«راهب بيت قطرايا» تستشرف التاريخ المسيحي في الخليج

القطري خالد الجابر يوظف دراسته لتاريخ الجزيرة العربية

«راهب بيت قطرايا» تستشرف التاريخ المسيحي في الخليج
TT

«راهب بيت قطرايا» تستشرف التاريخ المسيحي في الخليج

«راهب بيت قطرايا» تستشرف التاريخ المسيحي في الخليج

في روايته الجديدة «راهب بيت قطرايا»، يوظف الباحث والأكاديمي القطري الدكتور خالد الجابر دراسته لتاريخ الجزيرة العربية في كتابة رواية ذات جذور تاريخية تتناول واحداً من الحضارات القديمة التي استوطنت الجزيرة العربية، وتركز على نحو خاص بالديانات السماوية التي سبقت الإسلام في هذه المنطقة، ومنها المسيحية.

صدرت هذه الرواية مؤخراً عن دار «خطوط وظلال للنشر والتوزيع» في الأردن، وتتناول الحقبة الزمنية التي انتهت معها الحروب الرومانية الفارسية وازدهرت فيها طوائف الديانة المسيحية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وهي حقبة تمتد في القرن السابع الميلادي، وتتزامن تاريخياً مع انتشار الدعوة الإسلامية التي وصلت إلى منطقة «بيت قطرايا» والتي تشمل جغرافية دولة قطر حالياً وتمتد عبر الساحل الغربي للخليج العربي.

يذكر أن دولة قطر الحالية، عرفت قديماً بـ«بيت قطرايا أو قطراية» وكانت تضم دولة قطر وما جاورها وهذه المنطقة معروفة في تاريخ الكنيسة النسطورية وكانت أسقفيتها تابعة لمنطقة «ريف اردشير»، ولكنها استقلت وكوّنت أسقفية مستقلة في وسط ونهاية القرن السابع الميلادي، ودخلتها المسيحية قبل سنة 225.

وقد سجلت المجامع النسطورية عدداً من أساقفتها الذين حضروا المجامع النسطورية، ومنها رجال دين لاقوا شهرة عظيمة مثل إسحق القطري، وداديشوع القطري، وجبريل القطري، وإبراهيم برليفي، وتوماس القطري، وأيوب المفسر، وجبرائيل الطقساني، ومعظم من كان ينتهي اسمه باسم قطر ينسب إلى بيت قطرايا.

«راهب بيت قطرايا»

وفي روايته الثانية: «راهب بيت قطرايا» اختار المؤلف الاسم التاريخي الذي تميزت به قطر ومنطقة الخليج (بيت قطرايا)، وهي منطقة ذُكرت بشكل لافت في تاريخ الكنيسة النسطورية من القرن السابع الميلادي. حيث تستعرض الرواية سردية صراع الخير والشر، الحرية والعبودية، الاستقلال والتبعية، الحب والكراهية، العرب والعجم، الدعوة والإيمان، النّاسوت واللّاهوت، التوحيد والمعتقدات، الهوية والانتماء، السلطة والثورة، والتمسك بالمبادئ والقيم مقابل المصالح الذاتية والآنية.

وتتناول أحداث الرواية تاريخاً أدبياً لقِدم رسوخ التواجد البشري والديني والثقافي في قطر ومنطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، وهي تصنع عالماً نابضاً بشخوصها وحكاياتها وأزماتها وتصاعد أحداثها، وانفراجاتها، وسياقاتها، وتقاطعاتها الإنسانية والتاريخية والجغرافية والحضارية.

الحبكة الروائية

تتشكل الرواية، من مقدمة، وأربعة (فصول)؛ واختار الروائي الدكتور خالد الجابر الاسم التاريخي الذي تميزت به قطر ومنطقة الخليج (بيت قطرايا)، وصمم غلاف الرواية على شكل خريطة لمنطقة الخليج والجزيرة العربية تظهر فيها اسم «كتارا» (Katara) التي تدل على قطر، واستخدمت هذه التسمية من قِبل الجغرافيين منذ صدور خريطة بطليموس عام 150. وعلى الغلاف صورة متخيلة للقديس إسحق القطري المعروف بالسرياني، والذي يعدّ من أكبر المعلمين الروحيين في القرن السابع الميلادي.

