قيادات إخوانية {منشقة} تعد بمفاجأة في مصر مع {متمردي} شباب الإخوان

حالة سخط داخلية.. ونصف أعضاء الجماعة يرفضون دخول الانتخابات الرئاسية وبقوا في بيوتهم بعد سقوط مرسي

مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي

د. كمال الهلباوي

حسين عبد الرحمن

د. إبراهيم الزعفراني

أحمد بان
مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي د. كمال الهلباوي حسين عبد الرحمن د. إبراهيم الزعفراني أحمد بان
TT

قيادات إخوانية {منشقة} تعد بمفاجأة في مصر مع {متمردي} شباب الإخوان

مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي

د. كمال الهلباوي

حسين عبد الرحمن

د. إبراهيم الزعفراني

أحمد بان
مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي د. كمال الهلباوي حسين عبد الرحمن د. إبراهيم الزعفراني أحمد بان

كشفت قيادات إخوانية سابقة في تنظيم الإخوان المسلمين عن وجود تحركات جدية داخل صفوف جماعة الإخوان للتمرد والخروج على أوامر السمع والطاعة لقيادات الجماعة وهو ما تمثل في حدوث تصدعات جديدة وانشقاقات جماعية في صورة أحزاب وحركات أعلنت عن نفسها مؤخرا، منها حركة إخوان بلا عنف التي تكونت عقب أحداث 30 يونيو وحزب التيار المصري تحت التأسيس الذي شكله مجموعة من شباب الإخوان الذين خرجوا خروجا كاملا عن الجماعة وقياداتها.
وعلى الرغم من أنها ليست الحالة الأولى للانشقاق على الجماعة وقياداتها حيث سبقتها محاولات من أبو العلا ماضي وعبد المنعم أبو الفتوح اللذين انشقا على الجماعة بشكل درامي وكونا حزبي الوسط ومصر القوية على الترتيب، على الرغم مما سبق فإن ما كشفته قيادات إخوانية لـ«الشرق الأوسط» من حالة تململ وإحباط وغضب داخل الجماعة يؤكد ما يتردد في الكواليس عن وجود تمرد في صفوف الإخوان سيما في الأوساط الشبابية التي سادت بينها الرغبة في الاستقلالية عن الجماعة والتمرد على أفكارها وهو ما يعتبره المراقبون هدما لمبدأ السمع والطاعة الذي قامت الجماعة على أساسه وضمن لها البقاء طوال الفترة الماضية، الأمر الذي يثير سؤالا ملحا حول ما تمثله تلك التحركات الداخلية للإخوان المتمردين من تهديد للجماعة الأم سيما في ظل تأكيد القيادي الإخواني الدكتور كمال الهلباوي لـ«الشرق الأوسط» عن وجود مفاجأة كبرى يعد لها مع شباب الإخوان والمنشقين على الجماعة.

