تسلّط هيئة التراث في السعودية الضوء على الموقع التاريخي لسوق ذي المجاز، أحد أشهر أسواق العرب قبل الإسلام. وقد أتمّ فريق المسح والتنقيب بالهيئة الموسم الأول من أعماله، للبحث عن كنوزه الأثرية، والتنقيب عن لُقى ومعثورات وآثار عمرانية تشهد على البُعدين التاريخي والثقافي للسوق التي كان يِفِد إليها العرب والمسلمون في صدر الإسلام قبل أن يشهدوا موسم الحج من كل عام.
وأنهت الهيئة الموسم الأول من أعمال المسح والتنقيب الأثري في موقع السوق بمكة المكرمة، بمشاركة مجموعة من الخبراء السعوديين، للكشف عن الأدلة والمعطيات العلمية والتاريخية المرتبطة بالموقع، وذلك في إطار جهودها في التنقيب في مواقع التراث الوطني وصَونها والحفاظ على المواقع التاريخية والتعريف بها، والاستفادة منها بوصفها مورداً ثقافياً واقتصادياً مهماً يسهم في إثراء تجربة الزائرين من المواطنين وضيوف الرحمن.

أسواق العرب التاريخية... حضارة وتجارة
تحتفظ السعودية، بمساحتها الجغرافية الواسعة ومحوريتها في تاريخية المنطقة، بالكثير من المواقع التاريخية التي احتضنت تراث وملاحم العرب والقوميات والثقافات المجاورة التي احتكّت معها واتصلت بها خلال العصور، ومنها تلك الأسواق المشهورة منذ ما قبل الإسلام، مروراً بالحقب الإسلامية المبكرة، حيث كانت المجتمعات تلتئم في حوانيتها وتجتمع في دكاكينها. ومن أبرزها أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز، التي كانت تُعرف باسم أسواق الحج لأنها تقام في أشهر الحج، وكان الموسم يبدأ في سوق عكاظ، أول ذي القعدة من كل عام، ويتدفق إليه الناس طوال 20 يوماً، من بيع السلع والتجارة وتداول الشعر والأدب وصنوف الفكر. وبانتهاء السوق يرتحل الناس منها إلى سوق مجنة، إحدى أسواق العرب الثلاث المشهورة، على طريق الحج الشامي قديماً، وتستمر لعشرة أيام حتى ظهور هلال ذي الحجة، ويجري فيه ما يجري في الأسواق العربية التاريخية، من مبايعات وقضاء، وشعر، وتفاخر، وخطب أدبية.
وما إنْ يهلّ شهر ذي الحجة، حتى تنهض سوق ذي المجاز بالوافدين إليها والمتداولين للبضاعة فيها، ويستمر ذلك حتى اليوم الثامن من ذي الحجة، ويحين موعد الذهاب لأداء فريضة الحج، كما تشهد السوق خلال أيام الحج الحجاج والتجار من جموع العرب.

وأعادت السعودية إحياء سوق عكاظ التاريخية، وأطلقت مهرجاناً دولياً يحتفي بالقيمة التاريخية والثقافية للسوق التي ارتبطت بالتراث العربي، وقد جسدت فعاليات المهرجان ما كانت تحظى به السوق من مساجلات أدبية ولقاءات اجتماعية، ودور بارز في عصور الجاهلية وصدر الإسلام وبني أمية، حيث استمرت حتى عام 129 للهجرة، فيما تحظى سوق ذي المجاز اليوم، بفرصة مهمة لاستعادة آثارها وتراثها العريق الضارب بجذوره في التاريخ.

