مأثرة الصفاء الشعري

«مخطوف من يد الراحة» لمُبين خشاني

مأثرة الصفاء الشعري
TT

مأثرة الصفاء الشعري

مأثرة الصفاء الشعري

إذا كان الانطباع الشائع عن الديوان الأول للشاعر، أي شاعر، أنه لا يخلو من عثرات، بوصفه رديفاً للبدايات، وأنّ هذه العثرات، عادة، ما سيتمّ تخطّيها مع التطوّر المفترَض للشاعر، فإنّ تصوراً كهذا لا ينطبق على ديوان الشاعر مُبين خشاني «مخطوف من يد الراحة»، الفائز باستحقاق بجائزة الرافدين للكتاب الأول. فالديوان ولد بنفَس احترافي، متعالياً على مفهوم البدايات. ومن الجلي أنّ مراناً متواصلاً على الكتابة الشعرية قد سبق هذه الإضمامة من القصائد، ما أكسب الشاعر خبرة فنية.
بقصيدة «العشرون» يستهل الشاعر ديوانه، ويبدو أنّ مثل هذا «التصدير» لم يأتِ عفواً، إذ يمكن قراءة القصيدة كهوية مكثّفة، تختصر سيرة الشاعر، تدرّجاً من بياض الولادة، حتى صفحة وعي ثقل العالم بأوزاره وأقنعته، بهذا المعنى هي تمثّل نوعاً من «بيان». ومثلما بدا العالم يعيش الازدواج في هذه القصيدة، فالشاعر أيضاً بدا كما لو أنه يعاني الانشقاق، أو قل التعارض بين إرادتين «يدي الأولى- تبذل سنة للفضيلة - خطوة نحو خلودها - والثانية تحول دون ذلك - وأنا مصلوب بينهما». هو نوع من صراع إذن يعطي القصيدة بعدها الدرامي، وإن بخفوت. صراع يدور بين قطبين متنافرين تجَسَّدا عبر نزعة التسليم تارة، والرفض تارة أُخرى. على أن هذا الاحتدام في الثيمة المشار إليها يقابله صفاء بيّن انسابت معه القصيدة طليقة، وإن حملت ضمناً «تباشير» هذا التضاد وقد تمثّل بداية بثنائية الدخول - الخروج، ليتعزّز لاحقاً بالمزيد.
مع الإيغال في القصيدة حتى نهايتها، يتأكّد مفهوم التعارض - التضاد، عبر أكثر من ملمح، كما في وحداتها المُصاغة في ضوء وعي هذه التعارضات، فـ«الصحراء الوحشية» يقابلها «القلب - الواحة». و«الأمل» رغم ما يحتّمه من محمول إيجابي إلا أنه يُستدرَك، وفق فلسفة القصيدة القائمة على التضاد، بصفة «الخفيض»، وهو ما ينسحب أيضاً على «النسيم» الذي يغدو جارحاً. والمرأة المنشودة في القصيدة، وقد أضفى الشاعر على يومها صفة البلبل الصامت، تقابله أيام الشاعر، وقد استحالت خفافيش مغنّية، وهكذا، فالبلبل يُعارض بالخفاش، والصمت بالغناء، مع نبرة «التهويل»، عبر استخدام صيغة الجمع لكل من الخفاش واليوم. ولا تني هذه التعارضات تتوالى، بما تنم عنه من همّ فنّي، وفي صلب ذلك يأتي تسخير اللغة، فتغدو «هواجس الإجرام» كناية عن «أيادٍ حبيبة»، ومن ثمّ بلوغ الذروة، فالانحدار المتمثل بالذُوِي، كما في الجملة الأخيرة في المقطع السابق. في الوقت الذي يخاطب امرأة القصيدة، ويصفها بـ«السعادة التي ترتدي حزن الثكالى»، صانعاً من هذه المرأة أنموذجاً لاختزال حزن بقية النساء المكلومات، في صورة منقسمة على ذاتها، تتعذّر استقامتها، فهي محكومة بالانشطار؛ حيث السعادة مسربلة بالحزن.
إنّ نسجاً دقيقاً، واعياً، مؤيَّداً بمناورات اللغة، كالذي سلفَ التفصيل فيه، يتكامل بالتزامن مع صوغ محكم لا ينبو عن إطار القصيدة، فثمة اندغام وتجانس كامل، بنْية ومحتوى، وهو ما تصلح معه أن تكون عيّنة لمجمل عمل الشاعر، وإنباءً بلغة وتفكير شعريين ينطقان بالجديد بقدر ما ينطقان بالخصوصية. على أن حضور المرأة - الأنثى في فضاء القصيدة هو إحكام وتعزيز لمبدأ افترضته هذه القراءة، حين دعت هذه القصيدة بالهوية، فما من هوية شعرية تكتمل دون الحضور الفيزيقي أو الحُلمي، على حد سواء، للمرأة، فهي النافذة، بما تعنيه هذه الدلالة، و«الملح في الحياة الماسخة»، على حد تعبير قصيدة «قفزة في الهواء».

ندب العالم ونقده

تستدعي قراءة «مخطوف من يد الراحة» تحري كلّ سطر، حتى لما هو «خارج» المتن، كما الحال مع العتبة، المتمثلة بالإهداء، حيث يفصح فيه الشاعر عن انتمائه دفعة واحدة. كذلك الحال مع المقتبس الشعري، في قصيدة «العشرون»، الذي بدا تضامنياً مع شاعر رحل مبكّراً، وشكلاً من أشكال التحية أو التنويه بمشتركات شعرية، وإقراراً بدَين. وإذا كان إهداء الكتاب إلى الأب والأم، يمثّل بِرّاً للجذر العائلي، وإعلاءً له، فإنّ خاتمة الإهداء «إلى شموع تشرين»، بإحالتها دون لبس إلى شباب «انتفاضة تشرين» العراقية، يقول ما هو أوسع وأرسخ انتماءً، وأشد جذرية؛ حيث الانتماء إلى عالم مأخوذ بصيحة الحرية، لا شعاراً أو منحى رومانسياً، وإنما كلازمة وجود. لقد مُيّزتْ كلمة خارج، قبل أسطر قليلة بقوسَين، إضماراً لمعنى مغاير، وهو أنّ هذا الخارج هو في حقيقته داخل. وإذا كان الديوان، بدءاً وبداهة، يمثّل موقف الشاعر الفني - الشعري، فهو بدرجة متساوية يمثل موقفه السياسي، كما بدا هنا، لا بالمعنى الضيّق. من هنا، أيضاً، يتأتّى الوعي بمأزق العالم، وبقدر ما ينحو الشاعر باتجاه ندب العالم، فهو في الوقت عينه يعني نقده. هو صراع موازٍ، فثمة عالم في طريقه إلى زوال، بطريقة ما، عالم متعَب الهواء! ومقابل هذا الغروب، ثمة شروق، يتمثل بقدوم إنسان، يلتمس الطريق إلى عشريه، لكن يحدث ذلك في الوقت الخطأ أو الوقت الضائع. وهو ما يستدعي هنا بعض ما استهلّ به إليوت قصيدته المعروفة «رحلة المجوس»؛ حيث «نزلناها في شرّ وقت من العام»، وكأنّ لسان حال خشاني يقول؛ نزلتُ العالم في شر أوقاته. وليس في مضاهاة كهذه أي تلميح بتأثر أو ورود للنبع الإليوتي، إنما هي فكرة، استدعت نفسها، في سياق هذه القراءة. غير أنّ الشاعر لا يريد أن يخرج خالي الوفاض من عالمه هذا، كي لا يقر بخسارته، أو بالأقل منعها من أن تتضاعف، معللاً نفسه بغنيمة الحكمة التي أدرك من خلالها تعب العالم، هذا التعب الذي يلتقي مع جملة «شيخوخة العالم»، الباتّة، كما في قصيدة «بجعة سوداء». فهل كانت هذه الحكمة المتحصّلة هي ثمرة حصاد المنافي، أو ثمرة حيرته؟ بما أنه هو ذاته صنيعة السؤال، كما في قصيدة «يموت» التي يولد فيها «يحيى ابن سؤال» من شجرة، على طريقة الحكايات الغرائبية، دون أن يكون مثل هذا التوظيف في القصيدة منشوداً لذاته، على رغم أهميته وتشكّل عناصر النص، وإعجازية الأفعال فيه من رحم هذه الولادة الأسطورية.
في «مخطوف من يد الراحة» هذا الاسم غير المنبتّ عن روح الديوان، ينضفر الهمّ الذاتي، بالوطني، بالإنساني، وهو ما يمكن أن ينضاف إلى مدلول الهوية التي سبق أن نوهتْ بها هذه القراءة. لكن هذه المرة، هوية فنية - جمالية، وإنسانية، جامعة للديوان، يشتمل على وضوح الموقف وسطوع الشعر، في انسجام يتعزز، قصيدة إثر قصيدة وبما يتوزعه من أصوات نُطقت عبر ضميرَي المتكلم والغائب: «أنا من غرفتي إلى عالم موحش- أخرج كلّ صباح - كمن يقع في الفخ مرّتين - وأنتِ بنيّة الإنقاذ - تمدّين أصابعك مثل نخيل مذبوح وتغلقين النافذة». وهكذا يتماهى الشاعر مع مفردات عمله، مضيفاً نوعاً من مؤاخاة نادرة على جميع عناصر الديوان الذي انتظمه الأسى، فكان بحق إشراقة المأساة على جلد العالم، والمغدور الذي ينمو اسم قاتله في لافتات الشوارع، كما في قصيدتَي «صلاة الخائف» و«مأساة العادي»، على التوالي، مع تكييف الجملة الأخيرة، التي تتكامل وشطرها الآخر، المتمثل بجملة «شموع تشرين» في نصّ الإهداء. وهو برهان آخر على وحدة الروح التي ينطلق منها الديوان، وينطق بها، وهو كل متكامل، ما يصبّ أيضاً في صلب الصفاء الشعري والفني.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