تشهد جماعة الإخوان المسلمين، التي حظرت أخيرا وتصنيفها ضمن الجماعات الإرهابية، حالات تصدع وانشقاقات داخلية بعضها انشقاقات هادئة أو صامتة آثرت الانزواء والبعد عن الأضواء بينما أعلن البعض الآخر تمرده صراحة على الجماعة وخروجه خروجا كاملا على تعاليمها وتشكيل كيانات سياسية بديلة.
«أنصار محمد» كانت الخروج الجماعي الكبير الأول على جماعة الإخوان المسلمين في عهد الشيخ حسن البنا وكان ذلك عام 1939 عندما قرر محمد عطية خميس الانشقاق مع مجموعة من الرافضين لأوامر حسن البنا وفضوا بيعتهم له وكان من بينهم الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية آنذاك. لتتوالى بعد ذلك الانشقاقات في فترتي الخمسينات والستينات من قبل رموز الإخوان، وكان من أبرزهم الشيخ حسن الباقوري وزير الأوقاف الأسبق ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، الذي كان أخطر انفصال لأحد كوادر الجماعة عندما فصل بقرار فردي من المرشد حسن الهضيبي بسبب قبوله وزارة الأوقاف وهو الانشقاق الذي صاحبه خروج عدد كبير من القيادات منهم الشيخ محمد الغزالي والدكتور عبد العزيز كامل، والشيخ عبد المعز عبد الستار. ثم جاءت مرحلة انشقاق أبو العلا ماضي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي وقيامه بتشكيل حزب الوسط مع كوادر إخوانية منشقة أعقبه واقعة الخروج الشهير للقيادي ثروت الخرباوي عام 2002 عن الجماعة وكشفه بعض أسرارها التي دعته للانشقاق عليها والتي تواكبت مع قرار تجميد عضوية القيادي مختار نوح المحامي بالجماعة قبل أن يعلن هو استقالته اعتراضا على سيطرة التيار المتشدد على الجماعة بحسب تصريحاته.
وتعد مرحلة ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وما أعقبها من أحداث هي محطة جديدة للخروج الكبير والتمرد على جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث استقال الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد آنذاك، تلاه خروج الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ومجموعة من الشباب الذين كونوا معا حزب مصر القوية بعد أن تحدى الإخوان وأصر على الترشح في الانتخابات الرئاسية على غير رغبة الجماعة. ولم تمر سوى شهور قليلة حتى لحق القيادي الإخواني الكبير الدكتور كمال الهلباوي المتحدث باسم التنظيم الدولي للإخوان بقائمة المتمردين على الجماعة بإعلانه استقالته على الهواء احتجاجا على ترشيح خيرت الشاطر في انتخابات الرئاسة.
وإذا كانت تلك الانشقاقات هي محطات مؤثرة في الجماعة، فإن فترة ما بعد سقوط نظام الإخوان وعزل الرئيس مرسي قد شهدت تغيرا نوعيا في الاحتجاجات الداخلية بالجماعة بعد ارتفاع أصوات الغاضبين والساخطين على أداء القيادات مما أدى إلى حالة تمرد مستتر لكن أصداءه آخذه في الظهور العلني في صور مختلفة وبدعم من قيادات إخوانية منشقة رغم محاولات إنكارها أو تجاهلها من قبل الجماعة نفسها.
أحمد نزيلي، ابن عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين ومسؤول المكتب الإداري للجماعة بالجيزة، أحد أبرز شباب الإخوان الذين شاركوا في ثورة 25 يناير منذ اللحظة الأولى، وهو واحد من مجموعة من شباب الإخوان الذين تمردوا على الجماعة وأعلنوا انشقاقهم عنها عام 2011 وكونوا ما يعرف حاليا بحزب التيار المصري. وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال: «كنت جزءا من شباب الإخوان المشاركين في ائتلاف شباب ثورة 25 يناير والذين ظلوا بميدان التحرير طيلة 18 يوما وبعدها فكرنا