إحياء الجانب الروائي يشبّه محاولات استخدمت في روايات سابقة وحققت نجاحاً وانتشاراً كبيراً مثلما حصل في رواية «عزازيل» ليوسف زيدان و«سمرقند» لأمين معلوف؛ و«المخطوطة الشرقية» لواسيني الأعرج؛ و«ظلمة يائيل»، و«مملكة الجواري» للغربي عمران؛ و«مخطوطة ابن إسحاق» بأجزائها الثلاثة لحسن الجندي؛ و«سابع أيام الخلق» لعبد الخالق الركابي؛ و«دَيْر ورق» لمحمد رفيع؛ و«جسر بنات يعقوب» لحسن حميد؛ و«مجدلية الياسمين» لثابت القوطاري.

وتعدّ الرواية مزيجاً من الوقائع التاريخية والتأليف الأدبي وقد بُنيت على طريقتين من طُرق السرد؛ العكسي - الاستباقي، فبدأت الرواية من حيث انتهت الحكاية، ثم عادت لتسرد الحكاية بعد ذلك من حيث بدأت الأحداث، ولم تسر الرواية على النمط السردي التسلسلي؛ بل على طريقة التداخل والتنقل من حكاية لأخرى.

تحاكي الرواية من خلال أحداثها وبطلها «الأشرف أو إيلياء» الذي يتنقل بين العديد من الأماكن، مثل يثرب (المدينة المنورة) التي هرب منها إلى عمق الجزيرة العربية وديرها المعزول، الذي خرج منه مسيحياً إلى روما، ليعود مرة أخرى بمهمة سرية كلفه بها أسقف روما.

كانت رحلة العودة من دمشق إلى الحيرة متخفياً بصفة تاجر ذهب، تعصف به الأحداث ليخسر الأموال الممنوحة له في الحيرة، ويخسر أيضاً دعم كنيسة روما بسبب سقوط الأسقف الداعم له. أخيراً يستقر به الحال في كنيسة «بيت قطرايا» ليصبح واحداً من أهم أعمدتها.

شكلت الرواية عالمها الذي يمتزج مع الأحداث التاريخية في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية في حقبة اتسمت بالتغيير السريع قبل ظهور الإسلام وبعده جعلها تخوض سيرورة سردها على خطين.

الأول يتمثل في تأثير الأحداث على الشخصيات مباشرة عبر الزمن الحقيقي لتلك الحقبة والمتخيل السردي الذي اتكأ على شخصيات عامة. والآخر يشمل الصراع الذي حاكته الرواية من جانبه التاريخي والذي أضاف أبعاداً مهمة للأحداث ليكون محركها الصريح والمؤثر فيها ليبدأ التخييل منه وينتهي بتأثر الشخصيات به.

والتشويق في الرواية يأتي عبر ما اعتمدته من حيلٍ استباقية، قامت من خلالها بالإشارة إلى الحدث الذي مثّل حجز الزاوية، وأرجأت تفسيره لمرحلة لاحقة من السرد، كما جسدت المساحة التعبيرية والسردية حركة وصراع وتحولات وإعادة تشكيل لشخصيات الرواية وصولاً إلى المعنى الإنساني الكلي الذي تمركزت حوله وعبّرت عنه بصدق وعفوية.

مؤلف هذه الرواية هو أستاذ الاتصال السياسي في برنامج دراسات الخليج، بجامعة قطر، وقد انطبعت الخبرة التاريخية للمؤلف في هذه الرواية، كما في روايته الأولى «مَلَكَوينا»، حيث استلهم فيها تاريخ العرب في الأندلس، بإضاءة سردية معاصرة غاصت في إشكاليات: التجزئة، والانقسام، من خلال استعراض صور الفتن والصراعات والحروب بين الأمراء في الإمارات الأندلسية.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم