الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز... أهم قرارات بناء الدولة والمؤسسات والإرث الممتد

«الشرق الأوسط» تنشر مراسلات خاصة وتفاصيل تُكشف لأول مرة

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
TT
20

الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز... أهم قرارات بناء الدولة والمؤسسات والإرث الممتد

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز

حظي تاريخ الملك عبد العزيز على مدى عقود باهتمام المؤرخين والباحثين على اختلاف توجهاتهم وجنسياتهم، وغطت عشرات البحوث والدراسات والمؤلَّفات جوانب متنوعة من ذلك التاريخ، سواء ما يتعلق بسيرة الملك السياسية، وشخصيته القيادية، وفكره الاستراتيجي، ومهاراته العسكرية، ورؤيته النهضوية... فذلك ليس تاريخ ملك فحسب، وإنما تاريخ مملكة وسيرة أمة.

يصف الكاتب والدبلوماسي، خير الدين الزركلي، كيف أنه في أقل من 50 عاماً نجح «رجل واحد في أن ينشئ بين البحر الأحمر وخليج العرب ما عجز 12 قرناً عن إنشائه أو الإتيان بمثله». ووصف الزركلي ذلك بالقول: «إمارات تتوحد، وأمة تتكون، ودولة تُبنى، وحضارة تُشَيَّد».

وإلى ذلك، يضيف الأديب والمؤرخ السعودي محمد حسين زيدان: «الملك عبد العزيز تاج تاريخه. لقد رد الاعتبار لجزيرة العرب في وحدة الكيان الكبير». أما الكاتب والصحافي البريطاني، سيسيل روبرتس، فيشرح كيف «ملأ الملك عبد العزيز فراغاً كبيراً في التاريخ، باسطاً ملكه على مساحة تقارب مساحات إنجلترا وفرنسا وألمانيا مجتمعة»، ويضيف: «لقد غنم ملكاً باذخاً بسيفه، وأمن حمايته بالسياسة».

الملك عبد العزيز وقد شارف على السبعين من عمره
الملك عبد العزيز وقد شارف على السبعين من عمره

ويرجَّح أن يكون الملك؛ الذي عاش نحو 80 عاماً، قد وُلد في عام 1293هـ - 1876م في مدينة الرياض، بينما سُجلت وفاته في 2 ربيع الأول 1373هـ - 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1953م في مدينة الطائف. ورغم مرور 7 عقود على رحيله؛ فإن وقائع كثيرة أحاطت بتلك الوفاة تحتاج إلى تجلية، وأخرى إلى إيضاح، وثالثة إلى تصويب، وغير هذه وتلك؛ هناك ما يقتضي التدقيق والتثبت أيضاً. وغاية هذا البحث توثيق وقائع الوفاة وما رافقها من ردود فعل رسمية وشعبية من جهة، وأيضاً الإشارة إلى أبرز قرارات الملك المؤسس في أواخر أيامه، وما أوكله من مهام، وأصدره من أوامر وتعليمات، تثبت استقرار البلاد، وترسخ رؤيته في بناء الدولة ودعائمها، والحفاظ على أمنها واستقرارها؛ فالملك عبد العزيز لم يكن حاكماً فحسب، بل صاحب رسالة، وباعث نهضة، وباني دولة، وموحد أمة.

وما يقتضي التدوين والتوثيق أيضاً، طريقة تعامل أبناء الملك عبد العزيز مع ذلك الحدث الجلل؛ فرغم مصابهم بالفقد الكبير، فإن مهمتهم الهائلة في تحمُّل مسؤوليات حكم، وترتيب انتقال سلطة، وتأمين استقرار بلاد، وإدارة شؤون دولة لم تنل أيضاً حقها كاملاً من التوثيق. فما اصطلح الدستوريون على تسميته «فراغ السلطة» في حالات كثيرة؛ أحد أكثر الأوقات حرجاً في تاريخ الدول، هو مما لم تعرفه المملكة العربية السعودية طوال تاريخها. ولا شك في أن مرد ذلك هو المرجعية التي اعتمدتها مؤسسة الحكم، والسوابق الدستورية التي أقرتها، وحرص الملك عبد العزيز على وضع آلياتها قبل وفاته، لا سيما الأشهر الثلاثة الأخيرة من حياته التي يرصدها هذا العمل.

وإذ يسجل شهر نوفمبر الحالي ذكرى مرور 70 عاماً على وفاة الملك عبد العزيز، سنحاول الإجابة عن كثير من التساؤلات التي تتعلق بذلك التاريخ المهم في المملكة العربية السعودية، والذي تزامن مع انتقال مقاليد الحكم إلى أبناء الملك عبد العزيز، بما يحمله من دلالات وأثر على ما تلته من مراحل.

الرحلة الأخيرة

الملك على «الحصان» وهو كرسي متحرك أهداه إياه الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت
الملك على «الحصان» وهو كرسي متحرك أهداه إياه الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت

لم تعلم الحشود التي توافدت إلى ساحة مطار الرياض فجر السبت 28 ذو القعدة 1372هـ - 8 أغسطس (آب) 1953م لتوديع الملك المؤسس، أنه سيكون الوداع الأخير. وفي ذلك الفجر أنهى الملك صلاته، وخرج بموكبه لآخر مرة من بوابة «قصر المربع» قاصداً المطار وقد بدت عليه أعراض التقدم في العمر، وكان منذ نحو 8 سنوات (1364هـ - 1945م) غير قادر على المشي، ويعتمد في حركته على «الحصان» وهو كرسي متحرك أهداه إياه الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت.

وبفيض من المشاعر، يصف الأديب والتربوي السعودي السيد أحمد علي الكاظمي لقاء الملك على عربته عام 1370هـ - 1950م، فيقول: «كنا دخلنا المجلس قبل الملك، ثم بعد قليل جاء جلالته راكباً عربة صغيرة جميلة ذات عجلتين كبيرتين من خلف وعجلتين صغيرتين من أمام، وفوق رأسه مظلة يدفعها أحد المرافقين. وبرؤيته في هذه العربة تذكرت أشياء كثيرة مرت بذاكرتي مرور الطيف والحلم، وكلها تدل على التوفيق الذي رافق هذا الرجل طوال حياته، منذ خروجه لطلب مُلك آبائه. سلسلة من نعم الله التي يسبغها عليه ويغدق عليه بها؛ وذلك - لا شك - جزاء حسن نيته وأعماله الطيبة».

وكان الملك قد أطلق على عربته تلك التسمية المحببة (الحصان)، واستحسن استخدامها؛ ما جعله يترك المشي على قدميه مع تقدم السن والإصابة بتصلب الشرايين، إضافة إلى قلة النوم، والإجهاد بمتابعة شؤون الدولة؛ فهو لم ينم أكثر من 4 إلى 6 ساعات في اليوم، وأصيب بعدد من النوبات التي أثرت في صحته.

ويبقى أن كاريزما الشخصية وهيبة الملك وقوة الحضور لم تغب، كما ظل ملازماً ذلك الحب الكبير من الشعب الوفي لأبي الأمة. وكان الملك رغم ظروفه الصحية عازماً على السفر إلى الطائف للإشراف بنفسه على موسم الحج ذلك العام.

ومع شروق الشمس غادرت الطائرة الملكية من طراز «دي سي 4 سكاي ماستر» الرياض في نحو الساعة 5:30 صباحاً، وكأن شروق شمس ذلك اليوم وبسط أشعتها على هضبة نجد يذكران بشروق شمس الملك عبد العزيز على الرياض قبل ذلك التاريخ بأكثر من 50 عاماً وانطلاقه لتوحيد الجزيرة، وبسط حُكمه عليها بعد قرون من الشتات.

ولا أعلم إن كان أحد في تلك الطائرة المقلعة إلى السماء يتصور أنها الرحلة الأخيرة، وأن شمس الملك عبد العزيز تؤذن بالمغيب، وسط إقلاع سرب من الطائرات أقلّت مرافقي الملك من الأمراء وكبار رجالات الدولة والحاشية والحرس.

الاستقبال في الطائف

الملك عبد العزيز ينزل من طائرته
الملك عبد العزيز ينزل من طائرته

وفي تمام الساعة 8:20 صباحاً حطت الطائرة الملكية في مطار «الحوية»، وصعد إليها ولي العهد الأمير سعود ونائب الملك في الحجاز ووزير الخارجية الأمير فيصل للترحيب بمقدم عاهل الجزيرة. وعلى أرض المطار اصطفت الحشود من أمراء وعلماء ووزراء وأعضاء مجلس شورى وكبار التجار وقادة الجيش ورؤساء القبائل وعمد المحلات وجموع غفيرة من أبناء الشعب السعودي.

وبعد ذلك، أدت الفرقة العسكرية التحية لجلالته، وعُزف السلام الملكي، ودوّى المطار بالتصفيق، وأقيم سرادق كبير للاستقبال توافدت إليه الحشود قادمة من مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف وضواحيها لتحية الملك.

وألقى نائب رئيس مجلس الشورى وشاعر جلالة الملك أحمد بن إبراهيم الغزاوي قصيدة ترحيبية قال فيها:

-وأقبلت بك في الأجواء أجنحة

-مسخرات تشق المزن والأفقا

-ما أن تحلق باسم الله موغلة

-إلا وضوؤك فيها يغمر الحدقا

ثم غادر الموكب الملكي مطار الحوية متجهاً إلى الطائف، بينما اصطف أبناء القرى على جانبي الطريق يحيون مليكهم المفدى. وما إن وصل الموكب مدخل الطائف حتى أطلقت المدفعية 21 طلقة ترحيبية، واصطف أشبال أبناء المدارس العسكرية مؤدين التحية ومرددين عبارات الترحيب والإخلاص، كما اصطفت الجماهير على جانبي الطريق الممتدة من مدخل الطائف إلى القصر (طريق الملك فيصل حالياً) منشدين الأهازيج الوطنية. وازدانت الطريق بأقواس النصر والزينات والرايات السعودية التي رُفعت في جميع شوارع الطائف وأسواقها. وكان الأمير فيصل قد أعد قصره الجديد (قصر العقيق حالياً) ليكون مقراً لسكن الملك عبد العزيز، وسيرد تعريفه تالياً بـ«القصر الملكي»، واستأجر «الأمير» فيصل فيلتين في حي العزيزية من أمير الطائف وقتذاك عبد العزيز بن معمر، وانتقل للسكن فيهما مع أسرته.

وعند وصول الموكب إلى القصر الملكي أُدِّيت التحية العسكرية، وعُزف السلام الملكي. وفي مساء اليوم نفسه استقبل الملك وفوداً من أهالي الطائف، وأُلقيت خلال الاستقبال قصيدة لوجيه الطائف الأديب عبد الوهاب عرب، وكلمة الأهالي ألقاها نيابة عنهم المدرس بالمدرسة العزيزية الأستاذ أحمد كمال. واستمر برنامج الملك في استقبال الوفود الرسمية والشعبية، وتصريف شؤون الدولة، ووصفت ذلك الجريدة الرسمية بالقول: «لا يزال القصر الملكي العامر بمدينة الطائف يكتظ كل يوم بالوفود من مختلف الطبقات للتشرف بالسلام على جلالة مولانا الملك المفدى، والترحيب بمقدم جلالته الميمون، فيتفضل جلالته بمقابلتهم، ويغمرهم بعواطفه الملكية الكريمة، إلى جانب استمرار جلالته في تصريف شؤون الدولة، وإدارة سياستها العليا، وتوجيه وزاراتها وإداراتها المسؤولة. مع النظر والإيجاز في ما يرفع إلى أعتاب جلالته من المعاملات والمعروضات».

أما الزركلي فوصف مشهداً مختلفاً فقال: «لما أقبلت للسلام عليه، رأيته جامد البصر، لم يعرفني ولم يعرف أحداً من مقبِّلي يده أو جبهته، وفيهم بعض خواصه والمقربين منه، فارتعدت فريصتاي وحزنت. وفي ذلك العام لم يتمكن من ترؤس الحج، فناب عنه ولي عهده الأمير (الملك) سعود». ولعل الملك كان يصاب بحالات وهن وإرهاق لا يعود فيها قادراً على التركيز الكامل، يعود بعدها إلى طبيعته، ويستجمع قواه.

وروى الكاظمي وغيره شيئاً عن حال الملك في سنواته الأخيرة، وكيف لم يعد يخرج إلى البر أو المقناص، ولا يتحدث مع جلسائه كما في السابق، وأنه في أغلب الأوقات «يجلس ساكناً»، لكنه يبت في ما يُعرض عليه من معاملات، ويعلق على الأخبار. ولا بد لمن يقرأ تاريخ الملك عبد العزيز أن يدرك أن متاعبه الصحية إنما هي نتيجة حتمية لرجل مثله وحّد بلاداً مترامية الأطراف من فوق صهوة جواده، وتعرض لعشرات الجروح والإصابات بعضها معلوم وأخرى لم يُفصح عنها، وسط ضغوط وتحديات هائلة لبناء الدولة، بينما بدأت في السنوات الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز زيادة صلاحيات ومهام ولي العهد، وسجلت سنة 1370هـ - 1951م الحجة الأخيرة للملك المؤسس.

الحج وزيارة نجيب

الملك عبد العزيز مولماً للرئيس المصري محمد نجيب وخلفهما الأمير طلال والأمير (الملك) سلمان
الملك عبد العزيز مولماً للرئيس المصري محمد نجيب وخلفهما الأمير طلال والأمير (الملك) سلمان

بقي الملك في الطائف يتابع شؤون الحج والحجيج، ويتلقى التقارير عما تقوم به أجهزة حكومته للتسهيل على ضيوف الرحمن لأداء نسكهم بكل أمن وسلامة. ومع شروق شمس يوم الخميس 10 ذو الحجة 1372هـ - 20 أغسطس 1953م توجه الموكب الملكي إلى مصلى العيد بالطائف، شمال شرقي القصر الملكي، وتبعد بوابته عن بوابة القصر أقل من كيلومتر واحد. وبعد أداء صلاة عيد الأضحى، عاد إلى القصر، واستقبل المهنئين، وتبادل برقيات التهاني مع القادة والمسؤولين، واستمر في متابعة سير أعمال الحج.

في هذه الأثناء أشرف ولي العهد على شؤون الحجيج، وتأمين سلامتهم وصحتهم، وقد بلغ عددهم نصف مليون حاج، وكان ذلك رقماً قياسياً. وأعلنت وزارة الصحة سلامة الحج من الأوبئة والأمراض، وصادف ذلك العام اكتمال 30 موسم حج تحت حكم الملك عبد العزيز، أَوْلَى خلالها الحرمين الشريفين جل اهتمامه من حيث العمارة والتوسعة والعناية والرعاية، كذلك وطّد الأمن، وأمَّن السبل، ووفَّر الخدمات والماء والغذاء، وسخَّر إمكانات الدولة لخدمة ضيوف الرحمن، وكثير من ذلك لم يكن متوافراً من قبل.

وعصر يوم الأحد 13 ذو الحجة 1372هـ - 23 أغسطس 1953م استقبل الملك عبد العزيز في القصر الملكي بالطائف الرئيس المصري اللواء محمد نجيب الذي وصل إلى الطائف بعد أداء مناسك الحج وهي الزيارة الخارجية الأولى للرئيس المصري بعد ثورة يوليو (تموز) 1952م. وبعد مغرب اليوم نفسه أقام الملك حفلة عشاء تكريماً للرئيس ومرافقيه حضرها الأمراء وكبار رجالات الدولة. وبعكس المتداول بأن لقاء الزعيمين حدث في قصر جبرة، وهو قصر ضيافة أُعد لإقامة ضيف البلاد، فإن اللقاء وحفل العشاء أقيما في القصر الملكي (قصر العقيق حالياً). ووثقت البعثة المصرية تلك الزيارة، وأنتجت فيلماً توثيقياً عنها مع مجموعة من الصور الفوتوغرافية منها الصورة الشهيرة على المائدة، يقف فيها الأمراء طلال وسلمان خلف والدهما الملك عبد العزيز. وهذه الصورة تحديداً من الصور التي يعتز بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وجعلها تتصدر قاعة الطعام الكبرى في قصر العوجا؛ فهي تدل على خدمته المتصلة لدولته وقيادته، وعلى ما رباه وإخوته عليه والدهم، وهو ما أدى إلى تفانيه في ما أوكل إليه من مهام وما تولاه من مناصب، إضافة إلى ما اكتسبه من خبرات وتجارب على مدى 7 عقود. وكما تخرج سلمان في مدرسة الملك عبد العزيز، خرّجت مدرسة سلمان، محمد بن سلمان، وهذا الإرث العظيم هو ما يجني ثماره الشعب السعودي اليوم.

المراسيم والمهام الأخيرة

الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز
الملك عبد العزيز في عرض عسكري في الطائف وقد بدا جلوساً الأمير سعود الكبير والأمير (الملك) سعود بن عبد العزيز

وفي يوم 15 ذو الحجة 1372هـ - 25 أغسطس 1953م أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بإسناد القيادة العليا العامة لجميع القوات المسلحة السعودية لولي العهد (الأمير) سعود، ونص المرسوم على أن ترتبط قوات الدفاع والحرس والأمن العام وأهل الجهاد والمجاهدين بالقائد الأعلى.

وعصر يوم 17 ذو الحجة – 27 أغسطس شرّف الملك عبد العزيز العرض العسكري للقوات المسلحة، ووصف مندوب الإذاعة عبد الله المزروع المناسبة بـ«العرض التاريخي العظيم، وأنه أعظم عرض عسكري يقام في الطائف، وأشرف عليه الأمير مشعل وزير الدفاع، وأقيم في الساحة الفسيحة التي أمام القصر الملكي (ساحة العقيق)، وحضره نحو 50 ألف مشاهد، وسجلته بعثة الإذاعة. واشترك في العرض طلاب المدارس الحربية ووحدات المشاة والمدفعية والرشاش والصحة والقوات الميكانيكية... وغيرها، كما تضمن العرض استعراضاً جوياً لسلاح الطيران». ووفق ما رُصِدَ، كان ذلك العرض من أواخر المناسبات العامة التي يظهر فيها الملك عبد العزيز أمام الجمهور الذي اصطف لتحيته.