في تكوين حزب يجمع شباب الثورة ويحقق أهدافها في الوقت الذي سعت فيه جماعة الإخوان إلى الضغط علينا للانضمام إلى حزب الحرية والعدالة بينما كانت قناعتنا برفضنا التام لأن يكون للجماعة حزب سياسي إيمانا منا أن دورها هو دعوي فقط لكن مقاليد الإدارة وقتها كانت في يد من يريدون ذراعا سياسية لأفكارهم وهي أولى نقاط الاختلاف بيننا بالإضافة إلى اختلافنا معهم في انحيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية وفي برنامجهم الرأسمالي الذي تخلت عنه أميركا بعد ريغان!». وأضاف: «كونا النواة الأولى لحزب التيار المصري من مختلف الشخصيات حيث لا يمثل شباب الإخوان المنشقون فيه سوى نسبة سبعة في المائة تقريبا ورغم مرور ثلاث سنوات فإننا ما زلنا تحت التأسيس لأن عددنا هو ثلاثة آلاف عضو فقط حتى الآن وذلك بسبب مشاكل التمويل، كما أن الحراك لم يهدأ على الأرض خلال الفترة الماضية مما جعلنا في حالة انشغال واشتباك مستمر مع الشأن العام». وأكد نزيلي لـ«الشرق الأوسط» أنهم اتخذوا موقفهم ذلك لتوضيح الصورة لجماعة الإخوان بأن قراراتهم ليست على صواب خاصة ما يتعلق برفضهم للخلط بين الأنشطة السياسية والاجتماعية للجماعة لأنه يكون في غير صالح الجماعة وهو ما حدث بالفعل.
وكشف أحمد نزيلي أن موقفه المتمرد على قيادات الإخوان تسبب في التحقيق معه مرتين حتى فصلوه قبل استكمال التحقيق الثالث. وأفصح لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «حينما تدخل طرف للوساطة مع مكتب الإرشاد بشأننا فإن خيرت الشاطر قال بالحرف: (العيال دي ما تنفعشي تكمل معانا في الجماعة!). والشاطر للعلم يعشق تنفيذ الإبداع لكنه لا يبدع في التنفيذ!».
وحول تعاملهم الحالي مع الجماعة، قال أحمد نزيلي: «إننا لا نهتم بجذب أعضاء من جماعة الإخوان ولكننا كمجموعة تعبر عن شباب الثورة نحاول التواصل مع التيارات السياسية الأخرى وهو أسهل من مهمة الكلام مع الإخوان طالما ظلوا على إغراقهم في المظلومية والكربلائية إذ لا بد أولا أن يعقدوا مصالحة مع النفس ويعيدوا حساباتهم وألا يظل الكلام معهم صعبا وقد حاولنا مرارا إقناعهم بوجوب وقف الدم بعد الثالث من يوليو (تموز) والتعامل مع الدولة كدولة وليس في إطار معركة حربية، وإقناعهم بأن مرسي لن يعود لكنهم لم يقتنعوا ولم يفهموا أن قمة نجاحهم آنذاك قبول الخسائر المحدودة لصالح الاستمرار في المشهد».
أما حسين عبد الرحمن المتحدث الإعلامي لحركة إخوان بلا عنف فقد صرح لـ«الشرق الأوسط» أن الحركة قامت لأن لهم تحفظات على إدارة القيادات للمشهد السياسي منذ اعتصام رابعة العدوية، حيث «تحفظنا على إدارة الاعتصام والتحريض على العنف والمشاركة فيه من قبل القيادات وكانت نقطة التحول حينما أعلنا مع 658 شابا من شباب الإخوان عن تركهم للاعتصام عقب أحداث الحرس الجمهوري التي وقعت قبل ساعات من بدء شهر رمضان الماضي، ومن هنا ترسخت الفكرة لدى شباب الإخوان بتكوين إخوان ضد العنف وهو ليس انشقاقا كاملا عن الإخوان ولكنها دعوة لنبذ العنف على اعتبار أن دور جماعة الإخوان هو دور دعوي بالأساس وقمنا بعمل استمارات على شاكلة استمارات تمرد وجمعنا في البداية 1738 توقيعا ثم ارتفعت إلى 22 ألفا وانتهينا إلى بلوغ عدد الموقعين معنا من أعضاء الإخوان إلى 45 ألف عضو منهم الشباب وكبار السن وإن كانت نسبة النساء محدودة». وأضاف عبد الرحمن: «إننا أردنا أن نكون إيجابيين ولا يكون اعتراضنا على الجماعة بتركها وإنما بإصلاحها من الداخل دون الانسحاب».
