هل غابت المواطنة عن الفقه السياسي الاثني عشري؟

أصبح من الضرورة إعادة النظر في بعض التعريفات الفقهية المؤثرة في حياة الناس

عسكري من باكستان يقف لحراسة أحد المساجد خلال احتفالات عاشوراء في بيشاور (إ.ب.أ)
عسكري من باكستان يقف لحراسة أحد المساجد خلال احتفالات عاشوراء في بيشاور (إ.ب.أ)
TT

هل غابت المواطنة عن الفقه السياسي الاثني عشري؟

عسكري من باكستان يقف لحراسة أحد المساجد خلال احتفالات عاشوراء في بيشاور (إ.ب.أ)
عسكري من باكستان يقف لحراسة أحد المساجد خلال احتفالات عاشوراء في بيشاور (إ.ب.أ)

خلا الفقه الشيعي الاثني عشري في بداياته من نظرية فقهية سياسية واضحة المعالم حول الدولة، بل لنا القول: إن أصول الفقه عند الشيعة الاثني عشرية، أمر مستحدث نسبياً، وقد أخذ علماء الدين الشيعة صنعة أصول الفقه من فقهاء المذاهب السنية، وانصبَّ اهتمام الفقه الشيعي الاثني عشري على العبادات والمعاملات، ولم ينخرط فيما اصطُلح على تعريفها بـ«الأحكام السلطانية».

عراقي في طريقه إلى كربلاء لحضور احتفالات عاشوراء ويحمل صورة دينية (أ.ف.ب)

وذلك لأن الأصل في الفقه السياسي الشيعي –الجعفري تحديداً– أن الدولة الوحيدة المعتبرة شرعاً، هي الدولة التي ينتظر الشيعة تأسيسها على يد الإمام الثاني عشر، الإمام محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري، وهناك فقرة من دعاء مثبت في كتاب «الكافي» للكليني، على أنه دعاء كان يدعو به الإمام جعفر الصادق، هذه الفقرة من الدعاء من رواية منسوبة للإمام جعفر الصادق ومستقرة منذ قرون في كتب الحديث المعتبرة عند الشيعة، انتشرت ورسخت في الخطاب المذهبي السياسي الشيعي عشية صعود نجم رجال الدين في إيران.

الخميني مع أتباعه في مسجد طهران المجاور لمنزله (غيتي)

والغرض من الترويج المكثف لهذه الفقرة حينذاك، نشر رسالة من الخميني ورفاقه إلى الشيعة في أرجاء الأرض تذكِّرهم بأن الله سبحانه وتعالى قد استجاب لدعاء الإمام الصادق بأن مكَّنهم في الأرض فأسّسوا فيها دولة إسلامية، ونص تلك الفقرة من الدعاء: «اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزّ بها الإسلام وأهله وتُذلّ بها النفاق وأهله وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة». فكل دولة -عند الشيعة- قبل الدولة الإسلامية التي يُنْتَظَر قيامها مع ظهور الإمام المهدي، هي دولة جور وضلال؛ ففي أساس العقيدة السياسية للشيعة الاثني عشرية: «كل راية تُرفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل»، وهذه قاعدة مأخوذة من حديث منسوب للإمام جعفر الصادق أيضاً.

أحمد النراقي والنظرية المتماسكة لولاية الفقيه

مما يستوجب الذكر أن أول من أثار الجدل حول الدور الواجب على الفقيه الشيعي أداؤه في الحياة العامة، ووضع قاعدة نظرية متماسكة لولاية الفقيه، هو فقيه إيراني اسمه أحمد النراقي (ت: 1245هـ)، وللنراقي كتاب اسمه «عوائد الأيام» يعرفه جيداً طلبة العلوم الدينية من الشيعة.

وخصص النراقي قسماً واسعاً من كتابه لطرح آرائه حول ما للفقيه من سلطات وصلاحيات على سائر الشيعة، وحمل هذا القسم من الكتاب عنوان «عائدة ولاية الفقيه». كلمة «عائدة» مفرد كلمة «عوائد» بمعنى «فوائد»، وقَسَّم النراقي هذا القسم من الكتاب إلى أقسام فرعية تناولت وظيفة العلماء وحدَّ ولايتهم: الإفتاء، والقضاء، وأموال السفهاء والمجانين، وأموال الغيب، والولاية على الأيتام واستيفاء أموالهم، والأنكحة، وولاية أموال الإمام الغائب نيابةً والتصرف فيها.