وبتاريخ 28 ذو الحجة 1372هـ - 18 سبتمبر (أيلول) 1953م، أصدر الملك عبد العزيز مرسوماً ملكياً بتأسيس وزارة المواصلات، وتعيين الأمير طلال بن عبد العزيز وزيراً لها. وفي 1 المحرم 1373هـ - 20 سبتمبر 1953م أصدر مرسوماً آخر بالموافقة على نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي، وشمل النظام: تشكيل رئاسة القضاة، وتفتيش المحاكم الشرعية، وبيان اختصاصاتها وصلاحياتها، وبيان اختصاصات وصلاحيات رؤساء المحاكم والقضاة وكتاب المحاكم الشرعية، والمحضرين، وكتّاب العدل، ومأمور بيت المال ومعاونيه... وغيرها.

وتجدر الإشارة إلى أنه خلال تلك المدة كانت هناك حوادث محلية وإقليمية وعالمية، كما استمر استقبال الملك الوفود الرسمية في القصر الملكي بالطائف؛ إذ استقبل بعد موسم الحج رئيس وزراء اليمن الأمير سيف الإسلام الحسين، ووزير الأوقاف المصري الشيخ أحمد حسن الباقوري، ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني، ودولة رئيس وزراء لبنان السابق صائب سلام، والوزير اللبناني المفوض في جدة غالب الترك.

وبتاريخ 13 المحرم 1373هـ - 22 سبتمبر 1953م، وبعد اطلاعه على التقرير السنوي المرفوع لجلالته عن أعمال مجلس الشورى، أصدر مرسوماً ملكياً بتمديد مدة المجلس عاماً كاملاً.

وكان آخر خبر من المصادر الرسمية عن نشاط الملك عبد العزيز في الطائف هو استقباله المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ يوم 1 صفر 1373هـ - 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1953م. وفي التاريخ نفسه أصدر الملك أحد أهم المراسيم الملكية وآخرها، وتقضي بتشكيل مجلس الوزراء، وإسناد رئاسته إلى ولي العهد الأمير سعود. وأسند ولي العهد رئيس مجلس الوزراء نيابة رئاسة المجلس إلى الأمير فيصل. ويلاحظ هنا أن الملك عبد العزيز كان يريد استكمال البناء المؤسسي للدولة قبل وفاته، وتنظيم مؤسسة الحكم وتراتبية الخلافة. وبعد ذلك التاريخ وحتى وفاة الملك المؤسس كانت الأخبار تركز وبشكل واضح على نشاطات ولي العهد رئيس مجلس الوزراء القائد الأعلى العام للقوات المسلحة.

صحة الملك والفريق الألماني

وكانت صحة الملك عبد العزيز قد بدأت تتراجع في الشهر الأخير من حياته، وراجت شائعات بأن الأطباء أشاروا عليه بالسفر للرياض بسبب عدم ملاءمة أجواء مدينة الطائف لصحته لارتفاعها. وكانت هناك استعدادات للسفر، وتكرر الحديث عن سفر الملك ثم العدول عنه، وقيل إنه لم يكن مرتاحاً للسفر.

ويروي الدكتور أمين رويحة رئيس أطباء الجيش السعودي وأحد أعضاء الفريق الطبي الذي أشرف على علاج الملك عبد العزيز في الطائف، أن الملك كان يعاني مرضاً يسمى «التهاباً مفصلياً مشوهاً» تفاقم على مر السنين، وأدى إلى صعوبة حركته، ثم أصيب في أواخر حياته بتصلب في الشرايين. ولم تكن الطائف رغم جودة مناخها تناسب حالته الصحية؛ وذلك بسبب ارتفاعها عن سطح البحر لما يقارب 1700 متر. وازدادت النوبات بعد وصوله للطائف فرأى الأمراء جلب فريق طبي من ألمانيا لمعالجته، وكلف الدكتور رويحة بذلك، ووصل 3 من الأطباء الألمان وبقوا أسبوعاً، أجروا خلاله الفحوصات، وقرروا العلاج المناسب، وشعر معهم الملك بالارتياح، لكن النوبات لم تنقطع.

ويضيف الدكتور رويحة: «كان يشرف على علاج الملك وتنفيذ توصيات الأطباء، طبيب جلالته الخاص الدكتور مدحت شيخ الأرض، الذي استدعاني في صباح أحد الأيام على عجل، فتوجهت مع اثنين من الزملاء، ودخلنا على الراحل في مقر إقامته بقصر الأمير فيصل، فرأيناه جالساً على كرسيه بقامته المديدة وطلعته الجبارة، وقد احتقن وجهه بالزرقة بسبب ما يعانيه من ضيق التنفس. ورغم ذلك كله لم يكن يشكو أو يئن، بل كان يحوقل ويتشهد، وتطلب الأمر إجراء تخطيط كهربائي للقلب ما استدعى إبعاد أي جسم معدني. فاستأذنا نزع الخاتم من إصبعه وهو خاتم ذو فص نقش عليه اسمه، فابتسم طيب الله ثراه وقال: «إنها المرة الأولى التي أنزع فيها هذا الخاتم من إصبعي». وكانت عبارته هذه بمثابة طعنة أصابتني في قلبي؛ لأنني عَدَدْتُها تنبؤاً بالنهاية المنتظرة من الوجهة الطبية. ومع ذلك بقي يلاطفنا ويجاملنا بطيب الحديث طيلة مدة الفحص، وبعد أن حقنه الدكتور مدحت بإبرة طلبنا من الملك أن يرتاح. وحينما عدنا بعد الظهر وجدناه قد عاد إلى كرسيه وبين يديه الشيخ عبد الرحمن الطبيشي يعرض عليه البرقيات».

وصل مرض الملك إلى مرحلة لم تعد تجدي معها الأدوية أو المسكنات، وكان أبناؤه من حوله. يقول الأمير نواف بن عبد العزيز إن الملك عبد العزيز في أحد أواخر أيامه استيقظ فرأى أبناءه متحلقين بجوار سريره فقال: «أنتم ليه مجتمعين هنا؟ أنتم إيش جايبكم تجتمعون عندي؟ أنت يا سعود وش جابك؟ رح اهتم بأمور المسلمين، وارجع إلى جدة، لأن الناس لو شافوكم مجتمعين عندي سيشعرون بشيء سيئ، أو أنكم أهملتم شؤونهم، روحوا كل واحد يهتم بشؤونه». وأمر ولي العهد سعود أن يعود إلى جدة ويدير أمور الدولة، فاتفق ولي العهد مع طبيب الملك الدكتور مدحت أن يتصل عليه عندما تتطور الحالة ويقول له: «خلي أديب يجيب معه الأدوية» وكانت شفرة ليعرف أن حالة الملك حرجة.

قصر الملك السكني ويسمى «قصر الملك عبد العزيز الشمالي المسلح» في الرياض
قصر الملك السكني ويسمى «قصر الملك عبد العزيز الشمالي المسلح» في الرياض

مع البنات

وقبل 3 أيام من وفاته أتى بعض بنات الملك عبد العزيز لزيارته والاطمئنان عليه، وكانت حالته غير مستقرة، ومع حقنه بالأدوية والمسكنات غدا أكثر الوقت نائماً. وحين دخلن الغرفة وجدنه على السرير وجزء من شماغه قد غطى وجهه. قبّلت البندري بنت عبد العزيز يد والدها، وتبعتها الأخريات دون أن يشعر بهن. كان لقاءً من طرف واحد. ورأت البنات أباهن بحالة لا تسر فخرجن يكفكفن الدموع، ويستعدن ذكرياتهن معه وهو الذي لطالما أحاطهن بحنانه، لا سيما أن للمرأة دوراً كبيراً في حياته، وكثيراً ما افتخر وانتخى بها ونقل عنه قوله: «أنا أخو نورة». وبالتزامن مع فترة اشتداد المرض على الملك كان مقرراً أن يتزوج (الأمير) سلمان بن عبد العزيز من ابنة خاله الأميرة سلطانة بنت تركي السديري، وسبق للملك أن بارك ذلك. وفي إحدى الليالي كانت الأميرة حصة بنت أحمد السديري والدة فهد وسلطان وعبد الرحمن وتركي ونايف وسلمان وأحمد أبناء عبد العزيز ترعى شؤون الملك وتلاحظه، فأفاق وسألها: «هل تزوج سلمان؟». فأجابت أنه قرر تأجيل زواجه حتى يشفيك الله، فرد: «الله يبارك في سلمان» وكررها، وهي تؤمّن على دعائه. هذه التفاصيل وغيرها كثير من القصص عن علاقة الملك عبد العزيز بزوجاته وأولاده بنين وبنات تستحق أن توثق، علماً أن هناك نقصاً في الدراسات المتعلقة بأدوار زوجات الملك عبد العزيز وبناته أفقدنا الكثير من المعلومات عن دور المرأة في تأسيس وبناء الدولة.