وعن أهم تحفظات الحركة على قيادات جماعة الإخوان قال حسين عبد الرحمن: «نطالب بأن يكون وضع المرشد رمزيا وأن يكون القرار التنفيذي بيد مجلس شورى الجماعة وأن يكون مكتب الإرشاد جزءا من شورى الجماعة، كما هو في صميم الشريعة، لأن بعض الأشخاص المحسوبين على أبناء القيادات متحكمون في معظم الشعب والمكاتب الإدارية بنسبة أكبر من 70 في المائة، كما يقومون بإفشال الآخرين تنظيميا ومنع ترقيتهم من أعضاء إلى أمناء شعب وحتى المناصب السياسية التي تتولاها قيادات الجماعة في حزب الحرية والعدالة كانوا من داخل شورى الجماعة، وعلى سبيل المثال كنا معترضين على ترشح الدكتور سعد الكتاتني لأكثر من منصب بداية من رئاسة مجلس الشعب ثم لجنة تأسيسية الدستور وصولا لرئاسة حزب الحرية والعدالة، وكنا نرى أن عصام العريان أفضل من الكتاتني في رئاسة الحزب حتى لا نكرر تجربة تزاوج السلطة وبعض المناصب التي كانت في عهد مبارك».
وعن نشاط الحركة حاليا، يقول المتحدث الإعلامي لحركة إخوان بلا عنف إنه في ظل اتساع حالة السخط العارم داخل الكتلة الصامتة من الجماعة «نعمل على تشكيل لجنة تقصي حقائق لكتابة تقرير رسمي عام عن الفترة منذ بدء اعتصام رابعة وحتى الثلاثين من ديسمبر (كانون الأول) الماضي لتقييم دور القيادات في التحريض على العنف وبمجرد ثبوت تورطهم في ذلك ستجري إحالتهم للجنة التأديب المنصوص عليها في اللائحة الداخلية لجماعة الإخوان والتي تتكون من ستة أعضاء من مجلس شورى الجماعة وثلاثة من مكتب الإرشاد، وذلك تمهيدا لإصدار قرار فوري بفصل من يحرض على العنف أو من يثبت ارتكابه لفساد مالي حيث يوجد سخط عارم بين أعضاء الجماعة بسبب تحويل النفقات المخصصة للعمل الخيري إلى الإنفاق على الحشد والمسيرات وهو ما أدى إلى تضاؤل العمل الخيري الذي قامت الجماعة من أجله بالأساس إلى واحد في المائة بعد أن كان 45 في المائة من حجم إنفاق الجماعة».
وكشف عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط» عن سعى الحركة إلى إجراء انتخابات جديدة بالجماعة مع استقطاب الرموز الإخوانية المنشقة وأنهم يحاولون إقناع الدكتور كمال الهلباوي للعودة لعمل مراجعات حقيقية للأفكار بمشاركة منشقين آخرين مثل الدكتور ثروت الخرباوي.
وعن المقاومة التي تلاقيها الحركة من قبل القيادات الكلاسيكية بجماعة الإخوان أكد حسين عبد الرحمن أن هناك مقاومة مما يطلق عليهم الجيل الثاني والثالث من القيادات الرئيسة الذين يعتبرون التخلص من قيادات الصف الأول بمثابة التخلص منهم أيضا ولذلك فهم يصورون الشباب الذي تمرد على الجماعة على أنهم تابعون لجهات أمنية ومخابراتية بهدف شق صف جماعة الإخوان في محاولة لتشويه أي توجه إصلاحي داخل الجماعة.
وأشار إلى أن قيادات جماعة الإخوان ساهموا في انهيار ما بناه حسن البنا خلال السنوات الماضية في سنة حكم الرئيس مرسي، مؤكدا معارضة شباب الحركة لأدائه وانتقادهم له خلال المائة يوم الأولى وطالبوه بالاعتذار للناس واستبدال المائة يوم بخطة سنوية لتفويت الفرصة على الخصوم لكنه لم يستمع لهم.
وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» أكد القيادي الإخواني السابق ثروت الخرباوي تواصله مع حركة إخوان بلا عنف بالفعل هو والدكتور الهلباوي واستعداده للتعاون معهم إيمانا منه بالهدف الإصلاحي الذي قامت الحركة من أجله. ويعد الخرباوي من أشهر القيادات المنشقة عن جماعة الإخوان ووجه لهم نقدا لاذعا في كتاباته وآرائه الساخطة على أدائهم السياسي كما تنبأ بسقوطهم، ففي تصريحات سابقة لـ«الشرق الأوسط» قال «إن جماعة الإخوان تأكل نفسها من الداخل لأنها تقوم على السمع والطاعة ولا تصلح أن تكون مؤسسة تدير دولة وهي بطبيعتها ستضمحل وتنتهي، تجربة الدكتور مرسي كرئيس لمصر ستكون الختام للإخوان وبها يضع تتر النهاية على جماعة الإخوان المسلمين»!
