سلمى مرشاق تعيد المكتبات الخاصة للواجهة

بعد سنة من إستعانة وديع فلسطين بها لنقل كتبه من مصر لبيروت

وديع فلسطين، وصول المكتبة إلى بيروت
وديع فلسطين، وصول المكتبة إلى بيروت
TT

سلمى مرشاق تعيد المكتبات الخاصة للواجهة

وديع فلسطين، وصول المكتبة إلى بيروت
وديع فلسطين، وصول المكتبة إلى بيروت

كانت الصدمة كبيرة للكاتب والصحافي المصري وديع فلسطين، الذي يبلغ من العمر اليوم 92 عامًا، عندما رأى بأم عينيه، بعد وفاة جارته الوحيدة التي تقاسمه المبنى وهي من عائلة العجمي، أن صاحب الملك، عمد إلى كسر باب بيتها بعد وفاتها وأفرغه من محتوياته، ليستعيده ويتمكن من استثماره. بعد ما يقارب الشهر، وخوفًا على مصير مكتبته الخاصة، التي جمعها على مدار سنوات عمره، وتحتل كتبها كنباته وطاولاته وجزءًا من الأرض، وتتناثر مؤلفاتها في كل زاوية، كان أول ما فكر به أن ثروته هذه ستلقى مصيرًا أسود. لم يتردد وديع فلسطين بعد هذه الحادثة المؤلمة، وقد تملكه الخوف، بالاتصال بصديقته المقربة الكاتبة سلمى مرشاق سليم المقيمة في بيروت، ليقول لها بشكل مفاجئ: «إذا كنت تريدين المكتبة تعالي وخذيها بسرعة». وتأكيدًا على نيته، خط الكاتب المعروف رسالة جاء في نصها أنه يمنح سلمى مرشاق كتبه وأوراقه ورسائله التي تبلغ المئات، وكان قد تبادلها مع كتاب مغمورين وآخرين أكثر شهرة على مدار عقود، وعرف كيف يحفظها ويؤرشفها في زمن صارت فيه الرسائل الورقية ندرة.
خروج كتب وديع فلسطين من بيته أمام عينيه وحرمانه منها في سنواته الأخيرة لم يكن بالأمر السهل، اختياره أن تنقل إلى بيروت بدل أن تبقى في القاهرة، هو خيار صعب أيضًا. أما لماذا سلمى مرشاق، فقد أجاب صاحب المكتبة الإعلامية المعروفة ليلى رستم حين سألته بالقول: «هي الوحيدة التي بقيت تسأل عني». لكن ربما ما لم يقله الرجل لكنه يعرفه جيدًا، أنه وضع أغلى ما يملك في أياد أمينة، وأودعه امرأة لها عشق استثنائي بالكتب، وشغف لا ينضب بالبحث والأرشفة.
تحكي سلمى مرشاق التي ما تزال تغوص في هذه الثروة المربكة التي هبطت عليها: «تولّت ابنتي رشا الأمير الناشرة والروائيّة وصديقة لها في القاهرة هي أميرة عبد الخالق، أمر شحنها من منزله في مصر الجديدة إلى بيروت، ووصلت قبل عام بالتمام أي في شهر أغسطس (آب) عام 2014».
وتضيف سلمى صاحبة كتابي «نقولا الحداد» و«إبراهيم المصري»: من حسن الحظّ أنّ جوار حديقة دارنا مبنى الهنغار الذي يستخدمه ابني لقمان سليم لنشاط جمعيّته «أمم للأبحاث والتوثيق» وكانت فترة الصيف وتلك النشاطات متوقّفة فأودعنا الصناديق في هذا المبنى. الصناديق تضمّ إضافة إلى الكتب باللغات العربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، أعدادًا من مجلات صدرت واندثرت ومنها ما زال يصدر كـ«الهلال» في مصر و«الضاد» في حلب.
وتروي سلمى التي انتهت من عملية فرز الكتب ولا زالت تغوص في عدد هائل من الرسائل التي تشغلها: «كنت أحاول تنظيم ما لا يقلّ عن صندوقين يوميا. المرحلة الأولى فرز الكتب وفق اللغة ومحاولة جمع إعداد كل مجلّة بترتيب سنويّ... وكان هذا العمل يتطلّب جهدًا لأنّ الصناديق مختلطة بمعنى أنّ محتوياتها غير منظّمة: كتب ومجلات ورسائل..».