الرحيل

يصف الأمير نواف تفاصيل الساعات الأخيرة من حياة الملك عبد العزيز الذي كان يقيم في غرفة بالدور الأرضي من قصر الأمير فيصل، وكان الأمير نواف يقيم معه في الطابق العلوي من القصر: «كانت مع الملك في ليلته الأخيرة زوجته الأميرة هيا بنت سعد السديري (والدة الأمراء بدر وعبد الإله وعبد المجيد)، وشعر الملك بتحسُّن فطلب أن يغتسل فذهبوا به إلى الحمام على العربية، واغتسل وتوضأ ثم عاد إلى غرفته». ويتابع الأمير قوله: «شعرت بأن صحته أفضل، فصعدت إلى غرفتي وبعد مدة سمعت طرقاً على الباب فنزلت مسرعاً، وكان قد أصيب بنوبة، والأطباء مدحت شيخ الأرض والدكتور الفرنسي ميليز... وغيرهم حوله يراقبون الضغط، وفهمت منهم أنه بسبب مرض القلب يجب ألا ينهض مباشرة من الفراش وإنما بالتدرج. ولأنه حاول النهوض مباشرة أصيب بالنوبة، وحاولوا السيطرة على الوضع، وكان لا يزال يتنفس ثم جاء الأمير فيصل، واتصل الدكتور مدحت على الملك سعود وأعطاه الإشارة، وبدأنا نراقب الوضع».

استمر توافد الأمراء، ومع دخول الملك سعود باب القصر فاضت روح الملك عبد العزيز إلى بارئها. ويصف تلك اللحظات الأخيرة الأمير نواف بقوله: «كنت أدرك أنه وصل إلى النهاية، كان يتنفس ببطء وصعوبة، ويمسح خشمه ويتشهد، ومع دخول (سعود) من المدخل الخارجي، توفي الملك عبد العزيز، كأنها نهاية ملك وبداية ملك». كانت الساعة نحو العاشرة من صباح يوم الاثنين 2 ربيع الأول 1373هـ - 9 نوفمبر 1953م.

تحمل المسؤولية

الملك عبد العزيز متوسطاً الملك فيصل والملك سعود
الملك عبد العزيز متوسطاً الملك فيصل والملك سعود

سادت حالة من الحزن الشديد أنحاء المكان، ووفقاً لرواية الأمير نواف قال الأمير عبد الله بن عبد الرحمن للملك سعود: «أنا أخلصت لأبيك، وكنت معه، الآن أعطيك يدي وأبايعك، وانزل بايع، فاتجه إلى الصالون وتبعناه وبايعناه، فالتفت الملك سعود إلينا وقال: الآن يكون فيصل ولياً للعهد». ويفهم من كلام الأمير نواف أنه كان موجوداً في تلك اللحظات الدقيقة من تاريخ المملكة العربية السعودية الأمراء عبد الله بن عبد الرحمن وسعود وفيصل ومحمد وخالد... وغيرهم من أبناء الملك عبد العزيز الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية في أقسى لحظات الحزن.

اتُخذت الإجراءات، وبدأت ترتيبات الجنازة، وأُعدت البيانات لتبثها الإذاعة، التي بدأت في بث القرآن الكريم، ثم أعلنت نحو الساعة 12:20 ظهراً الخبر، وعممت وزارة الخارجية البيان الرسمي على البعثات الدبلوماسية في جدة والسفارات والممثليات السعودية خارج المملكة. تناقلت الإذاعات والوكالات العالمية الخبر، وتصدر النشرات الإخبارية وعناوين الصحف. أما المشهد في الطائف فكان يسوده الوجوم، ويخيم عليه الحزن. هُرع الناس يتناقلون الخبر، ويعزّي بعضهم بعضاً، وأغلقت الأسواق والدكاكين أبوابها، وخرج التلاميذ من مدارسهم، واتُخذت الاحتياطات والتدابير الأمنية والعسكرية. كان الطائف مقر وزارة الدفاع وقيادة الجيش، وبدأت ترتيبات الجنازة والصلاة والنقل إلى الرياض والدفن، والبيعة العامة للملك سعود.

تولى الأمير فيصل الإشراف على تلك الترتيبات، وفي القصر تناوب أبناء الملك عبد العزيز مع بعض رجالاتهم على غسل والدهم وتجهيزه وتكفينه. يتذكر الأمير محمد الفيصل أن والده قال له: «روح مع سلمان واحملوا النعش»، ويبرر ذلك ربما لأنهما كانا أطول الموجودين من شباب الأسرة. ويضيف: «حملت النعش خلف سلمان بن عبد العزيز مع بقية الأبناء، وخرجنا به من الباب الرئيسي». شيعت جنازة الملك عبد العزيز من باب القصر محمولة على أعناق أبنائه وأحفاده ورجالات دولته، وساروا بها على الأقدام يتقدمهم الملك سعود وولي عهده فيصل وكبار الأمراء والعلماء والأعيان، وخرج الشعب بمختلف طبقاته لمصلى العيد، حيث أقيمت صلاة الجنازة على فقيد الأمة عند الساعة الثانية ظهراً. أمَّ المصلين الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز آل الشيخ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإمام وخطيب مسجد عبد الله بن عباس. والشائع لدى أكثر من مصدر، ومنهم الزركلي وتبعه في ذلك جمهرة من المؤرخين، أنه صُلي على الملك عبد العزيز في الحوية، بينما الصلاة أقيمت في مصلى العيد القديم في الطائف (موقع جامع الملك فهد حالياً)، وذلك وفق ما ورد في المصادر الرسمية.

حُمل الجثمان من مصلى العيد في سيارة نقل إلى مطار الحوية، وتحرك الموكب المهيب يتقدمه ملك البلاد وولي عهده. يقول الأمير محمد الفيصل: «كان الأمراء نواف وسلمان وأنا مع الجثمان في السيارة، وكان الموكب متصلاً طوال الطريق الذي يبلغ طوله نحو 35 كيلومتراً من الطائف إلى مطار الحوية». وقد خرجت الطائف عن بكرة أبيها، وتحركت كل سياراتها لتشييع الإمام العادل الذي ضمها إلى حكمه؛ فذاقت في عهده طعم الأمن المفقود، والعدل المنشود، والاستقرار والرخاء، وأصبحت عاصمته الصيفية، وقاعدة جيشه، وركيزة منظومة تعليمه المدني والعسكري، وبلغت في عهده أوج تألقها ونمائها.

وفي المطار كانت الوفود قد اجتمعت من أنحاء البلاد لتودع ملكاً وتبايع ملكاً، والطائرات مصطفة في ساحة المطار. تلقى الملك سعود وولي عهده التعازي والبيعة، وحُمل الجثمان إلى الطائرة الملكية من طراز «دي سي 4 سكاي ماستر». وغادرت الطائرة التي أقلت مع الجثمان، ولي العهد الأمير فيصل وإخوته محمد وخالد وسعد وعبد الله وبندر وعبد المحسن وسلطان وعبد الرحمن وبدر وتركي ونواف وفواز وماجد أبناء الملك عبد العزيز، ورافقهم رئيس الخاصة الملكية عبد الرحمن الطبيشي. كما غادرت مجموعة من الطائرات الأخرى التي أقلت عدداً من الأمراء الآخرين وبعض المسؤولين والحرس والمرافقين. ووفقاً للترتيبات التي أُعدت، بقي الملك سعود في الطائف لتلقي التعازي والبيعة، ومعه أخوه وزير الدفاع الأمير مشعل وعدد آخر من إخوتهما.

من الرياض وإليها

وقبيل الغروب وتحديداً عند الساعة 4:40 دقيقة هبطت الطائرة الملكية في مطار الرياض الذي وصف مشهده يومئذ المؤرخ السعودي الشيخ حمد الجاسر بقوله: «اكتظ مطار الرياض بالجماهير الغفيرة التي اختلطت دموعهم بدعواتهم، يتقدمهم ابن عم الملك الأمير سعود الكبير، وأمير الرياض نايف بن عبد العزيز، وحشد من الأمراء والعلماء والأعيان، وجموع عظيمة من مختلف طبقات الأمة، وبعد إنزال الجثمان من الطائرة، حُمل في سيارة يرافقه الأمير فيصل وإخوته والجموع تتبعهم بعيون شاخصة وقلوب واجفة ودموع منهمرة، إلى مصلى العيد القديم (شرق بوابة الثميري وهو موقع مبنى أمانة مدينة الرياض وحديقة البلدية فيما بعد). ضاقت الساحة وما جاورها من طرقات وأسواق بجموع المصلين من الرجال والنساء والكبار والصغار، حيث صُلي على فقيد الأمة بعد صلاة المغرب، وأمَّ المصلين المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكان منظراً مثيراً لكامن الحزن، حيث لا تقع عين الناظر بين تلك الفئام الكثيرة إلا على باكٍ حزين، أو متجلد يحاول إخفاء الأسى، ولكن الدموع تبرزه، أو مُظهِر للصبر ولكن حشرجة صوته تخونه.

وبعد الصلاة نُقل الجثمان بالسيارة إلى مقبرة العود، وانطلقت الجماهير تحف بالسيارة، وغصت المقبرة بجموع المشيعين، وازدحموا على جنازة الملك عبد العزيز ازدحاماً شديداً وهو الذي تبوأ في كلِّ قَلْبٍ من قلوب أفراد شعبه مكاناً رَحْباً، ومُسْتَقَراً دائماً، وأَحْدَثَ موتُه في كل قلب من الكآبة والحزن ما عجز القلم عن وصفه والتعبير عنه، ففي كل وجه من وجوه أفراد الأمة أثر بارز، وفي كلِّ نفس حسرة ولوعة.

