد من تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي لتشنّ «حماس» هجومها في هذا التوقيت الحرج.

يتصف الموقف السعودي تجاه الحرب بأنه غاية في التوازن. وبينما لا يؤيد السعوديون «حماس»، فإنهم يدينون بشكل قاطع وبشكل لا لبس فيه الهجومَ الإسرائيلي والحصار المفروض على قطاع غزة.

مع استمرار الحرب، يتخذ السعوديون موقفاً قوياً جداً ضد الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة. ومن شأن مثل هذا الموقف أن يصعّب - إن لم يجهض - التوصل إلى اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل؛ وهو الأمر الذي لن يكون في مصلحة بايدن والإدارة الديمقراطية.

ماذا بعد؟

لا يبدو أن لدى عرّاب «رؤية 2030» رغبة لاستمرار التوترات لبلاده مع أي من دول محيطها الإقليمي. وهو يتبنى سياسة تصفير المشاكل؛ لذلك نجده قد قبل بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وأعرب عن موقف إيجابي تجاه اتفاق سلام يُعقد مع إسرائيل. غير أنه يجب الأخذ في الحسبان أن إسرائيل ليست إيران، فالعلاقة مع إيران فيها قضايا ثنائية يمكن حلها بين الرياض وطهران. لكن حالة إسرائيل تتضمن كثيرا من القضايا العابرة للحدود الوطنية التي تتجاوز العلاقات الثنائية؛ والتي يجب حلّها قبل التوصل لأي اتفاق.

تعتبر القضية الفلسطينية موضوعا حاسما بالنسبة لدولة عربية إسلامية رائدة بمكانة السعودية، التي تتخذ سياسة متوازنة تحسب فيها تحركاتها استراتيجيا. ولا يزال السعوديون يتعاملون مع الولايات المتحدة باعتبارها المورد الرئيس للأسلحة والتقنيات العسكرية. وهذا يعني أن السعودية ستحافظ على موقفها من خلال تأجيل التطبيع مع إسرائيل حتى تُؤمّن ضمانات تُحقق مكاسب معقولة للفلسطينيين. وباعتبارها وسيطا في التوصل إلى اتفاق، يجب على واشنطن التعامل مع المطالب السعودية بالأسلحة والتقنيات إذا وافق حليفا الولايات المتحدة على الجلوس والتفاوض حول اتفاق سلام في المستقبل.


مقالات ذات صلة

قبيلة «الترابين»: مقتل «أبو شباب» يمثل «نهاية صفحة سوداء» في غزة

المشرق العربي ياسر أبو شباب (وسائل التواصل) play-circle 01:18

قبيلة «الترابين»: مقتل «أبو شباب» يمثل «نهاية صفحة سوداء» في غزة

أكدت قبيلة «الترابين» في قطاع غزة وقوف أبنائها دائماً في صف شعبهم الفلسطيني وقضيته العادلة، ورفضهم تماماً «أي محاولة لزج اسم القبيلة في مسارات لا تمثل تاريخها».

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي أزواج فلسطينيون يشاركون في حفل زفاف جماعي في مدينة حمد في خان يونس بقطاع غزة (أ.ب) play-circle 01:19

على أنقاض الحرب.... زفاف جماعي في غزة يعيد الأمل (صور)

وسط ركام عامين من الحرب التي غيّرت ملامح غزة، تحدّى أكثر من مائة رجل وامرأة الدمار والفقد وأقاموا عرساً جماعياً في خان يونس الثلاثاء سموه «ثوب الفرح».

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي فيليب لازاريني المفوض العام لوكالة «الأونروا» في غزة (أ.ف.ب) play-circle

مفوض «الأونروا»: الوكالة توسع نطاق خدماتها في غزة بشكل كبير

قال المفوض العام لوكالة (الأونروا) فيليب لازاريني إن الوكالة استغلت فرصة وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتعمل على توسيع نطاق خدماتها بشكل كبير.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية عراقجي مصافحاً فيدان خلال استقباله في طهران (الخارجية التركية)

تركيا وإيران تؤكدان ضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار في غزة

أكدت تركيا وإيران ضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار في غزة ووقف التوسع الإسرائيلي الذي يهدف إلى زعزعة الاستقرار في كل من سوريا ولبنان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شمال افريقيا السيسي مستقبلاً عباس في القاهرة 8 يناير 2024 (إ.ب.أ) play-circle

السيسي لأبو مازن: مأساة الفلسطينيين تفرض على المجتمع الدولي دعمهم بكل السبل

قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن معاناة الشعب الفلسطيني لا تقتصر فقط على ما يحدث في غزة، رغم الفظائع التي شهدها العالم هناك، بل تمتد إلى الضفة الغربية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.