نحو فلسفة لألعاب الفيديو... أخطر من ترفيه وأكثر من فن

تطورت خلال عقود قليلة شكلاً ومضموناً لتفرض وجودها على الثقافة المعاصرة

فيديو سمس (4)
فيديو سمس (4)
TT

نحو فلسفة لألعاب الفيديو... أخطر من ترفيه وأكثر من فن

فيديو سمس (4)
فيديو سمس (4)

لم يعد العالم هو العالم بعد ظهور الرأسماليّة بمفهومها الحديث. إذ مع تطوّر مفهوم العمل المأجور كأساس للثورة الصناعيّة تغيّرت علاقة الأكثريّة الساحقة من البشر بحياتهم وطريقة قضائهم لأوقاتهم، لتتوزع حول الفضاءات الثلاثة: العمل والترفيه والتبطّل.

صوّر فلاسفة البرجوازيّة مثل ماكس فيبر العمل كقيمة عليا، أقرب ما يكون إلى الواجب الديني كما في الثقافة الغربيّة البروتستانتية، فيما أُلبس التبطّل والكسل رداءً شيطانياً، وأسبغت عليهما صفات سلبيّة تربطهما بغياب الإنتاجيّة، وبالتعطّل، والفراغ المؤدي إلى المفسدة والموبقات (كما في رواية فلوبير الشهيرة «مدام بوفاري»). على أنّ الترفيه - بمعنى إشغال الوقت عندما يتوقف العمل مؤقتاً للاستراحة -، تلك المساحة بين هذين الأقنومين الجدليين المتناقضين، أي العمل والتبطل، اكتسب وعلى نحو متزايد في موازاة التقدّم التكنولوجي المتسارع أبداً أهميّة ومركزيّة، للمنظومة الرأسماليّة وللفرد على حد سواء، ودائماً على حساب الرّاحة. لقد تحوّلت الكيفيّة التي نقضي بها وقتنا عندما لا نكون على رأس عملنا بعد الثماني ساعات (اليومية) أو خلال العطلة الأسبوعيّة أو الإجازات السنويّة إلى شبكة من صناعات ضخمة قائمة بذاتها، من السياحة الاستهلاكيّة وارتياد المطاعم والمقاهي إلى المنتجات الثقافيّة على تعدد أنواعها (الكتب، والأفلام، والمسرح والحفلات الغنائيّة، والمهرجانات...)، تتنافس جميعها على توسيع حصّتها من كل وقت مخصص للراحة، بل وشرعت كما يقول جوناثان كريري في كتابه اللاذع «24/7: الرأسماليّة المتأخرة والقضاء على النوم» - 2014* بقضم ما بعد حصتها التقليديّة من وقت الإنسان عبر تقليل عدد ساعات نومه اليومية التي تلتهمها بشراهة لافتة وفرة شاشات قريبة - تلفزيونات وكومبيوترات وهواتف ذكيّة (وغيرها).

ومن الظّواهر اللافتة في هذا المشهد تبدو ألعاب الفيديو الحديثة وكأنّها النموذج الأكثر تعقيداً من أدوات الترفيه التي أصبحت ممكنة في عصرنا بفضل تراكم التقدّم التقنيّ، والتي بحكم انتشارها المتشظي عبر مختلف الطبقات والدوائر الاجتماعيّة لم تعد مجرّد أدوات للعب وفق المفهوم التقليدي الذي نحته ليوهان هويزينجا في كتابه الشهير «هومو لودينز - أو الإنسان كمخلوق لاعب» - 1938*، بل أصبحت أداة لتعظيم الاستهلاك «اقتصادياً» ومصنعاً لتشكيل الوعي «الزائف» (إن جاز التعبير) وفق ما تحبّه المنظومة الرأسمالية وترضاه «سياسياً».

