أثار إعلان الكرملين جانباً من تفاصيل الاتفاق الذي أنهى تمرد مجموعة «فاغنر» وقضى بانتقال زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين إلى بيلاروسيا، في مقابل إنهاء ملاحقته جنائياً بتهمة «الخيانة العظمى»، كثيراً من التساؤلات، حول آليات تنفيذ «الصفقة» التي جرت بوساطة بيلاروسية. أبرز التساؤلات كانت عن مضمون الاتفاق الغامض، ولماذا تراجع الرئيس فلاديمير بوتين عن وعيده بعقاب حازم لزعيم التمرد الذي «احتل» مدناً ودعا الروس إلى حمل السلاح، وتوعد برحيل بوتين، وأن «يكون في روسيا رئيس جديد قريباً».
لم تشهد كل سنوات تربع بوتين الـ23 على رأس هرم السلطة في البلاد، أن يتراجع الرئيس عن وعيد أطلقه أمام ملايين الروس. ولم يغض الكرملين الطرف في أي مرحلة سابقة عن تحدٍ صارخ وقوي مثلما حدث مع بريغوجين.
تغص شبكات التواصل الاجتماعي الروسية بنقاشات حول هذا الموضوع، وأسئلة من نمط؛ ما سر قوة زعيم «فاغنر» إلى هذه الدرجة؟
يتحدث البعض عن خيانات داخل الجيش، وأن بريغوجين كان قد اعتمد على وجود «حلفاء» داخل المؤسسة العسكرية سهلوا مهمته. إذا صحت هذه الفرضية فهي تفسر سبب سهولة سيطرة قوات «فاغنر» على مقر القيادة العسكرية في روستوف، وهو المقر الذي تدار منه عملياً الحرب في أوكرانيا. كانت السيطرة السهلة عليه وانتشار جنود بريغوجين على سطحه وهم يلوّحون للمارة بإشارات النصر، مشهداً مذهلاً للغاية. أيضاً قد يفسر ذلك، سهولة انتقال قوات «فاغنر» من روستوف إلى فورونيج ثم ليبيتسك ثم التقدم نحو موسكو والوصول إلى مسافة تقل عن 200 كيلومتر عن الكرملين. جرى ذلك في ظل إغلاق الطريق الدولية «إم فور» الرابطة بين روستوف وموسكو. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه المنطقة سهلية منبسطة ولم يكن من الممكن مرور آليات ومدرعات وحاملات جنود عليها من أن تغدو هدفاً سهلاً للقصف الكامل والتدمير.
يقول أصحاب نظرية المؤامرة إن بريغوجين امتلك أعواناً كثراً داخل المؤسسة العسكرية وهذا هو السبب الرئيسي لإغلاق المدن وفرض حال التأهب في القطعات العسكرية وتلويح نائب رئيس مجلس الأمن القومي ديمتري ميدفيديف بأن «انتصار الانقلاب قد يعني وقوع الأسلحة النووية في أيدي مسجونين سابقين»، في إشارة إلى أن غالبية مقاتلي «فاغنر» هم من أصحاب السوابق.
لكن الجملة المهمة هنا هي «الانقلاب العسكري»، وقد فتحت على تساؤل كبير؛ هل كان التحرك فعلاً مقدمة لانقلاب عسكري كامل؟
ثمة ما يشير إلى التردد والشلل الذي أصاب المؤسسة العسكرية ومراكز صنع القرار لبعض الوقت، وكذلك سرعة تحرك مجموعة «فاغنر»، إلا أن واقع الوضع في البلاد خلال الساعات الـ24 التي هزت روسيا، كان أسوأ من المعلن، وأن ثمة تفاصيل كثيرة لهذا التحرك ما زالت خفية، ولن ترغب السلطات في الكشف عنها.
«قوة بريغوجين»
العنصر الآخر المهم في تفسير سبب «قوة بريغوجين» وقدرته على تحدي الكرملين بشكل صارخ، وفقاً لتحليل أوساط، يكمن في أن الرجل يمتلك كثيراً من الأسرار التي لا يفضل الكرملين أن تنشر، أو أن تصل إلى الغرب بشكل خاص. الحديث يدور عن آليات تمدد روسيا في القارة الأفريقية، وخلفيات نشاط «فاغنر» في هذه المنطقة ومناطق أخرى. هذا الملف قد يفتح على الكرملين مشكلات جدية، في ظل المواجهة القائمة حالياً، وفي ظل احتدام التنافس مع الغرب على النفوذ في القارة السمراء.
بهذا المعنى، فإن «الصفقة» لا تضمن فقط عدم ملاحقة بريغوجين جنائياً، بل تضمن أيضاً صمته بطريقه أو بأخرى. وهذا يفتح على تساؤل آخر؛ ماذا حصّل بريغوجين في المقابل، بعدما خسر شركاته وعناصر قوته والعقود المجزية التي كان يحصل عليها، في مقابل تقديم خدمات «فاغنر» خارج البلاد وداخلها؟
وثمة سؤال آخر؛ لماذا اختار الكرملين بيلاروسيا لتكون وسيطاً؟ المعلوم حتى الآن أن الكرملين طوال ليلة الأحد حاول فتح قنوات اتصال عدة مع بريغوجين وإقناعه بعدم خوض المغامرة حتى النهاية. ومع اشتراك صديق بريغوجين، سيرغي سوروفيكين، الذي كان قائداً للعملية العسكرية في أوكرانيا لبعض الوقت، في محاولات إقناع الرجل بالتراجع في وقت مبكر وضمان عدم ملاحقته، فإن مبعوثين آخرين زاروا بريغوجين في روستوف، بينهم مسؤول في الديوان الرئاسي، ومسؤولان بارزان في وزارة الدفاع، أحدهما يشغل منصب نائب الوزير. كل هذا لم يقنع بريغوجين بالتراجع.
