نحو فلسفة لألعاب الفيديو... أخطر من ترفيه وأكثر من فن

تطورت خلال عقود قليلة شكلاً ومضموناً لتفرض وجودها على الثقافة المعاصرة

فيديو سمس (4)
فيديو سمس (4)
TT

نحو فلسفة لألعاب الفيديو... أخطر من ترفيه وأكثر من فن

فيديو سمس (4)
فيديو سمس (4)

لم يعد العالم هو العالم بعد ظهور الرأسماليّة بمفهومها الحديث. إذ مع تطوّر مفهوم العمل المأجور كأساس للثورة الصناعيّة تغيّرت علاقة الأكثريّة الساحقة من البشر بحياتهم وطريقة قضائهم لأوقاتهم، لتتوزع حول الفضاءات الثلاثة: العمل والترفيه والتبطّل.

صوّر فلاسفة البرجوازيّة مثل ماكس فيبر العمل كقيمة عليا، أقرب ما يكون إلى الواجب الديني كما في الثقافة الغربيّة البروتستانتية، فيما أُلبس التبطّل والكسل رداءً شيطانياً، وأسبغت عليهما صفات سلبيّة تربطهما بغياب الإنتاجيّة، وبالتعطّل، والفراغ المؤدي إلى المفسدة والموبقات (كما في رواية فلوبير الشهيرة «مدام بوفاري»). على أنّ الترفيه - بمعنى إشغال الوقت عندما يتوقف العمل مؤقتاً للاستراحة -، تلك المساحة بين هذين الأقنومين الجدليين المتناقضين، أي العمل والتبطل، اكتسب وعلى نحو متزايد في موازاة التقدّم التكنولوجي المتسارع أبداً أهميّة ومركزيّة، للمنظومة الرأسماليّة وللفرد على حد سواء، ودائماً على حساب الرّاحة. لقد تحوّلت الكيفيّة التي نقضي بها وقتنا عندما لا نكون على رأس عملنا بعد الثماني ساعات (اليومية) أو خلال العطلة الأسبوعيّة أو الإجازات السنويّة إلى شبكة من صناعات ضخمة قائمة بذاتها، من السياحة الاستهلاكيّة وارتياد المطاعم والمقاهي إلى المنتجات الثقافيّة على تعدد أنواعها (الكتب، والأفلام، والمسرح والحفلات الغنائيّة، والمهرجانات...)، تتنافس جميعها على توسيع حصّتها من كل وقت مخصص للراحة، بل وشرعت كما يقول جوناثان كريري في كتابه اللاذع «24/7: الرأسماليّة المتأخرة والقضاء على النوم» - 2014* بقضم ما بعد حصتها التقليديّة من وقت الإنسان عبر تقليل عدد ساعات نومه اليومية التي تلتهمها بشراهة لافتة وفرة شاشات قريبة - تلفزيونات وكومبيوترات وهواتف ذكيّة (وغيرها).

ومن الظّواهر اللافتة في هذا المشهد تبدو ألعاب الفيديو الحديثة وكأنّها النموذج الأكثر تعقيداً من أدوات الترفيه التي أصبحت ممكنة في عصرنا بفضل تراكم التقدّم التقنيّ، والتي بحكم انتشارها المتشظي عبر مختلف الطبقات والدوائر الاجتماعيّة لم تعد مجرّد أدوات للعب وفق المفهوم التقليدي الذي نحته ليوهان هويزينجا في كتابه الشهير «هومو لودينز - أو الإنسان كمخلوق لاعب» - 1938*، بل أصبحت أداة لتعظيم الاستهلاك «اقتصادياً» ومصنعاً لتشكيل الوعي «الزائف» (إن جاز التعبير) وفق ما تحبّه المنظومة الرأسمالية وترضاه «سياسياً».