فخلال عقود قليلة، تطورت ألعاب الفيديو شكلاً ومضموناً لتفرض وجودها على الثقافة المعاصرة، واحتلت لها مساحة من وقت الترفيه لملايين الأفراد على حساب المنتجات الثقافيّة الأخرى - إضافة إلى جزء من وقت النوم اليومي -، ودخلت بلا استئذان في قلب دائرة اهتمام رأس المال العالميّ، وأصبحت بعض إصداراتها الجديدة أو التحديثات على الألعاب الموجودة فعلا بمثابة حدث هائل يستحق متابعة مكثفة عبر وسائل الإعلام.

وعلى الرّغم من ذلك، فإن هذه الصناعة الصاعدة لم تأخذ بعد حقّها من التحليل الفلسفي - أقلّه مقارنة بالمادة المتوفرة للمنتجات الثقافيّة الأخرى (قارن مثلاً مع نظريّة الرواية أو المسرح)، ما يفرض على المراقب إن هو عزم على وضعها في نسق عقلانيّ الاستعانة بأفكار الرّواد مثل جان بودريار مثلاً الذي سبق إلى التبشير بسعي منتجي الوعي إلى اجتراح واقع بديل من الواقع الحقيقيّ (مفهوم الـHyper-reality).

ويبدو تطوّر ألعاب الفيديو مطابقاً لنظريّة بودريار كما في كتابه الشهير عن «التشبيهات والمحاكاة - **» عن مرحلة من العالم الرأسمالي شرعت معالمها بالتشكل وتتظافر فيها تقنية المعلومات مع أدوات الاستهلاك الإعلاميّ لتخليق واقع بديل يكاد مع مرور الوقت يبدو محاكاة مستقلة بالكامل عن الحقيقة، حيث بدأت الألعاب أقرب لصيغة تعكس الواقع القائم، قبل أن تنطلق لاستكشاف طرائق لتمويه أو تشويه حقائق قائمة، ومن ثمّ إلى مرحلة التغييب التام لحقائق أساسيّة، قبل أن تخلق واقعاً بديلاً متكاملاً، ليس له علاقة إطلاقاً بالحقيقة، بل مجرّد محاكاة خالصة خاصة به.

ولعل لعبة سيمس «Sims» الذائعة الصيت تكون أفضل مثال لتطبيق نظريّة بودريار على عالم ألعاب الفيديو. فهذه اللعبة التي أطلقت قبل عقدين فقط (صممها المبرمج ويل رايت)، أصدرت أربع نسخ متعاقبة وصلت إلى أيدي ما لا يقل عن 80 مليون «لاعب» ودرّت على الشركة صاحبة الامتياز («إليكترونك آرتس» الأميركيّة) ما يزيد على خمسة مليارات دولار (الرقم لنهاية عام 2021). وتقوم على أساس خلق عالم «الحلم الأميركي»، كيوتوبيا اجتماعيّة متقدمة يمكن للاعب فيها أن يتقمص حياة أخرى، فينشأ منزلاً متخيلاً وفق نسق يختاره، وعائلة على هواه من خلال انتخاب الجينات عبر الأجيال، فيما الفضاء الحضري الذي يحوم فيه متخم بخدمات ترضي مختلف الحاجات العاطفيّة والعلاقاتية.

وتمكّن «سيمس» لاعبها من تجاوز يومه إلى حياة يوميّة بديلة معفاة من هموم العيش الحقيقيّ في ظل النظام الرأسماليّ، إذ له فيها أن يمارس صلاحيّة، دون مرجعيات سوى المشاعر الذاتية، لاختيار الشريك (أو الشريكة)، والمهنة، وكيفية قضاء الوقت في أنشطة مختارة تبدو ممتعة في الواقع الافتراضي. ولكن كل ذلك يظل بوتقة منعزلة تماماً عن حقائق العالم الحقيقيّ التي تجعل هامش الاختيارات وحريات توظيف الوقت ضيقاً للغاية ومحكوماً باعتبارات بنيوية وسياسيّة وتاريخية واقتصادية واجتماعيّة يكاد الذاتي فيها يكون منعدماً لدى أغلبيّة البشر.