ليس من أهداف هذا المقال مناقشة أفكار أحمد النراقي حول ما للفقيه من سلطات وصلاحيات بشكلٍ مفصل، وإنما وجبت الإشارة إلى عمل أحمد النراقي وتاريخه بقصد توضيح حداثة التأسيس النظري لولاية الفقيه؛ كما تجدر الإشارة إلى أن أحمد النراقي لم يواجهه معاصروه من الفقهاء الشيعة بتهم تُخرجه من الملّة، وإنما حُمِلَتْ أفكاره على محمل الاجتهاد، بل إن أفكاره حول حدود سلطات وصلاحيات الفقيه الشيعي قد فتحت مجالاً أوسع لانخراط الفقهاء الشيعة في الحياة العامة لسائر الشيعة، بحكم أن الفقيه في نظر مقلديه هو الحاكم الشرعي واجب الطاعة، وأن الفقيه يؤدي وظيفة لا غنى عنها نيابةً عن الإمام الغائب. كما أن رصد الواقع لممارسات الفقهاء الشيعة، يُفضي بالراصد إلى نتيجة مفادها أن هناك حالة من الإجماع على ولاية الفقيه على الشؤون العامة، وما نشهده من اختلاف بين الفقهاء الشيعة، ينحصر في حدود ولاية الفقيه، لا في مبدأ ولاية الفقيه.

صورة التُقطت من التلفزيون الإيراني ورُصدت في باريس تجمع آية الله روح الله الخميني يضع يده اليمنى على نسخة من وصيته السياسية والدينية الجديدة بينما يجلس خلف آية الله حسين علي منتظري (غيتي)

وهنالك سؤال: هل بعد هذا يمكن للدارس احتساب الدولة التي اعتلى سدتها الفقهاء الشيعة في إيران بدعة حادثة في الفقه السياسي الشيعي؟

لإجابة هذا السؤال على الدارس الاطلاع على مطارحات حسين منتظري بهذا الشأن (حسين منتظري: فقيه شيعي إيراني من مواليد عام 1922 تولى رئاسة مجلس قيادة الثورة، ومجلس خبراء القيادة، وكان نائباً للخميني كمرشد أعلى للثورة، والرجل الثاني في هرمية سلطة الثورة في إيران إلى حين عزله من جميع مناصبه عام 1989 نتيجة الصراع على السلطة الذي دار بين تيار سياسي في إيران أراد الانعطاف بإيران نحو مسلك الدولة مقابل توجه حسين منتظري الذي كان يرى ضرورة استمرار الحالة الثورية والعمل على تصدير الثورة. وحسين منتظري غير مطعون في فقهه في أوساط الفقهاء الشيعة، بمن فيهم الفقهاء الذين لا يقرُّون ولاية الفقيه المطلقة).

كتاب «ولاية الفقيه»

وورد في الجزء الأول من كتاب حسين منتظري «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» أدلة كافية لإقناع المتابع بأن نظرية ولاية الفقيه إنما اسْتُنْبِطَت من مجموعة أحاديث منسوبة لرسول الله (عليه أفضل الصلاة والسلام)، ولأئمة الشيعة، ودُوِّنت في كتب الحديث المعتمَدة لدى الشيعة الاثني عشرية، وكثير من هذه الأحاديث تواتر عبر سلاسل من رواة ثقات لدى الشيعة.

أثار حسين منتظري في مطارحاته نقاشاً حول عددٍ من المسائل الجوهرية في العقيدة السياسية عند الشيعة الاثني عشرية، ومن الموضوعات التي أثار النقاش حولها: أن التقية لا يُراد بها المنع من الجهاد، وإنما المراد منها حفظ النفس، مع الاشتغال بالوظيفة الدفاعية؛ حيث يدفع منتظري بالقول إن التقية سلاح يتسلح به المؤمن في ميدان المبارزة مع العدو، وله التخلي عنه حين بلوغه المأمن. استفاض منتظري أيضاً في إعادة تفسير الأحاديث والأخبار المروية عن أئمة الشيعة والتي تحمل دلالات بالنهي عن الخروج؛ حيث لم يقر منتظري النهي عن الخروج، بل اختلف مع من فسّر الروايات الناهية، ورأى أن تلك الروايات إنما نهت عن الاستعجال، وأن ذات الروايات حبّذت الاشتغال على تهيئة الظروف المناسبة للخروج ومجاهدة الطواغيت، واستغرق في حشد الأحاديث الدالّة على فضل أهل المشرق عموماً وبخاصة أهل قُم في حمل رايات الحق والنهوض بأمر آل محمد؛ كما دفع بالقول: إن راية أهل قم هي راية حق لأنها راية أهل التمهيد لظهور المنتظر، واستدل على ظهور رايات الحق قبل ظهور القائم، بمجاهدة علي لمعاوية، وخروج الحسين على يزيد بن معاوية، وخروج زيد على هشام بن عبد الملك، وتبلغ مطارحات منتظري في هذا الشأن ذروتها بنقله حديثاً منسوباً إلى الإمام علي؛ حيث يرد في كتاب «بحار الأنوار» لمحمد باقر المجلسي، في باب «علامات الظهور» نصاً: «رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم كزُبَرِ الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، ولا يملّون من الحرب، ولا يَجبنون، وعلى الله يتوكلون، والعاقبة للمتقين»، ورجح منتظري انطباق مفاد هذه الأخبار على الثورة الإسلامية في إيران.