فخلال عقود قليلة، تطورت ألعاب الفيديو شكلاً ومضموناً لتفرض وجودها على الثقافة المعاصرة، واحتلت لها مساحة من وقت الترفيه لملايين الأفراد على حساب المنتجات الثقافيّة الأخرى - إضافة إلى جزء من وقت النوم اليومي -، ودخلت بلا استئذان في قلب دائرة اهتمام رأس المال العالميّ، وأصبحت بعض إصداراتها الجديدة أو التحديثات على الألعاب الموجودة فعلا بمثابة حدث هائل يستحق متابعة مكثفة عبر وسائل الإعلام.

وعلى الرّغم من ذلك، فإن هذه الصناعة الصاعدة لم تأخذ بعد حقّها من التحليل الفلسفي - أقلّه مقارنة بالمادة المتوفرة للمنتجات الثقافيّة الأخرى (قارن مثلاً مع نظريّة الرواية أو المسرح)، ما يفرض على المراقب إن هو عزم على وضعها في نسق عقلانيّ الاستعانة بأفكار الرّواد مثل جان بودريار مثلاً الذي سبق إلى التبشير بسعي منتجي الوعي إلى اجتراح واقع بديل من الواقع الحقيقيّ (مفهوم الـHyper-reality).

ويبدو تطوّر ألعاب الفيديو مطابقاً لنظريّة بودريار كما في كتابه الشهير عن «التشبيهات والمحاكاة - **» عن مرحلة من العالم الرأسمالي شرعت معالمها بالتشكل وتتظافر فيها تقنية المعلومات مع أدوات الاستهلاك الإعلاميّ لتخليق واقع بديل يكاد مع مرور الوقت يبدو محاكاة مستقلة بالكامل عن الحقيقة، حيث بدأت الألعاب أقرب لصيغة تعكس الواقع القائم، قبل أن تنطلق لاستكشاف طرائق لتمويه أو تشويه حقائق قائمة، ومن ثمّ إلى مرحلة التغييب التام لحقائق أساسيّة، قبل أن تخلق واقعاً بديلاً متكاملاً، ليس له علاقة إطلاقاً بالحقيقة، بل مجرّد محاكاة خالصة خاصة به.

ولعل لعبة سيمس «Sims» الذائعة الصيت تكون أفضل مثال لتطبيق نظريّة بودريار على عالم ألعاب الفيديو. فهذه اللعبة التي أطلقت قبل عقدين فقط (صممها المبرمج ويل رايت)، أصدرت أربع نسخ متعاقبة وصلت إلى أيدي ما لا يقل عن 80 مليون «لاعب» ودرّت على الشركة صاحبة الامتياز («إليكترونك آرتس» الأميركيّة) ما يزيد على خمسة مليارات دولار (الرقم لنهاية عام 2021). وتقوم على أساس خلق عالم «الحلم الأميركي»، كيوتوبيا اجتماعيّة متقدمة يمكن للاعب فيها أن يتقمص حياة أخرى، فينشأ منزلاً متخيلاً وفق نسق يختاره، وعائلة على هواه من خلال انتخاب الجينات عبر الأجيال، فيما الفضاء الحضري الذي يحوم فيه متخم بخدمات ترضي مختلف الحاجات العاطفيّة والعلاقاتية.

وتمكّن «سيمس» لاعبها من تجاوز يومه إلى حياة يوميّة بديلة معفاة من هموم العيش الحقيقيّ في ظل النظام الرأسماليّ، إذ له فيها أن يمارس صلاحيّة، دون مرجعيات سوى المشاعر الذاتية، لاختيار الشريك (أو الشريكة)، والمهنة، وكيفية قضاء الوقت في أنشطة مختارة تبدو ممتعة في الواقع الافتراضي. ولكن كل ذلك يظل بوتقة منعزلة تماماً عن حقائق العالم الحقيقيّ التي تجعل هامش الاختيارات وحريات توظيف الوقت ضيقاً للغاية ومحكوماً باعتبارات بنيوية وسياسيّة وتاريخية واقتصادية واجتماعيّة يكاد الذاتي فيها يكون منعدماً لدى أغلبيّة البشر.