الإنسان كما في «سيمس» مستهلك مثاليّ يكسب وينفق دخله في شراء الممتلكات التي تحقق له الرضى ويعيش وفق القيم الغربيّة فيما يتعلق بالحريات الشخصية والاستغراق بالملذات والهوى في إطار «خادع» من الأمن والأمان المستديمين. ويجد كثيرون فيما يبدو أن هذه الحياة البديلة توفر لهم مهرباً من واقعهم القاسي إلى فانتازيا عالم أجمل يمتلكون فيه السيطرة على مصائرهم، وحريّة ممارسة الأمور افتراضياً دون بذل جهد ومال إضافيّ (مثلاً زراعة نباتات في حديقة المنزل الافتراضي الخلفيّة ورعايتها وقطف زهورها بينما قد لا يمتلك المرء حديقة في الواقع القائم وربما ليس لديه الاهتمام للعناية بنباتات حقيقيّة).

إن هذه الخبرات التي تستنفد وقت التّرفيه للملايين من البشر (و«سيمس» ليست إلا نموذجا واحدا من آلاف مؤلفة من الألعاب الأخرى) تخدم بصفاقة ظاهرة غرضي المنظومة القائمة لما بعد إنسان «هويزينجا» اللاعب: تعظيم الاستهلاك (سواء مباشرة عبر اقتناء نسخ الألعاب ومشغلاتها ومستلزماتها وتوابعها أو غير مباشرة عبر استهلاك الطاقة وربما المسليات الغذائيّة والمشروبات ومختلف المنتجات ذات الصلة وهكذا)، وأيضاً المساهمة في صياغة وعي الأفراد سياسياً واجتماعياً كي يتماهوا مع الصيغ الليبرالية القائمة في الغرب (وقطعاً تلك التي يراد لها أن تقوم في المجتمعات الأخرى).

هذه الصناعة الصاعدة لم تأخذ بعد حقّها من التحليل الفلسفي أقلّه مقارنة بالمادة المتوفرة للمنتجات الثقافيّة الأخرى

ومع ذلك، فإن أصواتاً جديدة من مصممي ألعاب الفيديو مثل باولو بيدريشيني وماري فلانغان وإيان بوغوست ترى أن هذا المنتج العالي التقنيّة - كما كل معطيات التكنولوجيا الحديثة - ليست خيّرة أو شريرة بحد ذاتها، وإنما أداة محايدة يمكن للبشر أن يوظفوها لاستعمالات ترتبط بتوجهاتهم. إذ يمكن ولو نظرياً أن يتم تصميم ألعاب فيديو تستفيد من حاجة الناس إلى الترفيه عبر اللعب لتمنحهم تجارب افتراضيّة ومشاعر قد ترتقي بوجودهم الإنساني وتغني تجربتهم المعيشة في الواقع، وتكون أدوات للتأسيس لمجتمعات أقل ميلاً للتنافس والعنف، وأقرب إلى مزاج التعاون الخلاّق، وشكلاً مغايراً للإبداع الفنيّ البشريّ.

وبينما تبدو هذه الفكرة صائبة و«جذابة» على صعيد النظريّة، فإن السؤال - على أرض الممارسة - يبقى: أي رأسمال ذاك الذي سينتج ترفيهاً يتضمّن بذور وعي قد تكون غير صالحة اقتصادياً أو سياسياً، على مدى متوسط أو بعيد؟

إن ألعاب الفيديو هي هبة الرأسماليّة المتأخرة، وإلى مستقبل قريب ستبقى حتماً كما بدأت، إحدى أمضى أدوات الهيمنة على حياة البشر من خلال فضاء الترفيه، وأكثرها قدرة على التحوّل والتطّور توازياً مع تمدد سيطرة التكنولوجيا على عالمنا. فهل سيأتي يوم نترك فيه العمل نفسه للروبوتات والذكاء الاصطناعي، ونتفرّغ لقضاء سحابة وقتنا - بدل التبطّل - في الترفيه من خلال اللعب؟


مقالات ذات صلة

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».