آية الله حسين علي منتظري

المواجهة الحادثة بين من يتبنى نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وبين من يرى أن ولاية الفقيه تنحصر في الأمور الحسبية، والولاية على أموال القاصر، والسفيه، ومجهول المالك، ونحوها من شؤون لا ترقى إلى مستوى مسؤولية تأسيس دولة وتولي قيادتها؛ هي مواجهة تعتمد بكليتها على الموروث الحديثي المعتبر عند الشيعة الاثني عشرية، وبقدر اختلاف المدرستين حول حدود ولاية الفقيه، فإن بين المدرستين ذات القدر من الاتفاق حول ركائز أساسية أخرى منها: أن الدولة الإسلامية الحقّة هي دولة قائم آل محمد، وإن تيار ولاية الفقيه المطلقة يروّج عن نفسه فكرة مفادها أن الإطاحة بنظام الشاه واعتلاء سدة الحكم ليس هدفاً نهائياً، بل إن ذلك خطوة في طريق الجهاد الطويل الذي من شأنه تمهيد الأرض لظهور الإمام المنتظر، وتسلمه دفة قيادة البشرية نحو الخلاص، وذلك بدحر الظلم وإقامة العدل المطلق.

دولة الضلال

إذن فأي دولة عند فقهاء الشيعة هي دولة ضلال، بما فيها دولة ولاية الفقيه في إيران، إذا كان القائمون عليها يدعون لأنفسهم، أو لا يعدون أنفسهم مجرد ممهدين لظهور الإمام المنتظر، وعليه فإنه حتى «تيار الموادعة»، وهو تيار ذو وزن معتبر في أوساط الفقهاء الشيعة، لا يلزم نفسه ببيعة لحاكم، وما رفض تيار الموادعة الشغب والخروج والتمرد إلا من باب حفظ الأموال والأعراض والدماء، تأسيساً على الحديث المنسوب إلى الإمام علي، والوارد في «نهج البلاغة» نصاً: «وإنه لا بد للناس من أمير بَرٍّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل».

أحد النقاشات التي شهدها البرلمان الإيراني (إ.ب.أ)

الولاء المطلق للدولة

تبقى مسألة الولاء المطلق للدولة عالقة دون حسم، لأنها مسألة من صميم المعتقد، وهي أخطر شأناً مما يرغب الفقهاء الاثني عشرية مناقشته، وطريقها أطول مما يطيق فقهاء الشيعة قطعه من مسافات؛ فالفقه من الناحية النظرية، كائن حي قابل للتطور والتفاعل مع المستجدات، ودليل ذلك ما وقفنا عليه من منهج استنباطي أصولي اتبعه حسين منتظري وآخرون، وقدموا من خلاله قراءات جديدة لأحاديث موجودة منذ قرون في بطون كتب الحديث عند الشيعة؛ كما أن هذا المنهج الاستنباطي الأصولي الذي اتبعه منظِّرو الثورة الإيرانية، لم يُخرجهم من الملّة، وأسباب ذلك كثيرة، ومنها أن الفقهاء التقليديين يعلمون يقيناً أن المنظِّرين الثوريين في إيران ليسوا مهرطقين، وأنهم استنبطوا رؤاهم من الموروث الحديثي المعتبر عند الشيعة، والاستنباط مدماك المدرسة الأصولية التي ينتمي إليها فقهاء الثورة الإيرانية بقدر انتماء الفقهاء التقليديين إليها.

