حداثة متأخرة

وصلتنا ممزوجة بما بعد الحداثة

حداثة متأخرة
TT

حداثة متأخرة

حداثة متأخرة

خلال نصف القرن الماضي، شكَّل الجدل حول الحداثة «modernity» موضوعاً للسجال في المشهد الثقافي الخليجي. غير أن اللافت للنظر كون معظم أطراف الصراع ذوي خلفية شرعية أو أدبية. نظر «المطاوعة» إلى الحداثة بوصفها التغريب والكفر، فيما نظر الأدباء لكونها التنوير، وبين هذا وذاك غاب عن الجميع استكناه أصل المصطلح ومقاربته المشهدين الثقافي والاجتماعي في بلادهم.

بعيداً عن النظرة المتطرفة لـ«بعض» المتدينين، والتي تنمُّ عن جهل بفكرة الحداثة جعلهم يدخلون في مواجهة دونكيشوتية مع الأكاديميين، الذين قدم عدد منهم للتوّ - وقتها - من الغرب، بعد حصولهم على شهادات أكاديمية في الدراسات الأدبية، فإن المدافعين عن الحداثة، وقتها، لم يبيّنوا مفهوم الحداثة بالشكل الذي يستطيع بسيطو الاطلاع أن يفهموه. لقد كانت معركة أنتجت مصطلحاً مستفزاً - أي الحداثة - ما كان يجب أن تصل إلى ما وصلت إليه.

لقد ظهر مصطلح الحداثة ليدل على التغيرات الاجتماعية والثقافية، التي واكبت الثورة الصناعية، التي اتخذت من الآلة البخارية - والكهربائية لاحقاً - وسيلة لزيادة الإنتاج والتخصصية المؤدية لرفع مستوى الجودة. ولكن لكي نستوعب مفهوم الحداثة المواكب للصناعية، علينا أن نتناول مفهوم ما قبل الحداثة، المصاحب لمفهوم ما قبل الصناعية.

ترتبط حقبة ما قبل الحداثة بما قبل الصناعية، والتي مرت بثلاث مراحل تُلخص أساليب العيش التي انتهجها البشر في تدخلهم في الطبيعة وتطور تطويعهم لها:

> مرحلة الجامع الصياد «hunter-gatherer»، حيث يتعامل الإنسان مع الطبيعة بشكل مباشر، عن طريق اصطياد الطرائد البرية، وجمع الموارد النباتية البرية. في هذه المرحلة، يبحث الإنسان عن حاجته فقط، حيث يعيش الصيادون في مجموعات صغيرة، ولديهم سياسات بسيطة لتنظيم أمورهم في تراتبية أبوية يقوم فيها الرجل بجلب الطعام، فيما تقوم المرأة على رعاية الصغار. والمنافسة على الموارد ليست شرسة؛ كون الهدف هو تأمين الطعام لمدة قصيرة، فلا داعي للمنافسة الشرسة.

> مرحلة الرعوية «pastoral» والبستنة «horticultural»، والتي انتقل الإنسان فيها إلى مرحلة الاستقرار ببناء البيوت، وبالتالي فقد قرر أن «يجلب» الموارد الطبيعية لبيته. هنا تقدم الإنسان خطوة في تدخله في الطبيعة عن طريق استئناس بعض الحيوانات، وزرع بعض النباتات التي تمدُّه بالمواد الأساسية للغذاء والملبس. في هذه المرحلة تطور مفهوم الأسرة، وشاركت المرأة في عملية الإنتاج، ولكن الهيمنة تظل لقائد الأسرة.

> مرحلة المجتمع الزراعي «agrarian society»، حيث زاد الإنسان من تدخُّله في الطبيعة، عن طريق تطوير أساليب جديدة في الزراعة، ورعاية الحيوانات، حيث بدأ بزيادة المحاصيل، وتجفيف الفواكه والخضر، من أجل حفظها للشتاء، إضافة لصناعة الأجبان. هذه الخطوة في تحدي الطبيعة زادت من قوة الإنسان في مواجهة قسوة الحياة. واكب هذه المرحلة أهمية إنتاج أكبر عدد من الأطفال؛ من أجل توفير اليد العاملة للمزرعة، سواء كانت مملوكة أم مستأجرة بنظام الإقطاع. واحتفظ الدين بدوره في جمع الناس، في يوم إجازتهم، من أجل الصلاة وشكر الرب، إضافة للدعم المجتمعي وتفقُّد أحوال أبناء المجتمع الصغير.

حقائق

انتقلت المجتمعات الخليجية من مرحلة ما قبل الحداثة، المرتبطة بما قبل الصناعية إلى مرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، خلال فترة وجيزة جداً جعلت العناصر الفاعلة في المشهد تتنازع حول مفاهيم غير واضحة

في كل هذه المراحل يهدف عمل الإنسان إلى إنتاج ما يستهلك أولاً، ويبيع (أو يقايض) الفائض؛ من أجل أن يحصل على ما ينقصه، ولم يكن جمع الثروة المالية هدفاً في حد ذاته، وإنما استُخدم لشراء المزيد من الأراضي لزيادة الإنتاج، وظلّ جمع كميات كبيرة من الذهب حِكراً على النُّخب الإقطاعية.

شكّل اختراع الآلة البخارية طفرة في تدخُّل الإنسان في الطبيعة عن طريق زيادة الإنتاج بشكل مكثف، حيث أصبح الهدف الأساسي للإنتاج هو البيع لا الاستهلاك. ولأن المصانع تحتاج إلى أيد عاملة، فقد أصبحت المدن هي مراكز استقطاب مَن أراد أن ينجو من الفقر ونظام الإقطاع. هنا تغيَّر شكل المسكن وأهمية التعليم الذي يرفع من سقف طموحات العامل ليتدرج وظيفياً في المصنع. تقلصت سلطة الأسرة، وتراجع دور الدين؛ كون المدن تقوم على مجتمع متنوع لا يتدخل أفراده، بشكل كبير، في خصوصيات بعضهم البعض. وهنا ازدهرت الحداثة، التي أعادت التفكير في المسلَّمات السابقة حول دور المؤسسات الاجتماعية التقليدية (الأسرة، الدين، الاقتصاد، والدولة). أصبحت فكرة «جمع الثروة» متاحة للجميع، وإن ظلت النخبة مهيمنة على الثروات، فإن النماذج التي تمكنت من الخروج من طوق الفقر إلى الغنى، قد شجّعت الكثيرين على بذل الجهد والمنافسة بصفتهم أفراداً، وهذه روح الرأسمالية التي لعبت دوراً محورياً في تكريس الفكر المادي، الذي ناسب الحداثة بوصفها ردّة فعل على التقليدية القائمة على أمور غير عقلانية (بحسب ما يراه الحداثيون)، ومنها الاعتماد على الغيبيات الدينية، أو السرديات الشعبية. جاءت الحداثة بوصفها ردّة فعل عنيفة على التقليدية، فأرادت إعادة هيكلة الأسرة، ورفع مستوى الندّيّة بين الرجل والمرأة، وتقييد دور الدين في المجال العام، وزيادة المنافسة في سوق العمل، وتسخير الدولة لخدمة الاقتصاد وليس العكس.

غيَّرت الحداثة موازين القوى، حيث استغلّت دفع الاقتصاد الصناعي المجتمع نحو التعليم، بأن رفعت سقف طموحات الطبقة العاملة للانتقال من الفقر والاعتماد على طبقة المُلّاك، إلى الطبقة المتوسطة. قلّص هذا التوجه دور المؤسسات الدينية المتحالفة مع القيادات التقليدية، لتزدهر العلمانية بوجهيْها الليبرالي الفردي، والاشتراكي الثوري، على اختلافهما الذي قد يصل إلى حد التناقض، ولكنهما يتفقان في إعادة صياغة المجال العام. هنا ازدهر المنهج البنيوي، القائم على مقاربة البنى الاجتماعية، واللغوية، والاقتصادية، والثقافية، عن طريق استكشاف العلاقات الداخلية للعناصر الأساسية في تلك البنى، والتعرف على المعاني التي تقوم عليها تلك البنى؛ من أجل خلق ثقافة مادية يمكن قياسها بشكل عقلاني بعيداً عن عالم الماورائيات.

