حداثة متأخرة

وصلتنا ممزوجة بما بعد الحداثة

حداثة متأخرة
TT
20

حداثة متأخرة

حداثة متأخرة

خلال نصف القرن الماضي، شكَّل الجدل حول الحداثة «modernity» موضوعاً للسجال في المشهد الثقافي الخليجي. غير أن اللافت للنظر كون معظم أطراف الصراع ذوي خلفية شرعية أو أدبية. نظر «المطاوعة» إلى الحداثة بوصفها التغريب والكفر، فيما نظر الأدباء لكونها التنوير، وبين هذا وذاك غاب عن الجميع استكناه أصل المصطلح ومقاربته المشهدين الثقافي والاجتماعي في بلادهم.

بعيداً عن النظرة المتطرفة لـ«بعض» المتدينين، والتي تنمُّ عن جهل بفكرة الحداثة جعلهم يدخلون في مواجهة دونكيشوتية مع الأكاديميين، الذين قدم عدد منهم للتوّ - وقتها - من الغرب، بعد حصولهم على شهادات أكاديمية في الدراسات الأدبية، فإن المدافعين عن الحداثة، وقتها، لم يبيّنوا مفهوم الحداثة بالشكل الذي يستطيع بسيطو الاطلاع أن يفهموه. لقد كانت معركة أنتجت مصطلحاً مستفزاً - أي الحداثة - ما كان يجب أن تصل إلى ما وصلت إليه.

لقد ظهر مصطلح الحداثة ليدل على التغيرات الاجتماعية والثقافية، التي واكبت الثورة الصناعية، التي اتخذت من الآلة البخارية - والكهربائية لاحقاً - وسيلة لزيادة الإنتاج والتخصصية المؤدية لرفع مستوى الجودة. ولكن لكي نستوعب مفهوم الحداثة المواكب للصناعية، علينا أن نتناول مفهوم ما قبل الحداثة، المصاحب لمفهوم ما قبل الصناعية.

ترتبط حقبة ما قبل الحداثة بما قبل الصناعية، والتي مرت بثلاث مراحل تُلخص أساليب العيش التي انتهجها البشر في تدخلهم في الطبيعة وتطور تطويعهم لها:

> مرحلة الجامع الصياد «hunter-gatherer»، حيث يتعامل الإنسان مع الطبيعة بشكل مباشر، عن طريق اصطياد الطرائد البرية، وجمع الموارد النباتية البرية. في هذه المرحلة، يبحث الإنسان عن حاجته فقط، حيث يعيش الصيادون في مجموعات صغيرة، ولديهم سياسات بسيطة لتنظيم أمورهم في تراتبية أبوية يقوم فيها الرجل بجلب الطعام، فيما تقوم المرأة على رعاية الصغار. والمنافسة على الموارد ليست شرسة؛ كون الهدف هو تأمين الطعام لمدة قصيرة، فلا داعي للمنافسة الشرسة.

> مرحلة الرعوية «pastoral» والبستنة «horticultural»، والتي انتقل الإنسان فيها إلى مرحلة الاستقرار ببناء البيوت، وبالتالي فقد قرر أن «يجلب» الموارد الطبيعية لبيته. هنا تقدم الإنسان خطوة في تدخله في الطبيعة عن طريق استئناس بعض الحيوانات، وزرع بعض النباتات التي تمدُّه بالمواد الأساسية للغذاء والملبس. في هذه المرحلة تطور مفهوم الأسرة، وشاركت المرأة في عملية الإنتاج، ولكن الهيمنة تظل لقائد الأسرة.

> مرحلة المجتمع الزراعي «agrarian society»، حيث زاد الإنسان من تدخُّله في الطبيعة، عن طريق تطوير أساليب جديدة في الزراعة، ورعاية الحيوانات، حيث بدأ بزيادة المحاصيل، وتجفيف الفواكه والخضر، من أجل حفظها للشتاء، إضافة لصناعة الأجبان. هذه الخطوة في تحدي الطبيعة زادت من قوة الإنسان في مواجهة قسوة الحياة. واكب هذه المرحلة أهمية إنتاج أكبر عدد من الأطفال؛ من أجل توفير اليد العاملة للمزرعة، سواء كانت مملوكة أم مستأجرة بنظام الإقطاع. واحتفظ الدين بدوره في جمع الناس، في يوم إجازتهم، من أجل الصلاة وشكر الرب، إضافة للدعم المجتمعي وتفقُّد أحوال أبناء المجتمع الصغير.

حقائق

انتقلت المجتمعات الخليجية من مرحلة ما قبل الحداثة، المرتبطة بما قبل الصناعية إلى مرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، خلال فترة وجيزة جداً جعلت العناصر الفاعلة في المشهد تتنازع حول مفاهيم غير واضحة

في كل هذه المراحل يهدف عمل الإنسان إلى إنتاج ما يستهلك أولاً، ويبيع (أو يقايض) الفائض؛ من أجل أن يحصل على ما ينقصه، ولم يكن جمع الثروة المالية هدفاً في حد ذاته، وإنما استُخدم لشراء المزيد من الأراضي لزيادة الإنتاج، وظلّ جمع كميات كبيرة من الذهب حِكراً على النُّخب الإقطاعية.

شكّل اختراع الآلة البخارية طفرة في تدخُّل الإنسان في الطبيعة عن طريق زيادة الإنتاج بشكل مكثف، حيث أصبح الهدف الأساسي للإنتاج هو البيع لا الاستهلاك. ولأن المصانع تحتاج إلى أيد عاملة، فقد أصبحت المدن هي مراكز استقطاب مَن أراد أن ينجو من الفقر ونظام الإقطاع. هنا تغيَّر شكل المسكن وأهمية التعليم الذي يرفع من سقف طموحات العامل ليتدرج وظيفياً في المصنع. تقلصت سلطة الأسرة، وتراجع دور الدين؛ كون المدن تقوم على مجتمع متنوع لا يتدخل أفراده، بشكل كبير، في خصوصيات بعضهم البعض. وهنا ازدهرت الحداثة، التي أعادت التفكير في المسلَّمات السابقة حول دور المؤسسات الاجتماعية التقليدية (الأسرة، الدين، الاقتصاد، والدولة). أصبحت فكرة «جمع الثروة» متاحة للجميع، وإن ظلت النخبة مهيمنة على الثروات، فإن النماذج التي تمكنت من الخروج من طوق الفقر إلى الغنى، قد شجّعت الكثيرين على بذل الجهد والمنافسة بصفتهم أفراداً، وهذه روح الرأسمالية التي لعبت دوراً محورياً في تكريس الفكر المادي، الذي ناسب الحداثة بوصفها ردّة فعل على التقليدية القائمة على أمور غير عقلانية (بحسب ما يراه الحداثيون)، ومنها الاعتماد على الغيبيات الدينية، أو السرديات الشعبية. جاءت الحداثة بوصفها ردّة فعل عنيفة على التقليدية، فأرادت إعادة هيكلة الأسرة، ورفع مستوى الندّيّة بين الرجل والمرأة، وتقييد دور الدين في المجال العام، وزيادة المنافسة في سوق العمل، وتسخير الدولة لخدمة الاقتصاد وليس العكس.

غيَّرت الحداثة موازين القوى، حيث استغلّت دفع الاقتصاد الصناعي المجتمع نحو التعليم، بأن رفعت سقف طموحات الطبقة العاملة للانتقال من الفقر والاعتماد على طبقة المُلّاك، إلى الطبقة المتوسطة. قلّص هذا التوجه دور المؤسسات الدينية المتحالفة مع القيادات التقليدية، لتزدهر العلمانية بوجهيْها الليبرالي الفردي، والاشتراكي الثوري، على اختلافهما الذي قد يصل إلى حد التناقض، ولكنهما يتفقان في إعادة صياغة المجال العام. هنا ازدهر المنهج البنيوي، القائم على مقاربة البنى الاجتماعية، واللغوية، والاقتصادية، والثقافية، عن طريق استكشاف العلاقات الداخلية للعناصر الأساسية في تلك البنى، والتعرف على المعاني التي تقوم عليها تلك البنى؛ من أجل خلق ثقافة مادية يمكن قياسها بشكل عقلاني بعيداً عن عالم الماورائيات.