إعادة اكتشاف سوق ذي المجاز
تقع سوق ذي المجاز في وادي المغمس، وتبعد عن مدينة مكة المكرمة نحو 20 كيلومتراً إلى جهة الشرق، وتنطوي هذه السوق على أهمية تاريخية وحضارية وأثرية، وهي واحدة من أسواق العرب الشهيرة في الجزيرة العربية منذ عصر ما قبل الإسلام حتى بداية العصر الإسلامي.
وكانت سوق ذي المجاز مرتبطة بطرق التجارة البرية التي يصل من خلالها العرب والتجار إلى مكة من كل الأصقاع، وترتبط من جهة أخرى بميناء الشعيبة التاريخي على شاطئ البحر الأحمر جنوب جدة، وكان ميناءً لمكة قبل الإسلام حتى عصر الخليفة عثمان بن عفان، الذي اتخذ جدة بديلاً عنها في سنة 26 للهجرة، وفي الشعيبة كانت سفن التجارة ترسو من الهند والروم والحبشة لبيع تجارتها إلى أسواق مكة، وقد ظلت سوق ذي المجاز قائمة ومستمرة إلى ما بعد سنة 129هـ.
جانب من أعمال #هيئة_التراث في التنقيب الأثري بموقع سوق ذي المجاز في مكة المكرمة؛ ضمن جهودها للحفاظ على الآثار بوصفها ثروة ثقافية ومورداً اقتصادياً. pic.twitter.com/j9XnhMpaZt
— هيئة التراث (@MOCHeritage) July 23, 2023
وبدأ المشروع العلمي الذي أطلقته هيئة التراث السعودية أعمال موسمه الأول، في سوق ذي المجاز بمسح جميع المنشآت المعمارية الظاهرة ضمن نطاق الموقع، وتوثيقها لفهم وتحديد وظائف تلك المباني وطبيعتها، حيث كشفت النتائج عن مجموعة من الوحدات المعمارية التي تختلف في أحجامها وخصائصها، ورجّحت الهيئة أنها تُمثّل محلات تجارية ملحقاً بها مرافق خدمية، ويتكون أغلب الوحدات المكتشفة من مبنى رئيسي بمدخلَين متقابلَين، بُنيت جدرانه من الحجارة الكبيرة، تتخلّلها حجارة صغيرة ورمل وجص استخدم مونة للبناء، كما يحيط بالوحدة الرئيسية بعض الغرف الخارجية. ويتّضح من تخطيط الموقع أن المباني تقع على امتدادٍ واحد قد يكون ممراً رئيساً يمتد على طول تلك المباني التي تمثل ربما سوقاً تجارية، وقد عُثر على مجموعة من النقوش الإسلامية والملتقطات السطحية، التي تُمثّل مجموعة من الكِسر الفخارية الخزفية لأوانٍ مختلفة، وستستكمل الهيئة التنقيب الأثري في الموقع ضمن مشاريع التنقيب المنتظمة في المواسم المقبلة لتقديم المزيد من المعطيات والمعلومات عن الموقع.

أرض السعودية مرآة الحضارات
وتتولى هيئة التراث في السعودية دوراً حيوياً لإعادة الاتصال بالتراث الزاخر الذي تتمتع به السعودية عبر تاريخها وعلى أراضيها التي كانت مرآة للحضارات التي ازدهرت على أراضيها وانعكاساً لمسيرة الإنسان في اكتشاف هويته المميزة.
وتتولى الهيئة مسؤولية تطوير قطاع التراث والحفاظ عليه، وتنمية الجهود المتعلقة بالتراث الوطني وتعزيز أساليب حمايته، ورفع مستوى الوعي والاهتمام به، وتطوير القطاع ودعم ممارسيه، انطلاقاً مما تزخر به المملكة وأرضها الشاسعة من تراثٍ غني ومتنوع، والاحتفاء بهذا الإرث الثري.
ومن ذلك، عمل هيئة التراث على التوسع في تنفيذ عدد من مشاريع التنقيب الأثري النوعية في نطاق مواقع الأسواق التاريخية خلال فترة ما قبل الإسلام، والفترة الإسلامية، وتطوير نتائج تلك الجهود وتوثيق المعطيات العلمية حول تلك الأسواق، ودورها الفكري والاقتصادي والاجتماعي تمهيداً لتأهيلها وتزويدها بالمرافق والخدمات وتحويلها إلى وجهة سياحية وثقافية، بالإضافة إلى القيمة العلمية والتاريخية المهمة لهذه المواقع وتراثها الغنيّ.