أردت بهذه المقدمة الوصول إلى مناقشة مسألة سِمَتها الرئيسية تتمثل في حملها تحدياً وجودياً يواجه المواطن الشيعي؛ فبعض المصطلحات المتداولة إلى اليوم في أوساط طلبة العلوم الدينية تحمل في طياتها إحالات مذهبية خاصة لا تتفق البتة مع إحالات العلوم السياسية لذات المصطلحات، وتصطدم بأحدث مبادئ المواطنة، وأكثرها أمناً، وأحفظها للتنوع، وأكثرها قدرة على صون الخصوصيات. أقصد معضلة مفهوم «الحاكم الشرعي» ومؤديات المفهوم في الأدبيات الفقهية الشيعية؛ فإحالة العلوم السياسية لهذا المفهوم تنصرف لنظام الحكم القائم والمستقر والمتولدة شرعيته من رحم إطار ثقافي - اجتماعي محدد الملامح، بينما تنصرف الإحالة الشيعية لذات المفهوم إلى مرجع التقليد وإن لم يكن من متبني نظرية ولاية الفقيه المطلقة.

علماء في إيران خلال مناقشات حية في ساحة مدرسة فايزية في قم (غيتي)

مفهوم الدولة الوطنية

لا يزال مفهوم «الدولة الوطنية» يعاني غياب «الإجماع الاصطلاحي»، إلا أن غياب الإجماع الاصطلاحي حول المفهوم لم ينفِ أن تصور «الدولة الوطنية» القائم على «الإقليم» كحقيقة جغرافية، هو أفضل التصورات، وأكثرها قدرة على توليد منظومة ثقافية - اجتماعية وطنية، وقد يتفوق عنصر من العناصر المكونة للمنظومة الثقافية - الاجتماعية الوطنية على باقي العناصر التي ائتلفت معه لتكوين تلك المنظومة، وفي الغالب فإن العنصر الذي يتفوق على أقرانه يكون قد لعب دوراً أكبر في تأسيس الدولة الوطنية، وقد يتمثل تفوق عنصر ما على الأقران في بعض صيغ الاستئثار، لكني أتصور أن الاستئثار، وإن كان من موجبات القلق، فإن ذلك القلق الذي يساور بعض الشركاء لا ينبغي له أن يتحول إلى حالة مَرضية دائمة تجترّ المظلومية، وتقتات عليها، وتبرر بها العجز والتقاعس؛ فعلى الجانب الآخر علينا النظر ملياً في المجريات التنظيمية ومدى فاعليتها، فكلما نضجت الأطر التنظيمية والقانونية الضابطة لعلاقات الأطراف ضمن العقد الاجتماعي المعين، انخفض أثر الاستئثار، وازداد النسيج الوطني تناغماً ومتانةً بما يدفع بالمساواة القائمة على معيار الكفاءة إلى مكانتها المستحقة.

مفهوم الدولة الوطنية حديث، وفي محيطنا هو مفهوم حديث جداً، ولا يزال يتجوهر شيئا فشيئاً، وتجوهُر المفاهيم وانصقالها لا يأتي صدفة، بل يأتي نتيجة تضافر عدد من العوامل، منها إعادة التفكير في بعض الأسس، والتخلي عمّا يمكن منها أن يعيق نمو الشعور بصدق الوحدة الوطنية بين أبناء الإقليم الجغرافي الذي تأسست فيه أو في جزء منه دولة ذات سيادة تعمل جادة في جعل مواطنيها متساوين في الحقوق والواجبات بموجب نظم وقوانين واضحة تساندها أجهزة تنفيذية قوية وجاهزة للتدخل لإنفاذ القانون متى ما مسّت الحاجة.

أصبحت السعودية عبارة عن ورشة تطوير عظمى وتتيح لجميع مواطنيها فرصة المشاركة (الشرق الأوسط)