رسالة بخط اليد من الملك إلى أبنائه سعود وفيصل ومحمد وخالد
رسالة بخط اليد من الملك إلى أبنائه سعود وفيصل ومحمد وخالد

ووسط تلك الجموع الغفيرة في المقبرة، تولى الأمير فيصل وعدد من إخوته إنزال جثمان والدهم إلى القبر، ثم شاركت الحشود في مواراته الثرى. لقد استرد الملك عبد العزيز الرياض وضمها قبل شروق شمس أحد أيام شهر شوال 1319هـ يناير (كانون الثاني) 1902م، وضم ثرى الرياض جسد الملك عبد العزيز بعد غروب شمس ذلك الاثنين الحزين، وبين التاريخين أكثر من 50 عاماً أشرق بها الملك عبد العزيز على الرياض، وأشرقت بعهده الرياض، استقراراً ونماءً وتطوراً وغير ذلك الكثير، وامتدت إشراقته لتعم كل أرجاء مملكته العربية السعودية (مملكة عبد العزيز).

في الأيام التالية، تقاطرت الوفود من كل مكان، وأبرق زعماء الدول معزين في عاهل الجزيرة، وأعلنت دولٌ الحدادَ على الراحل الكبير، ونُكست الأعلام، ونعاه الكتّاب والساسة، وعدّدوا مآثره، وأقيمت صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة 6 ربيع الأول 1373هـ - 13 نوفمبر 1953م في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي.

وكتب المؤرخ الألماني داكوبرت فون ميكوش: «لم يصبح ابن سعود عظيماً بفضل الإرث، ولكنه استطاع بشخصيته الفذة التي ليس لها في التاريخ العربي مثيل، تأسيس مملكته، وتوحيد الجزيرة العربية، وتجديد تعاليم الإسلام، وتوطيد الأمن الذي كان ولا شك من أهم ما أخذه ابن سعود على عاتقه من مهام، وبقي أن يستمر الجهد لإكمال العمل الذي بدأه ابن سعود خلال حكمه الطويل الأغر، ولئن مات ابن سعود فسيظل في التاريخ العربي حياً بوصفه رجلاً عظيماً فريداً من نوعه، شق الطريق لشعبه وللأمة العربية نحو قمة المجد».

ولا شك أن الملك عبد العزيز لم يملأ فراغاً كبيراً في التاريخ الحديث فحسب، بل ترك إرثاً عظيماً لم يقتصر على إنشائه دولة من الصفر، وتوحيد شعب من الشتات، وما تبع ذلك من التأسيس والبناء، ولكنه تَمَثَّلَ أيضاً في حرصه على تحميل أبنائه المسؤولية، وتأهيلهم لمتطلبات الحكم وخدمة الناس.

يلخص ذلك الشاعر السوري الدكتور خالد البرادعي في أبياته التي أنقلها بتصرف:

-صقر الجزيرة أنت أم رئبالها؟

-أم صبحها العربي في الآماد

-نوديت باسمك والملوك تهالكوا

-في ندوة الألقاب دون تفادي

-وغدت لاسمكَ لذة تندى بها

-أفواه شعبك بعد كل تنادي

-وكتبت ملحمة الخلود تتمة

-لملاحم الدنيا مع الأجداد

-وغدوت بعد الموت أطول قامة

-مما حييت بزندك الميقاد

-متجدداً في كل يوم مقبلاً

-نحو العروبة في مخاض ولاد

-عبد العزيز تركت خلفك ضمة

-من أنجم وكواكب وهوادي

-ملك يغيب فيرتقي لمقامه

-ملك يوازنه بكل مجاد

-ورثوا فرائدك الأوابد مثلما

-أورثتها عن سامق الأنضاد

ويكفي أن نقرأ رسالة الملك عبد العزيز التوجيهية إلى أبنائه الأكبر سناً وقتذاك، لندرك المبادئ التي أنشاء عليها دولته، ولنفهم أسس ذلك الإرث العظيم:

«من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل:

إلى الأبناء سعود وفيصل ومحمد وخالد سلمهم الله تعالى

بعد ذلك، من طرف أربعة أمور سأذكرها لكم أدناه وهي: أولاً: تكونون يداً واحدة فيما بينكم صغيركم يوقر ويمتثل أمر كبيركم، وكبيركم يعطف على صغيركم. كما أن الصغير إذا رأى أمراً ما يجوز من الكبير فيجب أن يبين له ذلك، ويقول إن الأمر هذا لا يجوز منك، وعلى الكبير الإصغاء لأخيه الصغير، كما هو لازم عليه مناصحة أخيه الصغير.

ثانياً: إن كل شيء آمر فيه أو دبرة أدبرها تنفذونها ولا تعترضونها، أو تعارضوا من وكلت إليه أمرها.

ثالثاً: إن كل ما سألتكم عنه أو لزم لكم رفعه لي تصدقونني فيه بأي حال تكون.

رابعاً: ألا تعترضوا أمور ماليتي لا قريبها ولا بعيدها، في قليل ولا كثير.

هذه الأربعة أمور افهموها، واحرصوا على تنفيذ موجبها، وكل شيء يصير منكم مخالفاً لشيء منها اجزموا أنه سيكون سبباً لسخطي عليكم، يكون معلوماً».

20 ربيع الآخر 1349هـ - 13 سبتمبر 1930م

تضمنت هذه الرسالة وصايا أربعاً، ووُجهت إلى الأربعة أبناء الأكبر سناً، وجاء الرد الفوري منهم في اليوم نفسه:

«أدام الله وجودكم

بعد لثم أياديكم الشريفة، كل ما ذكره جلالتكم أعلاه عن الأمور الأربعة تم فهمها، وإن شاء الله نعمل حسب ما جاء بها، وترون ما يسركم ويرضيكم بحول الله وقوته.

مملوككم الابن مملوككم الابن مملوككم الابن مملوككم الابن

فيصل محمد خالد سعود»

ويعلق على هذه الرسالة رجل الدولة السياسي السعودي الشيخ عبد العزيز التويجري قائلاً: «إنها رسالة أوسع من كل التصورات، عليها هيبة الأب، ورجل الدولة»، وهذه في تقديري إحدى معادلات الحكم الصعبة التي تمكن الملك عبد العزيز ومن بعده أبناؤه من تجاوزها بوضع أسس الفصل بين علاقة الأخوة وعلاقة رجال الدولة، وتنظيم العلاقة بينهم؛ لأن الملك عبد العزيز لم يكن يربي أبناءً فقط، لكنه كان يُخرّج قادة، ويؤهل رجالات دولة.

وها نحن أولاء نعيش اليوم فصلاً من فصول إرث الملك عبد العزيز المجيد، يكتبه سلمان بن عبد العزيز بتأهيله جيلاً من القادة من أحفاد عبد العزيز، يقودهم محمد بن سلمان الذي فاجأ العالم بمنجزاته، كما فعل الملك عبد العزيز قبل أكثر من 100 عام.


مقالات ذات صلة

السعودية واليونان ترسخان تبادلهما الثقافي

يوميات الشرق وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان مستقبلاً نظيرته اليونانية لينا مندوني في جدة (واس)

السعودية واليونان ترسخان تبادلهما الثقافي

ترأس وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، ونظيرته اليونانية لينا مندوني، الاجتماع الأول للجنة الثقافة المنبثقة من «مجلس الشراكة الاستراتيجية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج نائب وزير الخارجية السعودي خلال مشاركته في اجتماع جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري (واس)

السعودية: أمن المنطقة يتطلب إقامة دولة فلسطينية مستقلة

جدَّدت السعودية رفضها التام لدعوات تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، ولأي محاولات لفرض حلول لا تحقق تطلعاته المشروعة في تقرير مصيره.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لدى استقباله العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين في جدة (واس) play-circle 00:13

ولي العهد السعودي والعاهل الأردني يبحثان تطورات المنطقة

بحث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين، الموضوعات على الساحتين العربية والإسلامية.

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج إعادة المخالفين والمركبات عند مراكز الضبط الأمني المؤدية إلى العاصمة المقدسة (واس)

منع دخول المقيمين إلى مكة المكرمة من دون تصريح

بدأ الأمن العام السعودي منع دخول المقيمين إلى العاصمة المقدسة باستثناء حاملي هوية مقيم صادرة منها، وتصريح «حج» أو عمل خلال الموسم من الجهات المعنية.

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)
الخليج الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)

ترمب يزور السعودية وقطر والإمارات منتصف مايو

أعلن البيت الأبيض أن الرئيس دونالد ترمب سيزور السعودية خلال الفترة من 13 وحتى 16 مايو المقبل، إلى جانب قطر والإمارات.

هبة القدسي (واشنطن)

هشاشة الحدود السورية ترسم علاقات شائكة مع دول الجوار

جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)
جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)
TT
20

هشاشة الحدود السورية ترسم علاقات شائكة مع دول الجوار

جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)
جندي إسرائيلي يقف عند نقطة مراقبة في مرتفعات الجولان المحتلة والمطلة على جنوب سوريا 25 مارس (أ.ف.ب)

تشكِّل قضية الحدود السورية مع دول الجوار تحدياً كبيراً للإدارة الناشئة للرئيس أحمد الشرع، فهي المعبر الأول لصياغة علاقة سياسية وأمنية مستقبلية بين دمشق ومحيطها، وهي في الوقت نفسه حاجز مفخَّخ بكثير من رواسب النظام السابق.

