حلّ البرلمان البرتغالي يعد اليمين باسترجاع الحكم في أعقاب استقالة رئيس الحكومة

تحقيقات بملفات فساد أطاحت «منارة الأمل» الاشتراكية الأوروبية

رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
TT

حلّ البرلمان البرتغالي يعد اليمين باسترجاع الحكم في أعقاب استقالة رئيس الحكومة

رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)

مطلع العام الحالي، كان رئيس الوزراء البرتغالي المستقيل، أنطونيو كوستا، يتناول طعام العشاء في عاصمة بلاده لشبونة، محفوفاً بالمستشار الألماني لأولاف شولتس، ورئيس الحكومة الإسبانية الأسبق فيليبي غونزاليس، بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للحزب الاشتراكي البرتغالي الذي كان قد أسّسه في المنفى الدكتور ماريو سواريش. ويومذاك أسس سواريش الحزب برفقة مجموعة من المنشقّين عن ديكتاتورية أنطونيو سالازار التي امتدت من ثلاثينات القرن الماضي حتى سقوطها في عام 1974 عندما قامت «ثورة القرنفل»، التي قادتها مجموعة من الضبّاط الذين خدموا في مستعمرات البرتغال الأفريقية. في ذلك العشاء الاحتفالي، قال رئيس «الحزب الاشتراكي الأوروبي» ستيفان لوفين، وهو رئيس وزراء السويد الأسبق، إن كوستا «منارة أمل» بالنسبة للاشتراكيين الأوروبيين، بينما وصفه نظيره الإسباني بيدرو سانتشيز بـ«الحصن الاشتراكي المنيع»، وسط التيار الليبرالي في أوروبا. لكن في مطلع الأسبوع الفائت، خسر الاشتراكيون رئيس الوزراء الاشتراكي الوحيد في أوروبا الذي كان يحكم بغالبية نيابية مطلقة، إلى جانب المالطي روبرت أبيلا، عندما توجه أنطونيو كوستا إلى مقرّ رئاسة الجمهورية ليقدّم استقالته بعد الكشف عن فضيحة فساد تطول عدداً من أقرب معاونيه.

منطقة كوفاس دو بارّوسو (لوسا)

مضى أسبوعان تقريباً على استقالة أنطونيو كوستا، وما زال البرتغاليون في دهشة أمام هذه النهاية الصادمة لحقبة فريدة في تاريخ البرتغال السياسي امتدت ثماني سنوات. وللعلم، كان كثيرون يرجّحون أن تنتهي هذه الحقبة بمنصب رفيع يتولاه كوستا في إحدى مؤسسات «الاتحاد الأوروبي» الذي كان قد استقبله بتحفظ شديد وشكوك عندما وصل للمرة الأولى إلى الحكم في عام 2015 متحالفاً مع كتلة اليسار و«الحزب الشيوعي البرتغالي».

وحقاً، لم يكن أحد يتوقع، بداية الأسبوع الماضي، أن البرتغال ستبدأ، في اليوم التالي، رحلة البحث عن رئيس جديد للحكومة وزعيم للحزب الاشتراكي خلفاً لكوستا، في أعقاب إعلان المحكمة العليا أنها ستفتح تحقيقاً حول دوره في الموافقة على مشروعات كبرى في مجال الطاقة لإنتاج الهيدروجين الأخضر واستخراج الليثيوم. بيد أن كوستا عند مثوله أمام الصحافة ليعلن استقالته، قال نافياً أي ذنب: «أريد أن أقول للبرتغاليين وأنا أُحدّق في عيونهم: إن ضميري مرتاح من أي مخالفة أو تصرّف غير قانوني».

على أية حال، بعد استقالة كوستا، أصبح القرار بيد رئيس الجمهورية مارسيلو ريبيلو دي سوسا، الذي يجيز له الدستور حل البرلمان، والدعوة لإجراء انتخابات مسبّقة أو مبكرة، أو تكليف شخصية أخرى لتشكيل حكومة جديدة من «الحزب الاشتراكي» الذي يتمتع بغالبية واسعة في البرلمان. غير أنه بعد مشاورات مكثفة مع قيادات الكتل البرلمانية وأعضاء «مجلس الدولة»، قرّر رئيس الجمهورية إنهاء الولاية التشريعية التي كانت قد بدأت في ربيع العام الفائت بعد الانتخابات العامة، ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة ستُجرى في مارس (آذار) المقبل.