الإنسان كما في «سيمس» مستهلك مثاليّ يكسب وينفق دخله في شراء الممتلكات التي تحقق له الرضى ويعيش وفق القيم الغربيّة فيما يتعلق بالحريات الشخصية والاستغراق بالملذات والهوى في إطار «خادع» من الأمن والأمان المستديمين. ويجد كثيرون فيما يبدو أن هذه الحياة البديلة توفر لهم مهرباً من واقعهم القاسي إلى فانتازيا عالم أجمل يمتلكون فيه السيطرة على مصائرهم، وحريّة ممارسة الأمور افتراضياً دون بذل جهد ومال إضافيّ (مثلاً زراعة نباتات في حديقة المنزل الافتراضي الخلفيّة ورعايتها وقطف زهورها بينما قد لا يمتلك المرء حديقة في الواقع القائم وربما ليس لديه الاهتمام للعناية بنباتات حقيقيّة).

إن هذه الخبرات التي تستنفد وقت التّرفيه للملايين من البشر (و«سيمس» ليست إلا نموذجا واحدا من آلاف مؤلفة من الألعاب الأخرى) تخدم بصفاقة ظاهرة غرضي المنظومة القائمة لما بعد إنسان «هويزينجا» اللاعب: تعظيم الاستهلاك (سواء مباشرة عبر اقتناء نسخ الألعاب ومشغلاتها ومستلزماتها وتوابعها أو غير مباشرة عبر استهلاك الطاقة وربما المسليات الغذائيّة والمشروبات ومختلف المنتجات ذات الصلة وهكذا)، وأيضاً المساهمة في صياغة وعي الأفراد سياسياً واجتماعياً كي يتماهوا مع الصيغ الليبرالية القائمة في الغرب (وقطعاً تلك التي يراد لها أن تقوم في المجتمعات الأخرى).

هذه الصناعة الصاعدة لم تأخذ بعد حقّها من التحليل الفلسفي أقلّه مقارنة بالمادة المتوفرة للمنتجات الثقافيّة الأخرى

ومع ذلك، فإن أصواتاً جديدة من مصممي ألعاب الفيديو مثل باولو بيدريشيني وماري فلانغان وإيان بوغوست ترى أن هذا المنتج العالي التقنيّة - كما كل معطيات التكنولوجيا الحديثة - ليست خيّرة أو شريرة بحد ذاتها، وإنما أداة محايدة يمكن للبشر أن يوظفوها لاستعمالات ترتبط بتوجهاتهم. إذ يمكن ولو نظرياً أن يتم تصميم ألعاب فيديو تستفيد من حاجة الناس إلى الترفيه عبر اللعب لتمنحهم تجارب افتراضيّة ومشاعر قد ترتقي بوجودهم الإنساني وتغني تجربتهم المعيشة في الواقع، وتكون أدوات للتأسيس لمجتمعات أقل ميلاً للتنافس والعنف، وأقرب إلى مزاج التعاون الخلاّق، وشكلاً مغايراً للإبداع الفنيّ البشريّ.

وبينما تبدو هذه الفكرة صائبة و«جذابة» على صعيد النظريّة، فإن السؤال - على أرض الممارسة - يبقى: أي رأسمال ذاك الذي سينتج ترفيهاً يتضمّن بذور وعي قد تكون غير صالحة اقتصادياً أو سياسياً، على مدى متوسط أو بعيد؟

إن ألعاب الفيديو هي هبة الرأسماليّة المتأخرة، وإلى مستقبل قريب ستبقى حتماً كما بدأت، إحدى أمضى أدوات الهيمنة على حياة البشر من خلال فضاء الترفيه، وأكثرها قدرة على التحوّل والتطّور توازياً مع تمدد سيطرة التكنولوجيا على عالمنا. فهل سيأتي يوم نترك فيه العمل نفسه للروبوتات والذكاء الاصطناعي، ونتفرّغ لقضاء سحابة وقتنا - بدل التبطّل - في الترفيه من خلال اللعب؟


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.