وتعد الحدود السورية - التركية التي تمتد لأكثر من 900 كيلومتر، الجغرافيا الأبرز للصراع على الموارد والنفوذ، وهي التي شهدت تاريخياً فترات من التوتر والهدوء النسبي. وبعد اندلاع الثورة السورية مطلع عام 2011، كانت هذه الحدود أول خاصرة ضعيفة للنظام السابق. ففي حين بدأت دمشق تفقد السيطرة تدريجياً على مناطق واسعة من البلاد، كانت المناطق الحدودية، خصوصاً الشمالية منها، الأولى التي خرجت سريعاً عن سيطرتها.

وبالكاد انتصف عام 2012، حتى كانت فصائل المعارضة السورية المسلحة تسيطر على نقاط استراتيجية على الحدود مع تركيا؛ أولاها معبر باب الهوى الاستراتيجي على بُعد نحو 50 كيلومتراً غربي مدينة حلب في شمال غربي سوريا. بعده مباشرةً تمت السيطرة على معابر باب السلامة وجرابلس والراعي. وامتدت هذه السيطرة لاحقاً إلى معابر معينة مع العراق والأردن ولبنان، في ظل تراجع قدرة النظام على ضبط حدوده كما في السابق.

ومع تصاعد النزاع ودخول لاعبين دوليين وإقليميين على خط الأزمة، أُعيد رسم خريطة السيطرة على المعابر. فأصبحت تركيا من خلال فصائل سورية حليفة لها تهيمن على معظم الحدود الشمالية، في حين مارست إيران نفوذاً مباشراً عبر ميليشياتها على حدود سوريا مع العراق والأردن. أما «حزب الله» اللبناني ففرض سيطرة شبه كاملة على الحدود اللبنانية. في المقابل، تمركزت القوات الأميركية في الشمال الشرقي ومعبر التنف على المثلث الحدودي مع العراق والأردن.

ورغم تباين القوى المسيطرة على المعابر الرسمية وغير الرسمية، فإن القاسم المشترك بينها هو نشوء كيانات محلية ذات أنظمة أمنية واقتصادية منفصلة، لا تخضع للسلطة المركزية بشكل فعلي، ما أسهم في إضعاف تماسك الدولة ووحدتها.

ورغم ما أُعلن عن سيطرة «هيئة تحرير الشام» على إدارة العمليات العسكرية إثر سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، فإن الحكومة السورية الجديدة ورثت واقعاً هشاً ومعقداً، خصوصاً في إدارة الحدود وتواجه تحديات أمنية جسيمة في هذا ملف.

الحدود اللبنانية: «حزب الله» وشبكات تهريب

تمتد حدود سوريا مع لبنان لمسافة تصل إلى نحو 375 كيلومتراً، وكانت خاضعة بشكل شبه كامل لسيطرة «حزب الله» قبل سقوط النظام. وشكّلت المعابر الرسمية الستة، أبرزها معبر «جديدة يابوس - المصنع» و«الدبوسية - العبودية»، ممرات قانونية وشرعية تخضع عملياً للدولة اللبنانية، في حين سيطرت مجموعات تابعة لـ«حزب الله» والعشائر على نحو 20 معبراً غير رسمي في محافظتي حمص وريف دمشق.

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (أ.ف.ب)
نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (أ.ف.ب)

هذه المعابر شكّلت شبكة تهريب ضخمة للأسلحة والبضائع والمخدرات وتسلل أو عبور المقاتلين. وأكدت مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه الشبكات لا تزال تنشط في ظل ضعف أجهزة الدولة الجديدة، وامتلاك المهربين خبرة طويلة في التعامل مع التضاريس الوعرة والاستجابة المرنة للضغوط الأمنية، وتغيير مساراتهم وفق الحاجة».

وأشارت المصادر إلى أن هذه «الشبكات المدعومة من (حزب الله) لبنانياً والفرقة الرابعة سورياً، أنشأت مستودعات وأنفاقاً في مناطق جبلية، بعضها يعود إلى ما قبل الثورة، تُستخدم لتخزين ونقل الأسلحة والمخدرات، وقد استهدفت إسرائيل بعض هذه الشحنات في غارات متكررة».

وفي هذا السياق، قال مسؤول عسكري في الجيش السوري الجديد، فضَّل عدم الكشف عن اسمه، لـ«الشرق الأوسط»: «لقد فككنا عدداً من شبكات التهريب التي تعمل على جانبي الحدود، ونحن في طور الملاحقة الأمنية وتفكيك تلك الشبكات المعقدة». وأشار المسؤول إلى أن «هناك تعزيزات عسكرية سورية مكثفة تصل إلى الحدود اللبنانية، خصوصاً في المناطق الأكثر عُرضة للخطر، والتي يُحتمل أن يتسلل منها عناصر تابعون لـ(حزب الله)».

وحذر المصدر من «صدامات متكررة مع مجموعات تابعة لـ(حزب الله) كتلك التي حدثت في منتصف مارس (آذار) الفائت»، مؤكداً أن الجيش في حالة «استنفار دائم لتفادي المخاطر الأمنية المحتملة».

صورة ملتقطة في 11 مارس 2025 بقرية حكر الظاهري شمال لبنان تظهر لاجئين سوريين يعبرون النهر الكبير إلى قرية حكر الظاهري اللبنانية هرباً من العنف في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين السوريتين (د.ب.أ)
صورة ملتقطة في 11 مارس 2025 بقرية حكر الظاهري شمال لبنان تظهر لاجئين سوريين يعبرون النهر الكبير إلى قرية حكر الظاهري اللبنانية هرباً من العنف في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين السوريتين (د.ب.أ)

تحديات المرحلة المقبلة

ورغم عزم الحكومة السورية الجديدة على مواجهة التهريب، لا سيما حين يرتبط بتهريب الأسلحة والمخدرات، فإن ضعف البنية الأمنية، والنقص في عدد العناصر، يشكلان عائقاً حقيقياً أمام ضبط الحدود، خصوصاً في ظل تمدد شبكات التهريب ذات الخبرة الطويلة والمعرفة الجغرافية الواسعة.

وتبقى الحدود اللبنانية - السورية إحدى أبرز بؤر التوتر، في ظل انعدام السيطرة التامة من الحكومتين، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. وتؤكد مصادر أمنية سورية أن معالجة هذا الملف تتطلب تعاوناً مباشراً بين دمشق وبيروت، إضافةً إلى دعم إقليمي لضمان أمن الحدود ومنع تهريب السلاح والمخدرات.

الحدود مع الأردن: ضبط الكبتاغون

كما هو الحال في معظم المناطق الحدودية، فقد النظام السوري سيطرته على الحدود الرسمية مع الأردن، وفي جنوب سوريا لجهة درعا، والقنيطرة، والسويداء، اتخذ الصراع مساراً مشابهاً لما جرى في الشمال، حيث ظهرت هيئات مدنية بديلة وحاربت جماعات مسلحة قوات النظام، مما أدى إلى تراجعه عن مناطق حدودية عدة.

في 2017، ومع تضاؤل الدعم الخارجي تدريجياً حتى توقفه تماماً، عاد النظام السابق ونجح في عقد «مصالحات» أعادت له السيطرة في العام التالي على مساحات واسعة من البلاد وعلى المعابر الحدودية الرسمية مع الأردن.

منذ ذلك الحين، تحولت الحدود السورية - الأردنية إلى ممر منظم لتهريب الكبتاغون إلى الخليج مروراً بالأردن، الذي أصبح منطقة عبور وأحياناً استهلاك. ويعد ذلك من أبرز مظاهر تواطؤ شبكات التهريب والسلطة بعد «استعادة السيطرة» وحتى سقوط النظام لاحقاً.

وتمتد الحدود بين البلدين على نحو 370 كيلومتراً، وتضم معبري نصيب وجابر. وحسب مصادر محلية علمت «الشرق الأوسط» أن عمليات التهريب مستمرة رغم الجهود التي تبذلها الإدارة السورية الجديدة وتعهدها بضبط هذه التجارة. لكن كما هو الحال مع الجانب اللبناني، فإن الشبكات متشعبة ومُلمَّة بالجغرافيا، وفي الحالة الأردنية يستخدم المهربون مُسيّرات صغيرة تنقل ما بين نصف كيلوغرام و3 كيلوغرامات من المواد المخدرة، مما يصعّب رصدها، ويمثل هذا تحدياً أمنياً هائلاً.

وأضافت المصادر أن الأردن يواجه محدودية في الإمكانات، بينما تواصل شبكات التهريب نشاطها، مستفيدةً من ضعف الحكومة السورية في مناطق جنوب البلاد لحسابات أمنية، أبرزها المخاوف من الاحتكاك مع إسرائيل.

كذلك، تُستخدم طرق وعرة في الوديان والمناطق الجبلية لتهريب المواد، مما يعقّد السيطرة الأمنية، ورغم تراجع الكميات مقارنةً بالسابق، فإن النشاط لم يتوقف كلياً.