أما القيادي الإخواني الدكتور إبراهيم الزعفراني الذي ظل لعقود طويلة بالجماعة قبل انشقاقه عنها 2011 فقد صرح لـ«الشرق الأوسط» بأنه اعتزل العمل السياسي مؤخرا بعد تحفظه على أداء القيادات داخل الجماعة، واعتراضا على إعمال مبدأ الأبوية والأخوية، مشيرا إلى غياب قيمة العدل التي هي أساس الدعوة التي قامت الجماعة عليها. واستطرد قائلا: «لقد اعترضت على الخلط بين العمل الدعوي والسياسي وكان الدكتور عصام العريان والجزار يرون نفس ما رأيته أنا والدكتور أبو الفتوح لكنهما رأيا الاستمرار في الوجود محاولة للإصلاح الداخلي لكني لم أستطع الصبر فخرجت مستقيلا دون أن أفقد علاقتي بباقي الإخوة ولا احترامي لهم».
وأضاف الزعفراني أن عدد المتمردين على الجماعة محدود، ولكنه عاد يؤكد وجود أفكار تدور بشكل جدي بين شباب الإخوان توجه اللوم بشدة للقيادات الإخوانية، كأفكار شبابية توجه انتقادات حقيقية، «وأنا آمل أن تتاح الفرصة لأفكارهم المتفتحة ويلعبوا دورا كبيرا لمصر لأن هناك كتلة كبيرة من الإخوان تعمل بصدق لوجه الله وإخلاصا لهذا البلد».
أحمد بان هو نموذج ثالث لأحد القيادات الإخوانية الشابة الشهيرة المنشقة عن الإخوان في أعقاب ثورة يناير، تمردا على قياداتها، لكنه فضل الابتعاد عن العمل الحزبي وانخرط في العمل البحثي والكتابة الصحافية. وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال بان: «لقد ودعت حياتي القديمة مع الإخوان للأبد وقررت الانشغال بالبحث العلمي للمراجعات الفكرية من واقع تجربتي الحركية وتجربتي مع الإخوان علما بأنني لم يكن لي مشاكل مع التنظيم ولم يحدث معي أي موقف سلبي ولم أكن مهمشا لكني قررت الاستقالة، وبعدها حرصت على أن أكون على مسافة واحدة مع كل من خرجوا من الجماعة».
وعن الخروج أو الانشقاق عن جماعة الإخوان قال بان لـ«الشرق الأوسط»: «هناك من خرج من الجماعة لأسباب شخصية متعلقة بطموحه الشخصي أو لأسباب تتعلق باختلافه مع القيادة في أسلوب إدارتها. وأزعم أنني واحد من هؤلاء ولما خرجت كنت مسؤولا عن شعبة وكنت عضوا بالمكتب السياسي وشاركت معهم في تأسيس حزب الحرية والعدالة والذي اقتصرت عضويته على الأعضاء العاملين محل ثقة التنظيم بالكامل وكان عددهم 70 ألف عضو اختير منهم تسعة آلاف لتأسيس الحزب وكنت واحدا منهم كما جرى اختياري لعضوية المؤتمر العام للحزب وبعد كل ذلك استقلت بكامل إرادتي عام 2012».
وحول أجواء التمرد داخل جماعة الإخوان أكد بان لـ«الشرق الأوسط» أن الانشقاقات تسربت للجماعة منذ السنوات الأولى على تكوينها وأن هناك انشقاقا دوريا كل خمس سنوات تقريبا كان أولها عام 1933 أي بعد خمس سنوات من تأسيسها مشيرا إلى أن مؤرخي الجماعة يطلقون على هذه الانشقاقات لقب «الفتنة الأولى» و«الفتنة الثانية».. وهكذا. وحول وضع الجماعة الآن قال المنشق الإخواني أحمد بان إن تركيبة الجماعة ليست مصمتة وإنما هناك 50 في المائة من أعضائها لم يكونوا مرحبين بفكرة الدخول لمضمار المنافسة على منصب الرئيس ولا بالفوز بالأغلبية في البرلمان السابق وكانوا لا يطمحون في أكثر من 30 أو 40 في المائة من المقاعد ولكن في آخر تصويت بعد صراع خيرت الشاطر والمجموعة إياها كان فارق الأصوات أربعة أصوات فقط وبقي 50 في المائة ضد هذا الترشح.