لم يتوقف التطور التقني عند الآلة البخارية والكهربائية، فقد تطورت التقنية لتشمل الحوسبة، مُلغية بذلك كثيراً من الوظائف التي يقوم بها البشر، وأصبح لزاماً على الأفراد أن يبحثوا عن أعمال تتجاوز مسألة الإنتاج الذي هيمنت عليه الآلة. هذا ما يُعرَف بمرحلة ما بعد الصناعية «post-industrialism»، حيث تحوَّل سوق العمل إلى «الخِدمية»، بدلاً من «الإنتاجية». وبنظرة سريعة على سوق العمل في هذه المرحلة، سنجد معظم الوظائف، التي يقوم بها الإنسان، تُصنَّف في دائرة الخدمة وليس الإنتاج (طبابة، رعاية، تعليم، خدمة عملاء...). لقد تطورت التقنية بشكل مطّرد مع الذكاء الاصطناعي (بدءاً بالتطور الهائل للكمبيوترات في الستينات) لدرجة تجاوزت القدرة الاستيعابية للبشر لأن يواكبوا التطور التكنولوجي. هنا ينتقل الإنسان ثقافياً واجتماعياً إلى مرحلة ما بعد الحداثة «post-modernity»، والتي توجَّه فيها الفلاسفة إلى طرح التساؤلات على المسلَّمات المهيمنة.

تميزت مرحلة ما بعد الحداثة بالشكوكية العالية، والنسبية، والذاتية في الطرح. تحولت الحقائق الفكرية إلى مجرد وجهات نظر، ثم لحقتها الحقائق المادية، لتكون هي الأخرى وجهات نظر، وحصل فلاسفة ما بعد الحداثة على دعم مطّرد من بعض العلماء التجريبيين الذين رفدوا التشكيك المعرفي بجدل يقوم على الاستدلال المخبري (الكيميائي والحيوي). لنأخذ، على سبيل المثال، مسائل الهويات الجندرية والجنسية، والتي تحولت من مسلَّمات قطعية، كون المثلية مرضاً نفسياً يجب إخضاعه للعلاج إلى تطبيعه وتشخيص مَن يرفض «شرعيته» بأن عليه أن يتعالج من رهاب المثلية. لم يكن بوسع الفلاسفة، المناصرين لهذا التوجه، أن يتمكنوا من الدفاع عن هذا التوجه لو لم يتوفر لديهم دعم من باحثين في مجالات الأحياء والطب. يهدف هذا التوجه الجديد في المجال الإكلينيكي لأن يصوّر التقسيم التقليدي ذكر/ رجل، وأنثى/ امرأة، بأنه قد أضحى أمراً من الماضي الذي يجب تجاوزه. وهنا تتجلى لعبة ما بعد الحداثة فلسفياً في المجال التطبيقي، فلقد لعبت «التشكيكية» دور المُسائل عن شرعية التقسيم التقليدي، لترفدها «النسبية» بطرح فكرة كون الموضوع غير واضح، كما قد يعتقد البعض، لتأتي «الذاتية/ الفردية» معطية الحق للأفراد بأن يقرروا هوياتهم، بناء على شعورهم الذاتي، الذي يستند إلى نسبية الحقيقة التي تم التشكيك فيها. هذا المثال نستطيع طرحه على أمثلة أخرى حول الهويات الجديدة، التي يتم التسويق لها في أوروبا وشمال أمريكا بوصفها تحريراً للعقل من الموروث يتجاوز الفلسفة ليستشهد بالمختبر.

مما سبق نطرح تساؤلاً حول أصل فكرة الحداثة، التي شغلت المشهد الثقافي في الخليج، خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وكيف أن أطراف النزاع قد أغفلت السؤال الأهم؛ وهو: كيف لنا أن نفكر في الحداثة وقد وصلتنا ممزوجة بما بعد الحداثة؟ فلقد انتقلت المجتمعات الخليجية من مرحلة ما قبل الحداثة، المرتبطة بما قبل الصناعية، إلى مرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، خلال فترة وجيزة جداً جعلت العناصر الفاعلة في المشهد تتنازع حول مفاهيم غير واضحة.

* أستاذ علم الاجتماع بجامعة غراند فالي، وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط ـ واشنطن



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.