وتغيّرت طبيعة التهريب من السلاح والكبتاغون سابقاً -بدعم إيراني- إلى التركيز الآن فقط على الكبتاغون، بعد انحسار النفوذ الإيراني. كما تطورت وسائل التهريب لتشمل التضليل بافتعال اشتباكات واستخدام ورش صغيرة وعشوائية للإنتاج بدلاً من المصانع الكبيرة التي دمَّرت وفككت السلطات الجديدة معظمها.

الجولان المحتل... «عيون دولة إسرائيل»

عادت قضية الحدود المشتركة مع إسرائيل إلى الواجهة بعد سقوط نظام بشار الأسد؛ إذ شهدت توغلات إسرائيلية كثيرة، وما كانت لعقود «جبهة باردة» أصبحت اليوم نقطة ساخنة أخرى.

وتتمحور إشكالية الحدود السورية - الإسرائيلية حول مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967 وتعدها جزءاً من سيادتها، ومرتكزاً أساسياً لأمنها القومي ووجودها. بينما تطالب سوريا عبر المجتمع الدولي باستعادة أراضيها المحتلة والعودة إلى ما قبل الحرب.

قصف مدفعي إسرائيلي يطول موقعين في ريف القنيطرة قرب الحدود مع الجولان السوري المحتل (أرشيفية)
قصف مدفعي إسرائيلي يطول موقعين في ريف القنيطرة قرب الحدود مع الجولان السوري المحتل (أرشيفية)

وبعد سقوط نظام الأسد، شهدت الحدود السورية - الإسرائيلية، خصوصاً في مرتفعات الجولان والمنطقة العازلة، استغلالاً إسرائيلياً للفراغ الأمني والسياسي في سوريا لتوسيع سيطرتها على مناطق جديدة في جنوب غربي سوريا، خصوصاً في المنطقة العازلة التي تمتد من جبل الشيخ شمالاً حتى جنوب مرتفعات الجولان المحتلة، ورفضها الاتفاقيات السابقة التي كانت تنظّم وقف إطلاق النار. لكن ثمة من يرى إمكانية انسحاب إسرائيل مستقبلاً مع فتح الحكومة الانتقالية قنوات تواصل مع بعض دول الاتحاد الأوروبي التي ترفض الاحتلال الإسرائيلي أو ضم أراضٍ سورية جديدة.

وترفض إسرائيل السماح لأي قوة «معادية» بالتمركز على حدودها في جنوب سوريا في محافظات القنيطرة والسويداء ودرعا، مع مواصلة تعزيز وجودها العسكري في المناطق التي احتلتها حديثاً، وبنت فيها نقاطاً عسكرية مثل قمة جبل الشيخ التي وصفها رئيس وزراءها بأنها «عيون دولة إسرائيل»، فيما تواصل شن مئات الغارات الجوية على مخازن أسلحة بحجة منع وقوع هذه الأسلحة في أيدي جماعات معادية.

ومع إدراك الحكومة الانتقالية واقع «التوازن العسكري» مع إسرائيل، أبدت هذه الحكومة رغبتها «مراراً» في عدم مواجهة إسرائيل، أو السماح باستخدام الأراضي السورية منطلقاً لشن هجمات على إسرائيل أو تهريب الأسلحة عبر حدوها إلى «حزب الله» اللبناني، والتمسك باتفاقية «فصل القوات» الموقَّعة بينها في عام 1974، ومطالبة الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من مناطق التوغل الجديدة. لكنَّ إسرائيل على ما يبدو، تسعى لتكريس واقع جديد لفرض وجود عسكري طويل الأمد مع المراقبة عن «كثب» لتطور الملفات الداخلية، واحتمالات دخول البلاد في حرب داخلية تسهم في «تفتيت» الدولة السورية، وإضعاف قدرة السوريين على المواجهة، مع معطيات عدة تشير إلى تعرض مصدر التهديد الثاني، أي «محور المقاومة»، لضربات «مميتة» أنهت عملياً تهديدات «حزب الله» اللبناني على الأقل مؤقتاً، وتهديدات حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة.

الإشكالية السورية - التركية

شهدت الحدود السورية - التركية تحولات جذرية منذ عام 2011، حيث تحوّلت من منطقة شبه مغلقة إلى بوابة مفتوحة للفارين والمقاتلين، قبل أن تُصبح واحدة من أكثر الحدود مراقبةً في العالم، وكذلك الممر الرئيسي لعبور السلع والبضائع.

2012 – 2014: الانفتاح والفوضى

مع نهاية عام 2012، فقد النظام السوري سيطرته على معظم الشريط الحدودي مع تركيا، لا سيما في شمال حلب وإدلب والرقة. وتحوّلت هذه الحدود إلى ممرّ مفتوح للمقاتلين الأجانب القادمين إلى سوريا، وللفارين من القصف المتصاعد فيها.

في هذه المرحلة، تساهلت تركيا في ضبط حدودها، ففتحت معابر رسمية وأخرى «طارئة» لاستقبال الجرحى المدنيين والعسكريين، وانتعشت حركة تهريب الأفراد من سوريا إلى تركيا بشكل غير مسبوق. وشملت عمليات التهريب أيضاً، الوقود، والدخان، والبضائع الأخرى، وكانت تُدار أحياناً من فصائل من الجيش الحر.

وبين عامي 2011 و2014، بلغت عمليات التهريب ذروتها، كما أصبحت حركة عبور المدنيين إلى تركيا سهلة وتكلف القليل نسبياً، إذ لم تتجاوز تكلفة التهريب حينها 500 ليرة سورية (بضعة دولارات)، مقارنةً بتكاليف تصل اليوم إلى نحو ألفي دولار.

وزير التجارة التركي عمر بولاط خلال تفقده البوابات والمعابر الحدودية مع سوريا يناير الماضي (من حسابه في «إكس»)
وزير التجارة التركي عمر بولاط خلال تفقده البوابات والمعابر الحدودية مع سوريا يناير الماضي (من حسابه في «إكس»)

2014: التحصين والتشديد

ابتداءً من عام 2015، بدأت تركيا تشديد إجراءاتها على الحدود بعد ضغوط دولية، فشرعت في بناء جدار عازل وسياج أمني على طول الشريط الحدودي، وحوّلت الحدود إلى واحدة من أكثر المناطق مراقبةً عالمياً.

ورغم التشديد، بقيت المعابر الرسمية مفتوحة أمام دخول المساعدات الإنسانية، والبضائع التركية، والحالات الطبية المستعصية. كما تعاملت أنقرة بشكل رسمي مع المعابر الخاضعة لسيطرة الفصائل المعارضة، مع الاعتراف بأختامها لعبور الأشخاص والبضائع. وكان أبرز هذه المعابر باب الهوى، الذي تنقلت السيطرة عليه بين فصائل مثل الجيش الحر، وأحرار الشام، وأخيراً هيئة تحرير الشام.

كما شملت المعابر التي ظلت فاعلة تحت إشراف فصائل «الجيش الوطني» المتحالفة مع أنقرة: باب السلامة، والراعي، وجرابلس، وتل أبيض، في حين أغلقت تركيا معابرها مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

الحدود كورقة سياسية

برزت تجارة التهريب البشري كإحدى أبرز سمات الحدود السورية - التركية، حيث نشأت شبكات تهريب منظمة تسهّل عبور المدنيين باتجاه تركيا ومنها إلى أوروبا. وكانت الفصائل المعارضة المسلحة تستفيد من هذه التجارة عبر فرض رسوم عبور وصلت إلى 25 دولاراً للشخص، تُدفع مقابل «وصل مرور» يسمح بالاقتراب من نقاط التهريب.

لاحقاً، تحوّلت هذه التجارة إلى ورقة ضغط سياسية. ففصائل مثل «هيئة تحرير الشام» أوحت لأنقرة بأنها تتحكم في الحدود ويمكنها فتح الطريق أمام اللاجئين، مما منحها هامشاً للمساومة السياسية. فمنذ أن فرضت هيئة تحرير الشام سيطرتها المطلقة على إدلب، بدأت تُظهر نفسها على أنها لاعب إقليمي يمسك بورقة الحدود مع تركيا، ويستخدمها للمناورة مع أنقرة وأوروبا.

وفي ديسمبر 2019، قدمت الهيئة نموذجاً لهذا الدور عندما منعت مئات المتظاهرين من الوصول إلى بوابة باب الهوى، من خلال إغلاق الطرق بالكتل الأسمنتية، ونشر عشرات العناصر الملثمين، بل استخدام الرصاص الحي بشكل مكثف لتفريقهم. المتظاهرون كانوا يطالبون «الضامن التركي» بالتحرك ضد التصعيد العسكري في ريف إدلب، وفرض الالتزام بتفاهمات سوتشي، لكنَّ تركيا لم تسعَ لمنع هجمات النظام السابق وروسيا، والهيئة من جهتها اختارت أن تكون سداً منيعاً بين الأهالي والبوابة الحدودية مقدمةً نفسها أنها هي من يتحكم في الحدود، وأن على أنقرة التفاهم معها.

بهذا السلوك، أرسلت «تحرير الشام» رسالة واضحة: من يسيطر على المعبر، يملك ورقة ضغط حساسة في وجه تركيا والمجتمع الدولي، سواء كانت على شكل تهديد بانفجار شعبي، أو إدارة تدفق اللاجئين والضغط الأمني.