فرصة فرناندو ميدينا

من بين الأسماء التي بدأت تتداولها الأوساط السياسية لتشكيل الحكومة الجديدة قبل قرار دي سوسا حل البرلمان، وزير المال الحالي فرناندو ميدينا، المقرَّب من كوستا، والذي يحظى بتقدير واسع، حتى في بعض أوساط المعارضة التي فتحت هذه الأزمةُ المفاجئة نافذة غير متوقّعة أمامها للعودة إلى الحكم. إلا أن قرار الرئيس قطع عليه الطريق، على الرغم من إصرار «الحزب الاشتراكي» على استعداده لطرح اسم خليفة لسوسا، ما يفتح الآن أمامه باب زعامة الحزب التي أصرّ كوستا أيضاً على الاستقالة منها.

ولعلّ ما يزيد من حظوظ ميدينا الآن في تولّي قيادة «الحزب الاشتراكي» أن هذه الأزمة تتزامن مع مناقشة البرلمان الموازنة العامة التي تسجّل حدثاً غير مسبوق في تاريخ البرتغال الحديث. هذا الحدث هو انخفاض مستوى الدَّين العام إلى ما دون إجمالي الناتج المحلي، بحيث تصبح البرتغال، للمرة الأولى، خارج «نادي» الدول الأوروبية المثقلة بالديون. والواقع أن ثمة إجماعاً في الأوساط السياسية والاقتصادية، البرتغالية والأوروبية، على أن فرناندو ميدينا أحسن تطبيق سياسة «الحسابات الصحيحة» التي كان كوستا قد جعل منها العماد الأساسي لسياسة حكومته، وذلك منذ شكّل الحكومة، للمرة الأولى، في عام 2015، وتحوّلت، من ثم، إلى هاجسه الأساسي لمنع انزلاق البلاد مرة أخرى نحو الأزمة المالية والاجتماعية الخانقة التي تعرّضت لها عام 2011.

في المقابل، كانت تلك السياسة التقشفية الصارمة التي جعل منها كوستا العنوان الرئيس لإدارته، قد حالت دون إجراء الإصلاحات والاستثمارات الكبرى التي تحتاج إليها البرتغال، إلى أن جاءت مساعدات «صندوق الإنعاش الأوروبي» للنهوض من تبِعات جائحة «كوفيد-19». وقد تقرّر تخصيص جزء مهم من هذه المساعدات لتمويل مشروعات في مجال الطاقة بهدف وقف انبعاثات الكربون في الاقتصادات الأوروبية.

وبالفعل، سارع كوستا حينذاك إلى تبنّي هذا التوجّه، ليجعل منه أساس «الثورة الخضراء»، التي أمل أن تكون إرثه السياسي بعد ثماني سنوات من الحكم، ولا سيما بعدما أصبحت البرتغال - في عهده - رابع أكبر منتج أوروبي للطاقة المتجددة خلف كل من النمسا والسويد والدنمارك. وفي هذا السباق المحموم نحو «تصفير» انبعاثات الكربون، اعتمدت الحكومة الاشتراكية تخفيف القيود والشروط البيئية على الشركات، لتمكينها من الإسراع في تنفيذ مشروعاتها، وتحقيق هدف التصفير بحلول عام 2045. إلا أن تلك التسهيلات أدّت إلى منح تراخيص لمشروعات مثيرة للجدل، منها، مثلاً، منجم استخراج الليثيوم في منطقة كوفاس دو بارّوسو، المشهورة بمزاياها البيئية والزراعية الاستثنائية، التي استحقت معها أنْ أدرجتها «منظمة الأمم المتحدة» على قائمة «التراث الزراعي العالمي». وكان هذا أحد المشروعين الأبرز اللذين أثيرت حولهما الشبهات، إلى جانب مشروع ضخم لإنتاج الهيدروجين الأخضر... ومن ثم تحركت النيابة العامة لفتح تحقيق حول ملابسات الترخيص له.

انطونيو كوستا (إيبا إيفي)

الإنجاز الأبرز الذي حققته حكومة أنطونيو كوستا كان خفض الدَّين العام ومستوى العجز في الموازنة، لكنها أظهرت عجزاً واضحاً عن فتح قنوات للحوار مع بقية القوى السياسية

تحقيقات النيابة العامة

ما يجدر ذكره هنا أن النيابة العامة البرتغالية كانت قد باشرت تحقيقاتها، في أواخر عام 2019، وأسفرت، في مرحلتها الأخيرة، خلال الأسبوعين الأخيرين، عن إلقاء القبض على اثنين من أفراد الدائرة الضيّقة المقرَّبة جداً من أنطونيو كوستا، هما مدير مكتبه فيتور أسكاريا، وصديقه رجل الأعمال البارز ديوغو لاسيردا ماتشادو، وهذا، فضلاً عن توجيه تهمة الاشتباه الرسمي إلى وزير البنى التحتية جواو غالامبا. وقد سبق لغالامبا أن أثار جدلاً واسعاً حول أسلوبه وإدارته التي تسببت أخيراً في تعكير صفاء العلاقة المتينة التي كانت تربط كوستا برئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا، وذلك بعدما أصرّ كوستا على إبقائه في الحكومة، رغم سلسلة الفضائح التي شهدتها وزارته. هذا، وكان قد ورد، في بيان النيابة العامة، أن إلقاء القبض على أسكاريا وماتشادو جاء لقطع الطريق على احتمال فرارهما من وجه العدالة، ومواصلة الأفعال الجنائية والتحقيقات القضائية الجارية، لكشف جميع الملابسات، والتأكد من وقوع الفساد وسوء التصرف بالأموال العامة.

وإلى جانب ما تقدّم، كانت الشرطة القضائية البرتغالية قد نفّذت ما يزيد عن 40 عملية مداهمة، بما فيها مداهمات مقرّات رئاسة الحكومة ووزارات البني التحتية والبيئة، وعدد من المنازل الخاصة والمكاتب القانونية.

من جانبه، قال كوستا، لدى مثوله أمام وسائل الإعلام في القصر الحكومي: «كرامة المنصب تتعارض مع فتح التحقيقات من جانب المحكمة العليا... وأنا من واجبي أن أحافظ على كرامة المؤسسات الديمقراطية». ثم أكّد أنه ما كان على علم بالأفعال التي حرّكت شبهات النيابة العامة، لكن مجرّد الإعلان عن إخضاعه للتحقيق يمنع استمراره في منصب رئيس الحكومة. ثم أضاف: «أنا لستُ فوق القانون، وإذا كانت هناك شبهات فلا بد من التحقيق فيها». وحقاً، جاء في تسريبات نشرتها مجلة «إكسبريسو»، الواسعة الاطلاع، أن النيابة العامة كانت قد أخضعت مكالمات وزير البيئة السابق للتنصّت، بعد الاشتباه بضلوعه في أفعال جنائية. وقد تبيّن أنه تواصل مع رئيس الحكومة في أربع مناسبات، بحثا خلالها اجتذاب استثمارات أوروبية ودولية ضخمة لقطاع إنتاج الطاقة المتجددة في البرتغال.

غير أن المبادرة الجريئة، التي صدرت عن كوستا بتقديمه استقالته، فور إعلان المحكمة العليا إخضاعه للتحقيق - والتي كانت موضع تقدير وثناء في الأوساط السياسية والشعبية - لا تحجب الحالات الكثيرة التي تعرّض فيها عدد من وزرائه لشبهة الفساد في السابق، وانتهت بخروجهم من الحكومة؛ ليس بضغط من رئيس الحكومة، بل بفعل التحقيقات القضائية وتبِعاتها.

استحقاقان صعبان للاشتراكيين

على صعيد آخر، يرجّح المطّلعون أن السبب الرئيس الذي حدا برئيس الجمهورية البرتغالي إلى رفض التجاوب مع الدعوات لتكليف شخصية من الغالبية البرلمانية الاشتراكية لتشكيل حكومة جديدة، أنه في أعقاب انتخابات العام الفائت التي نال فيها «الحزب الاشتراكي» الغالبية المطلقة، أبلغ كوستا صراحةً بأن الغالبية هي، في المقام الأول، له شخصياً. وهو ما يعني أن رحيله لتولي منصب أوروبي رفيع - كما كان متداولاً - يعني نهاية الولاية التشريعية للبرلمان المنتخب.

مهما يكن من أمر، فإن الإنجاز الأبرز الذي حققته حكومة أنطونيو كوستا كان خفض الدين العام ومستوى العجز في الموازنة، لكنها في المقابل أظهرت عجزاً واضحاً عن فتح قنوات للحوار مع بقية القوى السياسية الممثلة في البرلمان والنقابات العمالية. واليوم، يواجه الاشتراكيون استحقاقاً صعباً على جبهتين:

الأولى هي التوافق على زعيم جديد للحزب الذي يعاني انقسامات داخلية كان كوستا قادراً على تهدئتها.

والثانية تجاوز الإرث الصعب الذي تركته فضائح الفساد التي دفعت كوستا إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الرئيس المستقيل كان قد خصّص قسطاً كبيراً من جهوده لتطهير الحزب من أدران الفساد الذي كان قد نخره على عهد رئيس الوزراء الأسبق، خوسيه سوقراطيس، الذي حُكم عليه بالسجن عام 2014 بسبب ضلوعه في فضيحة فساد مالي.

وضع معسكر اليمين

على الجانب اليميني، «الحزب الاجتماعي الديمقراطي» اليميني وحده قادر على تغيير المعادلة البرلمانية الراهنة، وخصوصاً إذا أُجريت الانتخابات المسبّقة، بعدما يكون القضاء قد أصدر أحكام الإدانة في قضايا الفساد التي هزّت أركان الحزب الاشتراكي.

والحقيقة أن الاجتماعيين الديمقراطيين يرون في الأزمة الراهنة فرصة ذهبية للعودة إلى الحكم، غير أن حزبهم سيحتاج إلى التحالف مع أحزاب أخرى، وخصوصاً مع «حزب المبادرة الليبرالية»، والحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي حقق صعوداً لافتاً في الانتخابات الأخيرة. ووفق المراقبين والمحللين، تبدو حظوظ «الحزب الاجتماعي الديمقراطي» في التحالف مع القوى اليمينية أوفر بكثير من حظوظ الاشتراكيين في التحالف مع أحزاب اليسار الذي قطع معهم خطوط التواصل في الفترة الأخيرة بسبب من السياسة الوسطية واليمينية التي انتهجتها حكومة كوستا.

وهنا، يقول المراقبون في الأوساط السياسية البرتغالية إن الدرس الذي أعطاه أنطونيو كوستا في الأخلاقيات السياسية، يوم الثلاثاء الفائت، عندما هرع إلى رئيس الجمهورية لتقديم استقالته فور الإعلان عن إخضاعه للتحقيق، وقوله إنه لا يعرف بالضبط التهم الموجهة إليه، لا يعفيه من مسؤولية تطبيق معاييره للنزاهة على أقرب معاونيه، ولا سيما أن كثيرين كانوا قد حذّروه من عواقب «الصداقة المتينة» التي تربطه برجل الأعمال المثير للجدل، ديوغو لاسيردا ماتشادو.

وللعلم، تعود الصداقة بين الرجلين إلى أيام الدراسة الجامعية في كلية الحقوق بجامعة لشبونة، وظلت تتوطّد إلى أن طلب كوستا من صديقه أن يكون إشبينه (مرافقه المقرَّب) يوم زفافه، كما أصرّ على أن يبقى قريباً منه منذ أن تولّى رئاسة الحكومة. وبعدها، كانت أول مهمة كلّف كوستا صديقه بتوليها هي تأميم شركة الطيران الوطنية «تاب»، بعدما كانت الحكومة السابقة قد وضعتها في يد القطاع الخاص، ليتولّى ماتشادو بعد ذلك رئاسة مجلس إدارتها.

بعد ذلك عاد كوستا وكلّف ماتشادو بإدارة الأزمة مع المتضرّرين من أزمة انهيار مصرف «سبيريتو سانتو»؛ أحد أكبر المصارف البرتغالية وأعرقها، ثم كلّفة بتسوية النزاع بين مصرف «كايشا» وابنة الرئيس الأنغولي الأسبق جوزيه إدواردو دو سانتوس؛ الملاحَقة دولياً في عدد من قضايا الفساد واختلاس المال العام. وقد تمّ ذلك التكليف دون أن يُخضع لرقابة الإدارة العامة، ما تسبَّب في عاصفة من الانتقادات والجدل دفعت كوستا إلى اتخاذ قرار بالتعاقد مع صديقه براتب رمزي قدره 2000 يورو شهرياً. وهنا أيضاً تجدر الإشارة إلى أن ماتشادو، الذي تدور حوله معظم الشبهات في هذه الفضائح التي أدت إلى استقالة كوستا، لا ينتمي أصلاً إلى «الحزب الاشتراكي»، بل كان فقط مستشاراً لكوستا عندما تولّى هذا الأخير حقيبة العدل في الحكومة التي ترأسها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ولعلّ ما يستحق الإشارة في هذا السياق أن صداقة وطيدة تربط غوتيريش برئيس الوزراء المستقيل كوستا.

وإلى جانب كل ذلك، كان مدير مكتب كوستا، فيتور أسكاريا الذي أُلقي القبض عليه أيضاً، قد اضطر للاستقالة عام 2017 من منصبه بصفته مستشاراً اقتصادياً لرئيس الوزراء بسبب فضيحة قبوله هدايا ودعوات لرحلات سياحية مع أسرته لحضور نهائيات «كأس الأمم الأوروبية» في فرنسا عام 2016.

 

ببدرو نونو سانتوس (لوسا)

خلافة كوستا بين خياري الاستمرارية والتوجه يساراً

> تحولت البرتغال، خلال السنوات الماضية، بفضل قيادة أنطونيو كوستا ومهارته في فتح قنوات الحوار مع الخصوم السياسيين والتوافق على القضايا الكبرى، إلى قدوة في الاستقرار السياسي الديمقراطي والعمل الطبيعي للمؤسسات العامة في محيط أوروبي دائم التأرجح على شفا الأزمات والاهتزازات السياسية. ورغم خطورة الفضائح التي أدَّت إلى استقالة كوستا، ينبغي التوقف عند ظاهرتين: الأولى موقف كوستا الذي، رغم الغالبية الواسعة التي تؤيده في البرلمان، قرر الاستقالة، لإدراكه مدى الضرر الذي يلحقه بقاؤه في المنصب، خلال الإجراءات القضائية، بالمؤسسات العامة. والثانية تأكيد استقلالية القضاء البرتغالي الذي يؤدي عمله دون أن يتأثر بمستوى المسؤولية العامة التي يتولاها الأشخاص الذين يخضعون لملاحقة الأجهزة وتحقيقاتها. ولا شك في أن قرار رئيس الجمهورية مارسيلو ريبيلو دي سوسا بإجراء الانتخابات المسبقة على أعتاب الربيع المقبل، هو لإفساح المجال الكافي أمام «الحزب الاشتراكي» كي يعيد تنظيم صفوفه وانتخاب زعيم جديد في الأشهر المقبلة. ووفق المعطيات الراهنة، بين الأسماء الأخرى التي ينتظر أن تنافس فرناندو ميدينا على زعامة الحزب، الوزير السابق للبنى التحتية بيدرو نونو سانتوس. وكان هذا الأخير قد استقال من حكومة كوستا في عام 2021، بعد تفاقم الخلاف بينهما حول سياسة التحالفات البرلمانية لتعزيز الغالبية التي تتمتع بها الحكومة في البرلمان. هذا، ويقود نونو سانتوس التيار الذي يدعو إلى الانفتاح على الأحزاب اليسارية، ومنها «الحزب الشيوعي»، والعودة إلى اتباع سياسة يسارية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، في حين كان كوستا مؤيداً للانفتاح على الأحزاب الوسطية، واتباع سياسة اقتصادية أقرب إلى البرنامج الليبرالي، مع تخفيض الخدمات الاجتماعية للطبقة العاملة وموظفي القطاع العام.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».