لم يتوقف التطور التقني عند الآلة البخارية والكهربائية، فقد تطورت التقنية لتشمل الحوسبة، مُلغية بذلك كثيراً من الوظائف التي يقوم بها البشر، وأصبح لزاماً على الأفراد أن يبحثوا عن أعمال تتجاوز مسألة الإنتاج الذي هيمنت عليه الآلة. هذا ما يُعرَف بمرحلة ما بعد الصناعية «post-industrialism»، حيث تحوَّل سوق العمل إلى «الخِدمية»، بدلاً من «الإنتاجية». وبنظرة سريعة على سوق العمل في هذه المرحلة، سنجد معظم الوظائف، التي يقوم بها الإنسان، تُصنَّف في دائرة الخدمة وليس الإنتاج (طبابة، رعاية، تعليم، خدمة عملاء...). لقد تطورت التقنية بشكل مطّرد مع الذكاء الاصطناعي (بدءاً بالتطور الهائل للكمبيوترات في الستينات) لدرجة تجاوزت القدرة الاستيعابية للبشر لأن يواكبوا التطور التكنولوجي. هنا ينتقل الإنسان ثقافياً واجتماعياً إلى مرحلة ما بعد الحداثة «post-modernity»، والتي توجَّه فيها الفلاسفة إلى طرح التساؤلات على المسلَّمات المهيمنة.

تميزت مرحلة ما بعد الحداثة بالشكوكية العالية، والنسبية، والذاتية في الطرح. تحولت الحقائق الفكرية إلى مجرد وجهات نظر، ثم لحقتها الحقائق المادية، لتكون هي الأخرى وجهات نظر، وحصل فلاسفة ما بعد الحداثة على دعم مطّرد من بعض العلماء التجريبيين الذين رفدوا التشكيك المعرفي بجدل يقوم على الاستدلال المخبري (الكيميائي والحيوي). لنأخذ، على سبيل المثال، مسائل الهويات الجندرية والجنسية، والتي تحولت من مسلَّمات قطعية، كون المثلية مرضاً نفسياً يجب إخضاعه للعلاج إلى تطبيعه وتشخيص مَن يرفض «شرعيته» بأن عليه أن يتعالج من رهاب المثلية. لم يكن بوسع الفلاسفة، المناصرين لهذا التوجه، أن يتمكنوا من الدفاع عن هذا التوجه لو لم يتوفر لديهم دعم من باحثين في مجالات الأحياء والطب. يهدف هذا التوجه الجديد في المجال الإكلينيكي لأن يصوّر التقسيم التقليدي ذكر/ رجل، وأنثى/ امرأة، بأنه قد أضحى أمراً من الماضي الذي يجب تجاوزه. وهنا تتجلى لعبة ما بعد الحداثة فلسفياً في المجال التطبيقي، فلقد لعبت «التشكيكية» دور المُسائل عن شرعية التقسيم التقليدي، لترفدها «النسبية» بطرح فكرة كون الموضوع غير واضح، كما قد يعتقد البعض، لتأتي «الذاتية/ الفردية» معطية الحق للأفراد بأن يقرروا هوياتهم، بناء على شعورهم الذاتي، الذي يستند إلى نسبية الحقيقة التي تم التشكيك فيها. هذا المثال نستطيع طرحه على أمثلة أخرى حول الهويات الجديدة، التي يتم التسويق لها في أوروبا وشمال أمريكا بوصفها تحريراً للعقل من الموروث يتجاوز الفلسفة ليستشهد بالمختبر.

مما سبق نطرح تساؤلاً حول أصل فكرة الحداثة، التي شغلت المشهد الثقافي في الخليج، خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وكيف أن أطراف النزاع قد أغفلت السؤال الأهم؛ وهو: كيف لنا أن نفكر في الحداثة وقد وصلتنا ممزوجة بما بعد الحداثة؟ فلقد انتقلت المجتمعات الخليجية من مرحلة ما قبل الحداثة، المرتبطة بما قبل الصناعية، إلى مرحلة الصناعية وما بعد الصناعية، خلال فترة وجيزة جداً جعلت العناصر الفاعلة في المشهد تتنازع حول مفاهيم غير واضحة.

* أستاذ علم الاجتماع بجامعة غراند فالي، وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط ـ واشنطن



هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».