يبدو أن الوساطة البيلاروسية كانت بمبادرة من الكرملين، وهي ضمنت للرجل أنه سيكون في مأمن فعلياً من الملاحقة خارج الأراضي الروسية.
لكن هذا يفتح أيضاً على أسئلة صعبة؛ ماذا سيفعل بريغوجين الطَموح والمسلح بأسرار كثيرة للكرملين في البلد الجار؟ هل سيكون لديه الوقت الكافي لممارسة السياسة، أم أنه سوف يكتفي بمتابعة أعماله التي تدر مليارات سنوياً؟
يقول بعض الروس العارفين بمطبخ الكرملين، إن الصفقة الحالية لا يمكن أن يظل مفعولاً سارياً إلى الأبد. إذ لا يمكن ترك الرجل ينشط على هواه، كما أن المشكلة الكبرى تكمن في وجود «صقور» في وزارة الدفاع ليسوا راضين تماماً عن تفاصيل الصفقة الخفية، ولن يرضيهم إلا «تصفية الحسابات بشكل نهائي مع بريغوجين»، الذي تجرأ وتوعد بتعليق مشنقة وزير الدفاع في الساحة الحمراء.
مصير قوات «فاغنر»
عنصر آخر مهم يظهر هنا؛ ما مصير قوات «فاغنر»؟ المؤكد أن روسيا تحتاج لهؤلاء المقاتلين بشدة، لذلك كان الخيار الأمثل منذ اندلاع الأزمة أن يتم «قطع رأس فاغنر» مع المحافظة على التشكيل والهيكلية التي ما زالت قادرة على لعب دور مهم في الحرب الأوكرانية وفي مناطق أخرى كثيرة.
الحديث يدور حول نحو 25 ألف مسلح مدربين بشكل جيد ولا يمتهنون شيئاً سوى القتال. فضلاً عن أنهم يمتلكون كل طرازات الأسلحة والمعدات الثقيلة التي تعز في حالات كثيرة على دول كاملة.
الرواية الرسمية تشير إلى أن الجزء الذي لم يشارك في التمرد من قوات «فاغنر» سوف يوقع عقوداً مع وزارة الدفاع ويواصل نشاطه تحت قيادتها.
هذا يعني أن وزارة الدفاع سوف يكون لديها نوعان من العقود العسكرية لاحقاً، أو طبقتان من المقاتلين، واحدة منهما تحصل على مكافآت مجزية مثل التي كان يقدمها بريغوجين، وواحدة أقل شأناً، بالكاد تحصل على المكافآت المعلنة رسمياً للمتعاقدين. والفارق كبير، وهذا واحد من أسباب رغبة كثيرين في الانضمام إلى «فاغنر».
اللافت أن الكرملين عمل بسرعة خيالية على تسهيل التعاقد مع هؤلاء، وبعدما كان ممنوعاً على «المسجونين السابقين» الانضمام إلى نظام التعاقد مع الجيش، وقّع الرئيس الروسي مرسوماً خاصاً بهذا الشأن، مساء السبت مباشرة، بعد الإعلان عن الصفقة مع بريغوجين. أيضاً، وقع بوتين مرسوماً آخر يرفع السقف العمري للراغبين في التعاقد مع الجيش إلى 70 سنة. هذا المرسوم فصّل تفصيلاً على قياس مقاتلي «فاغنر». في كل الأحوال، هؤلاء سيعودون قريباً إلى الخطوط الأمامية للجبهة.
أما الجزء الآخر الذي شارك عملية التمرد، ولن يتم التعاقد معه، فقد حصل على ضمانات كافية بألا تتم ملاحقة أي عنصر فيه، نظراً «للدور البطولي والإنجازات التي حققوها خلال القتال في أوكرانيا». هكذا تمت تسوية ملف «فاغنر» في الداخل الروسي، لكن ثمة سؤالاً آخر لا يجد جواباً حتى اللحظة؛ ما مصير قوات «فاغنر» المنتشرة في بلدان أفريقية وفي سوريا؟ في الغالب سيكونون ضمن الفريق المتعاقد مع وزارة الدفاع. لكن هذا سوف يعني أن وزارة الدفاع سوف تتولى مباشرة مسؤولية مهام أمنية وعسكرية كان يقوم بها «مرتزقة» مهمتهم حماية مناجم ومنشآت نفطية في مقابل الحصول على جزء من عائداتها، أو دعم مجموعات مسلحة في بلدان مختلفة لتحقيق أغراض معينة، في مقابل مكافآت مالية. يبدو الموقف غامضاً بالنسبة لآلية تعامل وزارة الدفاع المنتظرة مع هذه الحالات.