وبدورها استخدمت تركيا ورقة اللاجئين في مفاوضاتها مع أوروبا، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، كما أسهمت الفصائل المتحالفة معها في ضبط الحدود ومنع الانفلات الأمني.

«كسب»... من التجاهل إلى التفعيل

كان معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا، مغلقاً لسنوات خلال سيطرة النظام السابق. ورغم أنه لم يكن مفعّلاً، فإنه شهد عدداً من اللقاءات الأمنية بين استخبارات أنقرة ودمشق. وبعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، أُعيد فتح معبر «كسب» رسمياً، وأصبحت جميع المعابر الرسمية بين البلدين تحت إدارة حكومة الرئيس أحمد الشرع ما عدا تلك التي لا تزال تحت إدارة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهي موضع تجاذبات ومفاوضات.

معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا (أ.ف.ب)
معبر «كسب» الحدودي بين تركيا وسوريا (أ.ف.ب)

وقال مدير العلاقات في الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية مازن علّوش لـ«الشرق الأوسط» إن «المعابر البرية كافة في سوريا تحت سيطرة الحكومة السورية، ومنها عشرة معابر بدأ العمل بها فعلياً، فيما لا تزال هناك أعمال صيانة على بقية المعابر ليتم افتتاحها بعد فترة قريبة». وأضاف: «في المقابل لا تزال المعابر ابتداءً من معبر عين العرب مع تركيا، حتى معبر اليعربية مع العراق، تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية».

وعن خطط الحكومة السورية لاستعادة هذه النقاط الاستراتيجية، قال علوش: «تسعى الحكومة السورية إلى استعادة السيطرة على جميع المعابر لتعزيز سيادتها وتأمين تدفق البضائع والأشخاص بشكل طبيعي، وتشمل خططها الحالية تسلم المعابر شمال شرقي سوريا من قوات سوريا الديمقراطية بعد الاتفاق الذي جرى توقيعه بين رئيس الجمهورية العربية السورية وقائد قوات سوريا الديمقراطية».

وإذ أكد علّوش أن «هناك تعاوناً كبيراً بين الدول المجاورة والحكومة السورية»، وأن العلاقات يسودها «التفاهم والاحترام المتبادل»، نفى وجود أي تهديدات مباشرة في الوقت الحالي، معتبراً إن الاشتباكات الأخيرة هي «شأن طبيعي».

وفيما يتعلق بخطط إعادة فتح المعابر المغلقة، قال: «توجد خطط لإعادة فتح بعض المعابر المغلقة، تعتمد على التطورات السياسية والأمنية والمفاوضات الجارية مع الدول المجاورة، خصوصاً لبنان، حيث تجري حالياً أعمال صيانة وترميم لمعبر العريضة الحدودي، وسيليه معبر الدبوسية، حيث كانت هذه المعابر قد تعرضت لقصف إسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على لبنان».

وأضاف علّوش: «هناك أيضاً خطط لتسلم معبر التنف الحدودي والبدء بأعمال الصيانة فيه خلال فترة قريبة حتى يتم تجهيزه، ومعبر البوكمال لتسهيل عبور البضائع والمسافرين إلى العراق، وننتظر تسلم المعابر الأخرى من قوات سوريا الديمقراطية، حتى يتم وضعها في الخدمة».

العراق... مقاتلون في اتجاهين

تُعد الحدود بين العراق وسوريا من أكثر المناطق الحدودية هشاشة واضطراباً في المنطقة، وهي هشاشة سبقت حتى اندلاع الثورة السورية عام 2011 وسقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003. ويعود ذلك إلى الطبيعة الصحراوية الوعرة للمنطقة، وطول الحدود التي تمتد لأكثر من 600 كيلومتر، إضافة إلى ضعف إمكانات الدولتين في ضبطها، سواء في ظل نظامَي البعث في البلدين أو ما بعدهما.

معبر البوكمال على الحدود السورية - العراقية (آ ف ب)
معبر البوكمال على الحدود السورية - العراقية (آ ف ب)

في أواخر التسعينات وبداية الألفية، لعب جهاز المخابرات السورية دوراً فاعلاً في السماح بمرور عشرات المقاتلين الأجانب إلى العراق، خصوصاً بعد الغزو الأميركي في 2003. وقد اتُّهم النظام السوري لاحقاً من واشنطن والحكومة العراقية بتسهيل مرور الجهاديين، ودعمهم، وهو ما عمّق التوتر بين البلدين. المفارقة أن هذين الطرفين، المتخاصمين بالأمس، تحوَّلا إلى حليفين بعد اندلاع الثورة السورية، وأصبحت هذه المعابر نفسها التي ضخت جهاديين سُنة نحو العراق تستقبل مقاتلين من «الحشد الشعبي» والميليشيات الشيعية باتجاه سوريا للدفاع عن نظام بشار الأسد، وهي اليوم نقطة ساخنة أخرى تضاف إلى تحديات الإدارة السورية الجديدة.

ولكن قبل ذلك، وعلى أثر انسحاب قوات النظام السوري السابق من أغلب المواقع الحدودية بحلول نهاية 2013، ملأت قوات سوريا الديمقراطية بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية الفراغ الأمني شمال شرقي البلاد، خصوصاً في محافظة الحسكة. أما في دير الزور، فقد تقاسمت السيطرة فصائل معارضة متنوعة، قبل أن يتمكن تنظيم «داعش» عام 2014 من بسط نفوذه على كامل المنطقة، معلناً قيام «دولة الخلافة الإسلامية» ومُلغياً الحدود بين سوريا والعراق من حلب إلى الموصل.

ثم في أعقاب هزيمة «داعش»، ظهرت على الجانب العراقي قوات «الحشد الشعبي»، والفصائل المرتبطة بإيران، لاعباً أساسياً في إدارة الحدود المشتركة مع سوريا. ومن أبرز هذه الفصائل «لواء الطفوف» و«كتائب حزب الله»، التي تركز وجودها في مناطق استراتيجية مثل القائم وعكاشات، حيث يقع معبر القائم - البوكمال، أحد أبرز المعابر بين البلدين. وقد بات هذا المحور جزءاً مما يُعرف بـ«محور المقاومة» المدعوم من إيران، مما منح طهران نفوذاً مباشراً في إدارة المعبر ومحيطه، رغم عودة السيطرة الاسمية للنظام السوري.

ورغم وجود عدة معابر رسمية أخرى مثل «اليعربية - ربيعة»، و«سيمالكا - فيشخابور»، و«الوليد - الفاو»، فإن أغلبها يخضع حالياً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وبعد سقوط النظام السابق نهاية 2024، أغلق العراق رسمياً معبر القائم، وسط مخاوف أمنية متصاعدة، خصوصاً من عودة نشاط تنظيم «داعش».

وحسب مصادر محلية، فإن مفاوضات تُجرى حالياً بين دمشق وبغداد لإعادة افتتاح المعبر وتنظيم الحركة التجارية، وسط وعود سورية بعدم السماح باستخدام أراضيها نقطة انطلاق لتنظيم «داعش» نحو العراق أو غيره.

وبحسب الباحث العراقي رائد الحامد، وهو رئيس قسم الدراسات الأمنية في مركز العراق للدراسات الاستشرافية، فإن بعض فصائل الحشد الشعبي المرتبطة بإيران لا تُخفي قلقها من هشاشة الوضع الأمني في سوريا، الذي قد يهيئ لعودة «داعش». وأكد الحامد لـ«الشرق الأوسط» أن حكومة محمد شياع السوداني ترى ضبط الحدود أولوية قصوى، إلى جانب مكافحة التنظيم، لا سيما مع اقتراب انتهاء مهمة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل.

زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لبغداد منتصف مارس الماضي، كانت أول زيارة رسمية لمسؤول سوري رفيع منذ سقوط النظام، وهدفت إلى تنسيق المواقف في مواجهة «داعش» وتعزيز ضبط الحدود. وقد وعد الشيباني بأن سوريا لن تكون مصدر تهديد للعراق، لا من خلال «داعش» ولا عبر شبكات التهريب مقابل أن تسعى بغداد من جهتها إلى منع تسلل عناصر الميليشيات أو الضباط السابقين في النظام السوري.

ولم تقتصر هذه الجهود على المحادثات الدبلوماسية وإنما ترافقت بجهود ميدانية، إذ نشرت بغداد كاميرات مراقبة حرارية، وشيَّدت خنادق وسياجاً يمتد لأكثر من 100 كيلومتر، إلى جانب نشر مئات المراصد وعشرات المخافر، مع جهد استخباراتي فاعل يعتمد على السكان المحليين.

ورغم هذا الجهد المكثف، والتعاون مع دول الجوار، فإن جميع المصادر الذين تحدث إليهم «الشرق الأوسط» في هذا السياق تقاطعت عند التحديات الكثيرة التي لا تزال قائمة وستكون مرشحة للتفاقم، في ظل غياب سلطة مركزية قوية في دمشق، وقدرة بشرية موازية، مما يُبقي الحدود ثغرة مفتوحة أمام احتمالات التسلل، وعودة الفوضى مجدداً.