وهؤلاء الخمسون في المائة جلسوا في بيوتهم بمجرد قيام أحداث 30 يونيو لأنهم شعروا أن الجماعة التي أعطوها أعمارهم وشبابهم قد سقطت وأصبحوا أقرب للاكتئاب والانزواء والانسحاب فخرجوا من المشهد تماما واندمجوا في جموع الشعب وليس لديهم أكثر من التعاطف مع حالة المظلومية التي يستخدمها قيادات الجماعة كأحد ميكانيزمات الدفاع والهروب من المحاسبة، ومن ثم فإن حالة المظلومية تلك سحبت جزءا بسيطا من هؤلاء الصامتين لفكرة الخروج فقط من أجل المناداة بالقصاص للدم وليس من أجل مرسي. وعلى ذلك، ينتهي الباحث أحمد بان إلى أن ما يحدث من تمرد متمثل في صورة انشقاقات هو عبارة عن انشقاق هادئ لأشخاص فضلوا الانزواء يجترون أحزانهم ولا يمارسون أي نشاط ولا ينضمون لأي كيانات أخرى سوى مجرد المشاركة في مظاهرات سلمية محدودة جدا ولذلك لا يمكن تناولها في التحليل.
أما عن التجارب الخاصة بخلق كيانات بديلة كالتي يدعو إليها الدكتور كمال الهلباوي أو جماعات شباب الإخوان المنشقين قال بان لـ«الشرق الأوسط» إن هناك كيانات تحاول استغلال الحالة دون علم ومعرفة كافية بالإخوان وهناك أشخاص انشقوا بالفعل انشقاقا تاما نفسيا وحركيا عن الجماعة وكونوا كيانات أخرى مثل حزب التيار المصري الذي يكونه شباب كانوا من الإخوان قبل انشقاقهم وما زال حزبهم تحت التأسيس وكذلك حزب مصر القوية للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وإن كان هناك اختراق من جماعة الإخوان للحزب من خلال بعض أعضائه الذين لا يزالون على ولائهم للجماعة.
وعن إمكانية دخوله في تجربة جديدة بديلة للإخوان أكد بان أن «جماعة الإخوان تحدث إنهاكا عاطفيا وعقليا للأعضاء، ولذلك فبعد أن قضيت نحو 20 سنة معهم لم تعد لدى القدرة على خوض أي تجربة جديدة، وللعلم فقد تفاعلت مع تجربة الدكتور كمال الهلباوي في بداية الأمر ولكني اكتشفت حدوث استبدال القفص الكبير بقفص أصغر، وربما يكون أكثر نعومة، لكنه في النهاية قفص، ومن ثم فهي محاولة جديدة لسجن أعضاء جدد في هذا القفص. وعموما فإن المسألة ستستغرق وقتا سواء لتبلور مثل هذه الكيانات الجديدة أو لاختفاء الكيانات الموجودة بالفعل وهو أمر معروف في الظواهر الاجتماعية».
وشدد بان على أن أسلوب شيطنة الإخوان إعلاميا ومطاردتهم أمنيا ثبت فشله، ولا بد من تغيير هذا الأسلوب في تعامل الدولة معهم، مؤكدا أن أفضل تعامل كان في ظل عهد جمال عبد الناصر حينما كان هناك مشروع قومي باعتباره الأداة الرئيسة لكشف ضعف مشروع الإخوان وأن تراجع الدولة الوطنية عن أداء دورها هو الذي سمح للجماعات السلفية والجهادية والإخوان في التمدد بهذا الشكل.
ومن جانبه أكد الدكتور كمال الهلباوي أبرز المنشقين على جماعة الإخوان المسلمين لـ«الشرق الأوسط» صحة وجود اتصالات بينه وبين متمردي الإخوان، وقال: «أنا متواصل مع شباب الإخوان من كل الاتجاهات بمن فيهم من لم يعلن عن نفسه وإذا صدقوا فيما قالوه لي فستكون هناك مفاجآت كبيرة تتعلق برغبة هؤلاء الشباب في تكوين جماعة جديدة مختلفة تماما عن جماعة الإخوان المسلمين وإن كان الأمر يحتاج لصبر وبعض الوقت لإتمام هذا الإنجاز الكبير». وأضاف الهلباوي لـ«الشرق الأوسط» أن عدد هؤلاء الشباب بالآلاف. وحول حقيقة دوره في قيادة هذا التنظيم الجديد، قال الهلباوي: «إن هذا الشباب متحمس ولديه رغبة في نبذ العنف ويحتاج لمن يأخذ بيده ويقوده. أما عن نفسي فأقصى ما أستطيع أن أفعله أن أوجههم كمستشار لهم أو كنقطة مرجعية لدعوة سلمية لكنهم يحتاجون لخبرة في إدارة