المشهد: نحن والسينما الأميركية

المشهد: نحن والسينما الأميركية
TT

المشهد: نحن والسينما الأميركية

المشهد: نحن والسينما الأميركية

* «.. وبينما تتسبب السياسة الأميركية في دمار العالم العربي وتفتيته وقتل وتشريد شعبه، وبينما هوليوود تستخدم لتخدير الشعوب وإلهائهم عن قضاياهم المحقة، تقوم أنت بالكتابة عن السينما الأميركية كما لو كانت السينما التي تستحق منا هذا الاهتمام، وتترك السينما المستقلة وسينما المؤلف التي هي المعبّر الحقيقي عن الفن السابع من دون اهتمام يذكر».
* هذا جزء من رسالة وصلتني على «فيسبوك» ولم تكن الوحيدة وذلك في الأسبوع الماضي، الأسبوع الذي بدأت فيه بتغطية مهرجان «مالمو» المستقل الذي لا علاقة له بهوليوود (وهوليوود ذاتها لا تسمع به). في طياتها أن السينما التي يجب أن نراها ونكتب عنها هي كذا، والباقي نهمله لأنه لا يتناسب ورؤانا لها، كما لو أن لدينا رؤية واحدة يجب ألا نخرج عنها.
* الرسالة لا تثير الضيق مطلقًا لأنها تضع الأصبع على مسألة عالقة منذ عقود طويلة ومفادها أن هوليوود سينما معادية وباقي سينمات الأرض سينما صديقة. المعادية تستحق أن تُرجم والصديقة تستحق أن يُحتفى بها. لكن هناك مغالطات ليس فقط بالنسبة لهذا المفاد بل أيضًا لأن «صفحة السينما» والمقالات اليومية المنشورة عن السينما وذلك في صحيفة «الشرق الأوسط» دائما ما حرصت على التنويع الفني والثقافي ومنابعهما فتقرأ عن السينما الأوروبية وعن السينما العربية وعن السينما الأميركية على حد سواء، ومن دون تحبيذ إلا للفن الجيد بصرف النظر عن مصدره.
* ذات مرّة في بداية عملي في السينما اتهمت بأني موال للسينما «السوفياتية» لأنني كتبت عن تظاهرة لأفلام روسية شملت أفلام المخرج الفذ أندريه تاركوفسكي (رغم أن هذا كان مكروها في بلاده) والمخرج المبهر سيرغي بارادغانوف (رغم أنه أودع السجن أكثر من مرّة). بعد أسابيع قليلة قيل إنني معاد للروس وهوليوودي الميول لأني أعجبت بفيلم أطلقته شركة كولومبيا عنوانه «نيكولاس وألكسندرا» وكان يمجد حياة القيصر الروسي وزوجته ويهاجم الثورة الشيوعية.
* بين الموقفين، وكلاهما خطأ، يضيع حق الفن من الاهتمام. كما لو أن الفيلم، الذي هو نتيجة فنية في المقام الأول، لا يستحق أن ينفصل عن المفاهيم السياسية التي تترعرع بين الناس وتؤدي بهم إلى تبني مواقف يصبح معها الفيلم برهانا لما يؤمنون به بعيدًا عن السينما * ذاتها.
* الناقد لا علاقة له بمن يدمر العالم وبمن يحمي العالم، تمامًا كموظف المصرف الذي يجلس وراء النافذة ليتعامل مع المودعين والزبائن. لا علاقة له بكيف جناه المودع ولا لمن سيدفعه وماذا سيفعل به. مسؤوليته التأكد من أن المبالغ المودعة أو المصروفة سليمة من التزوير وأنه لا يخطئ العد فيدفع أكثر أو أقل مما يجب. بالتأكيد هناك أفلام أميركية كثيرة قائمة على اللهو (ونحن لا نقصر في تناولها) لكن هناك أفلام أخرى تمنحنا رقيًا في التناول والعمق في المواضيع، تمامًا كما أن هناك سينمات غير أميركية لاهية ورديئة وأخرى رائعة وجميلة.
* هي حرية المشاهد أن يشاهد الفيلم الذي يريد وأن يكوّن الاتجاه الذي يرغبه. أن يرى في السينما الفن الذي نحتاجه لكي نرقى أو الأداة «المستخدمة لتخدير الشعوب» كما ورد في الرسالة. لنؤمن بحرية الفرد في التناول ونترك له رؤيته وتفسيره. أما الناقد (أي ناقد جيد) فهو بمثابة النافذة المشرّعة على كل ما هو سينما يتناولها من زاوية الفن الذي قامت عليه ولا يحبّذها أو يهاجمها لأنها قالت أو لم تقل ما يلتقي ورؤيته السياسية. لنفصل.



بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.