ولكن كيف تم تنظيم هذا الكم الهائل من المؤلفات، ترد سلمى مرشاق: «تلت عمليّة الفرز الأولى تسجيل اسم كلّ كتاب ومؤلّفه ودار النشر وتاريخ إصداره وإذا كان عليه إهداء، وهذا ما يضيف قيمة معنويّة لأنّ الكثير من الكتّاب دوّنوا إهداءاتهم إلى الأديب، الناقد، الصحافيّ، الصديق... مع عبارات المودّة والتقدير؛ ثمّ وضعت الكتب المسجّلة في صناديق متوسّطة الحجم ونقلت تباعًا إلى مصيفي في سوق الغرب حيث لي ملاذٌ ألجأ إليه للقراءة والتأمّل، إذ لا متّسع فعلي لإضافة جميع هذه الكتب إلى مكتبتي الشخصيّة ولم أكن راغبة في خلط المكتبتين».
تمت رعاية المكتبة عائليًا تروي مرشاق: «قام كلٌّ منّا بدوره، رشا ابنتي اهتمت أوّلاً بالشحن وبتصوير بعض كلمات الإهداء ووضعها على برنامج خاصّ بمكتبة وديع فلسطين، كما أنّها أعدت لنا ما يُعرف بـ(إكس ليبريس) أي جزء من مكتبة تمّ وشم كلّ كتاب بها. أمّا أنا ومعاونتان لي فقمنا بعمليّة التسجيل بداية على الورق ثمّ طباعة تلا ذلك حفظ المعلومات على أقراص مدمجة». أما عن عدد الكتب فلا تزال أصعب من أن تحصى بشكل دقيق لكن سلمى مرشاق تقول: «إنها وُضعت في صناديق خاصّة متوسّطة الحجم، عددها ثلاثمائة صندوق. فإذا قدّرنا أنّ الصندوق يتسّع لما بين 20 و30 كتابًا تمكّنا من معرفة العدد التقريبي أي نحو 7500 كتاب».
مكتبة وديع فلسطين التي وجدت صدرًا رحبًا لها في لبنان، تحوي كتبا، ومجلات ورسائل متبادلة بينه وبين أصدقائه في مختلف أنحاء العالم العربي وأميركا وأوروبا.
الكتب تعكس اهتمامات الرجل، فالأدب نثرًا وشعرًا والصحافة وضعًا والاقتصاد البترولي والمعاجم المتنوّعة. فقد اهتمّ باقتناء كلّ قاموس يصدر ليتمكّن من العمل في مرحلة الترجمة.
أمّا المجلات فقد رتبت مؤخرًا وصار لها قائمة تحمل عناوين مائة وخمسين مجلّة ظهرت في العالم العربي وفي أميركا اللاتينيّة، بعضها كامل وبعضها الآخر أعدادٌ متفرّقة كان يحصل عليها ويحتفظ بها.
أمّا الرسائل التي تبادلها مع أقرانه وأصدقائه من مختلف أرجاء المعمورة فما زالت طور التنظيم، فهناك مثلاً رسائل من المؤرّخ فيليب حتى ومن الشاعر أحمد زكي أبو شادي ومن زميلته الجامعيّة الكاتبة أندريه شديد ومن الشاعر جورج صيدح ومن الكاتب نقولا يوسف ومن الكاتبتين سلمى الحفار الكزبري ووداد سكاكيني وزوجها العالم زكي المحاسني والشاعر نزار قبّاني وكلّها أسماء معروفة لمتتبّع الحركة الأدبيّة في مصر والعالم العربيّ.
ما يميّز هذه المكتبة أنّها تضمّ مواضيع متعدّدة شغلت بال وديع فلسطين المثقّف المصري العربي المتطلّع، كما أنّها ترسم لنا خريطة واسعة لعلاقاته برصفائه وما كانوا يفكّرون ويكتبون عن التراث الذي أنتجه العقل العربي في نصف قرن أو يزيد.
من أبرز المؤلّفات في هذه المكتبة، المؤلفات «التيمورية»، أي ما وضعه الأبّ أحمد باشا تيمور والابن محمود تيمور - كذلك إصدارات «المقتطف» كهدايا لقرّائها من وضع فؤاد صرّوف وجمال طوقان وحنّا خبّاز إلخ... التي كانت ترسل سنويًّا إلى مشتركي المجلّة عوض أشهر الصيف التي تتوقّف خلالها المجلّة عن الصدور وبعض الكتّاب الشوام مثل حبيب جاماتي وإبراهيم المصري ونجيب عقيقي. هناك أيضًا منشورات «رابطة الأدب الحديث» وهنري كاتن الذي كرّس جهده للقضيّة الفلسطينيّة، وقيمتها أنّها لن يعاد طبعها لأنّ اهتماماتنا قد تبدّلت كلّيًّا.