التجربة السعودية

الدولة الوطنية الحديثة التي تطابق ملامحها النموذج الذي نناقشه هنا، تتمظهر كأوضح ما يكون في تجربة المملكة العربية السعودية، فالمملكة بكيانها الحالي، دولة فتية بكل الأبعاد، وهي دولة تختزن القدرة على التطوير والتجديد الذاتي حسب مقتضى الحال، وفي الوقت الراهن فإن المملكة عبارة عن ورشة تطوير عظمى، وتتيح لجميع مواطنيها فرصة المشاركة في عمليات التطوير الشاملة التي تستهدف في مداها الأقصى رفاهية وتقدم الإنسان، والمملكة بلد مترامي الأطراف ويختزن قدراً هائلاً من التنوع، وهذا التنوع كان يتمثل في شكل هويات فرعية، ولا يعنينا في هذا النقاش إن كانت تلك الهويات الفرعية متخيَّلة أم غير ذلك، والذي يعنينا من تلك الهويات أن وجودها والشعور بها وتعريف الذات من خلالها، لا ينبغي له أن يكون عامل إضعاف لقوة النسيج الوطني، وإن تلك الهويات التي سبقت الدولة ينبغي لها أن تسهم في تشكيل الهوية الوطنية إسهاماً إيجابياً ينعكس ثراءً وتنوعاً، وعلى تلك الهويات التراجع عن مكانتها التي كانت تحتلها قبل نشوء الهوية الوطنية الجامعة؛ فالهوية الوطنية الجامعة هي ضامن المساواة، وهي المضمار الذي يضمن عدالة تسابق الأكْفَاء.

أحد المشاريع الضخمة التي أعلنت عنها السعودية إحياء المواقع الطبيعية والبيئية في جزيرة دارين وتاروت شرق السعودية (الشرق الأوسط)

إنَّ من يجد أن هويته الفرعية بها ما يمكن أن يعيق اندماجه الكامل مع محيطه الوطني، عليه العمل الجاد لإزالة العوائق، والعمل الجاد لإزالة العوائق ليس من الأمور مستحيلة التحقق، فقد رأينا من خلال ما استعرضناه كيف أن من نَظّر لجواز قيام دولة ثيوقراطية في إيران، قد اعتمد على موروث حديثي معتبر عند الشيعة، وهذا يقودني إلى طرح سؤال مشروع حول المانع من قيام فقهاء معتبرين بإعادة النظر في مفهوم «الحاكم الشرعي» ومؤديات هذا المفهوم.

أعلم أن بعض من سيقرأ هذا المقال سيقلل من أهمية هذا الطرح بحجج منها الاعتقاد أن الولاية في الأمور الحسبية التي تشكل الأساس لصلاحيات «الحاكم الشرعي» وفق الفقه الشيعي الاثني عشري، لا خطر منها، فهي لا ترقى إلى التوجيه السياسي الملزم، وإنها منحصرة في شأن عباديّ صِرف. كما أن بعض مَن سيقرأ هذا المقال سيودّ أن يجر النقاش ناحية صحة الأحاديث والروايات وناحية العلوم المتعلقة بالجرح والتعديل والرجال، وهذه تفرعات لا يستهدفها هذا المقال، فليست مهمة عندي صحة الأحاديث من عدمها وفق معايير أهل علم الحديث وعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال، وإنما المهم عندي هو الأثر الفعلي الناتج عن الاشتغال على تلك الأحاديث.

الفقه والتطوير

إذن فالتقليل من أهمية مساءلة المشتغلين بالفقه عمّا يمنعهم من إعادة النظر في بعض التعريفات الفقهية المؤثرة في حياة الناس، هو تقليل في غير مكانه، وقد تختلف دوافع المقاومين لهذا الطرح؛ فبعضهم يقاوم لأسباب تتعلق بمصلحة له في بقاء الحال على ما هي عليه، وبعضهم سيقاوم لأنه فاقد المؤهلات اللازمة لاستقبال مثل هذا الطرح، والاستعداد لمناقشته.

وددت القول قبل الختام إن نزوع الدولة تجاه إنضاج الحالة المدنية لمعنى المواطنة، يستوجب العمل على ما يضمن سلاسة وسلامة التحول إلى الحالة المدنية الناجزة التي لا تهدد الأسس العقائدية لأي فئة كانت، ما لم تكن تلك الأسس في ذاتها تحمل ما يهدد سلامة الوطن ووحدته؛ فتحول الدولة إلى الحالة المدنية الناجزة لا يسعى بأي شكل إلى المساس بالعقائد الأساسية، ولا يعدو الأمر حدود الحاجة إلى شيء من الحداثة الفقهية؛ حيث يُفترَض في الفقه أنه كائن حي قابل للتطور ومواكبة متطلبات الحياة، وإذا أظهر الفقه جرعة فائضة من الجمود والسكينة، والتجأ مستسلماً إلى ما كتبه الأولون في ظل ظروف حياتية مختلفة عن الظروف الحياتية الراهنة ومتطلباتها، فإن الاجتهاد والاستنباط يصبحان بلا معنى. وما الفقاهة دون الاجتهاد والاستنباط؟!



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.