التنظيمات مثل الدكتور محمد حبيب والمحامي مختار نوح ربما يكونان الأفضل في ذلك». وعن تداعيات تكوين ذلك الكيان من متمردي شباب الإخوان على مستقبل الجماعة، قال الهلباوي: «إن الجماعة لم تعد كما كانت، ولن تعود كما كانت، ولا بد أن يعرف قياداتها المسجونون أو الهاربون أن شباب الإخوان الآن منقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ الأول قسم معهم وهم الذين يقومون بالمظاهرات وينفذون ما يقولون. والقسم الثاني توقف حتى يستبين الحقيقة، بينما انشق القسم الثالث بالفعل بل ويستعد لإجراء محاكمات داخلية لقيادات الإخوان التي جاءت بكارثة على الجماعة كلها».
من ناحية أخرى رفض القيادي الإخواني سيف الإسلام حسن البنا التعليق أو إبداء الرأي حول هذا التمرد الداخلي بجماعة الإخوان التي أسسها والده قبل عدة عقود، مؤكدا لـ«الشرق الأوسط» بنبرة يكسوها الحزن والأسى أنه سمع عن هذه التحركات، لكنه يرفض التعليق على مثل هذه الأمور ويؤثر الصمت في الفترة الأخيرة!
وحول تحليل ما يحدث من تمرد داخل جماعة الإخوان في إطار الظاهرة الاجتماعية وتأثيرها على مستقبل الجماعة، قال الدكتور عمار علي حسن الباحث في علم الاجتماع السياسي لـ«الشرق الأوسط»: «إن جماعة الإخوان المسلمين هي دوائر متلاصقة وهناك نواة أصلية هي الأقل عددا والأكثر تمكينا وهم من الأعضاء العاملين، بينما الدوائر الأخرى من الأعضاء المنتسبين وهو الأضخم عددا لكنهم الأقل تمثيلا وهي التي يحدث بها التصدع بينما الدوائر الضيقة تبقى كما هي. ومن ثم فكلما قام فريق من هؤلاء وتحدث عن انشقاق أنكرت الجماعة الأمر؛ فهي اعتادت جذب الناس للتعاطف معها لكن عند المواجهات فإنها تتنصل منهم ولا تعترف إلا بأعضائها العاملين فقط. وبالتالي فإنني أرى هذه الانشقاقات هامشية ويبدو الأمر في إطار توزيع الأدوار!». وأضاف أن «الحديث عن انشقاق بالمعنى العلمي، بأن يتمرد جزء معتبر صراحة، فإنني أعتقد أنه لا يحدث؛ لعدم وجود قائد يتم الانضمام إليه». وأكد عمار علي حسن أن من خرجوا عن الجماعة كان خروجهم على القيادة فقط، أما الخروج على فكر الإخوان تماما فهو لم يحدث إلا في حالات نادرة مثل حالة أحمد بان وسامح عيد وثروت الخرباوي بالإضافة لمجموعة أخرى صغيرة موجودة في محافظة البحيرة (قرب الإسكندرية).
ومن ناحية أخرى أضاف أن هناك حالة تململ من القيادة وإحباطا من أعضاء الجماعة ورغبة لدى البعض للمراجعة، لكنهم يخشون الجهر بذلك حتى لا يتهموا بخيانة الجماعة بعد استهداف التنظيم من قبل السلطة بدليل عدم استجابتهم لكل نداءات التعبئة من قيادات الإخوان. وتعليقا على تجربة الهلباوي والخرباوي التي يعدان لها مع شباب الإخوان المتمردين على الجماعة، قال الدكتور عمار علي حسن لـ«الشرق الأوسط»: «هي فكرة جيدة تشكل نقطة جذب لقادة مختلفين عن التفكير القطبي لتنضم إليهم الأجيال المتلاحقة من الشباب ولو نجحوا فإننا سنكون بالفعل أمام انشقاق حقيقي وتاريخي لجماعة الإخوان. وفي جميع الأحوال فإن الجماعة مآلها إلى زوال بعد أن ظل قياديوها مقتنعين أنها عصية على الفناء نظرا لأنهم عاشوا على المدد الذي تلقوه من السلطات المتعاقبة»، مختتما بقوله: «إن الجماعة اعتمدت على كونها محكمة التنظيم، لكنهم كانوا بلا عقل. واليوم وقد ضرب تنظيمهم في الصميم، فهم إلى نهاية، خاصة مع موت قادتهم الشيوخ في السجون أو المنفى ومن ثم لو خرج انشقاق بالمعنى السابق ولديه رغبة في الإصلاح فإنه سينجح».



«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.