وحين نسأل إن تمت الاستعانة بجمعية أو مؤسسة لتنظيم المكتبة أو إيداعها في مكان ما تجيب سلمى مرشاق: «حتّى الآن لم أستعن بأحد سوى الآنستين اللتين عاونتاني على التسجيل الخطّي والطباعة. وربّما أن عدم توجهي بالنداء لأحد لطلب المعونة، يرجع إلى أنانيّتي ورغبتي في الاستفادة منها شخصيًّا قبل إشراك غيري في هذا الكثير». وتضيف: «السبب الثاني هو أنّني أحلم بإنشاء مؤسّسة تضمّ مكتبات فرديّة هامّة مثل مكتبة وديع فلسطين، ومكتبة زوجي الراحل المحامي والنائب محسن سليم وابنتي الروائيّة والناشرة رشا الأمير وابني المصاب مثلي بحبّ الكتب النادرة لقمان سليم ومكتبتي المتواضعة. كما تضمّ هذه المؤسّسة قسمًا خاصًّا للرسائل مماثلاً لمتحف المراسلة الذي زرته في باريس، حيث يحتفظون برسائل شخصيّات هامّة مع صور ومعلومات عن كلّ شخصيّة».
وتقول سلمى مرشاق «حتى الآن، لم أُطلع إلا مكتبة الجامعة الأميركيّة التي أتردّد إليها دومًا حيث لي صديقات كما التقيت بالمسؤول عنها الدكتور لقمان محيو». وتضيف: «حتمًا لم ولن أفكّر ببيعها أو التفريط فيها، فقط يمكنني إطلاق نداء لمن يشاركني حلم المؤسّسة بشقّيها: المكتبات وأدب المراسلة كي نسعى إلى تحقيق هذا الحلم وكما يقال فالحلم إلى الحقيقة سلّم..».
وحين نسألها عن طبيعة علاقتها بوديع فلسطين تقول: «أعود بذكرياتي إلى سنة 1948 التي أعتبرها سنة مفصليّة في حياتي. قبل ذلك العام كنّا نصلُ إلى لبنان برًّا. ينطلق القطار من محطّة مصر مساءً ويصل صباح اليوم التالي إلى حيفا، حيث نقضي أيًّامًا قلائل في فندق نصّار (أصحابه أصدقاء والديّ) فنتجوّل ونتعرّف على أهمّ المعالم».. وتكمل «ولكن سنة 1948. تبدّل الوضع، فهو عام النكبة وعام ركوب الطائرة لأوّل مرّة من مطار ألماظة القديم إلى مطار بئر حسن الصغير. في الفندق في بيت مري، تعرّفت والدتي على سيّدة فلسطينيّة بدا الحزن على ملامحها، أخبرتنا ما حلّ بها وأهلها ووطنها. دعتها والدتي لقضاء فترة الشتاء في مصر في ضيافتها... طرحت سؤالاً هل تعرفون الأستاذ وديع فلسطين وعرّفتنا به... هكذا بدأت الصلة به التي استمرّت طوال هذه السنوات، صديقًا للعائلة ثمّ موجّهًا في مطالعتي. وإن أنسَ لا أنسَ أنّه في ذلك العام نصحني بمطالعة نجيب محفوظ، ثمّ كان أستاذي في مادة الصحافة في الجامعة الأميركيّة في القاهرة».
ترى مرشاق أن تراجيديا المكتبات الخاصة في العالم العربي آن لها أن تحل مشكلتها، فقد رأى وديع فلسطين مكتبة صديقه الكاتب المصري محمد عبد الغني حسن، تباع لجامعة قطر، لأن عائلته أرادت التخلص منها، كذلك اختفت زوجة أخيه النحات لويس فلسطين ومعها أعماله بعد وفاته في إسبانيا وليس هناك من يسأل. والقصص من هذا النوع كثيرة، والحمل ثقيل، ولا توجد هيئات أو مؤسسات أو وزارات مؤهلة لتقوم بهذه المهمة.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

 

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.