بثروتها الضخمة ونفوذها الواسع... بيونسيه تخترق قائمة أقوى نساء العالم

احتلّت الفنانة الأميركية بيونسيه المرتبة رقم 35 على قائمة أقوى نساء العالم (فيسبوك)
احتلّت الفنانة الأميركية بيونسيه المرتبة رقم 35 على قائمة أقوى نساء العالم (فيسبوك)
TT

بثروتها الضخمة ونفوذها الواسع... بيونسيه تخترق قائمة أقوى نساء العالم

احتلّت الفنانة الأميركية بيونسيه المرتبة رقم 35 على قائمة أقوى نساء العالم (فيسبوك)
احتلّت الفنانة الأميركية بيونسيه المرتبة رقم 35 على قائمة أقوى نساء العالم (فيسبوك)

يهتزّ منزل بيونسيه على وقع الفضيحة التي تلاحق زوجها جاي زي. هو متهمٌ من قِبَل سيّدة باعتداءٍ مشتركٍ عليها، تورّطَ فيه وزميله شون ديدي عام 2000.

لكن رغم الرياح التي تعصف بالبيت الزوجيّ، وهي ليست الأولى في العلاقة المستمرة منذ 27 عاماً، فإنّ الفنانة الأميركية حرصت على الظهور مبتسمةً إلى جانب زوجها قبل أيام، وذلك في العرض الأول لفيلم «Mufasa - Lion King». جاءت الابتسامة العريضة على شرف ابنتهما بلو آيفي، التي تخوض تجربتها السينمائية الأولى.

بيونسيه تتوسّط زوجها جاي زي وابنتها بلو آيفي في العرض الأول لفيلم «موفاسا» (إ.ب.أ)

النجمة رقم 35 على قائمة «فوربس»

واجهت بيونسيه تحدياتٍ كثيرة في كلٍ من حياتها الخاصة ومسيرتها المهنية، وقد لعب ذلك دوراً في تكوين شخصيةٍ صلبة لديها. لم يأتِ اختيارُها من بين أقوى 100 امرأة لعام 2024 عبَثاً من قِبَل مجلّة «فوربس»، وهي ليست المرة الأولى التي تخترق فيها المغنية البالغة 43 عاماً، قوائمَ تتصدّرها رئيسات جمهورية ورائدات أعمال.

احتلّت بيونسيه المرتبة الـ35 في قائمة «فوربس» السنوية، التي تصدّرتها رئيسة المفوّضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تليها كلٌ من رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، ورئيسة إيطاليا جورجيا ميلوني، ورئيسة المكسيك كلوديا شينباوم. أما من بين زميلاتها المغنّيات فقد سبقتها تايلور سويفت إلى المرتبة 23، فيما حلّت ريهانا في المرتبة الـ76.

800 مليون دولار و32 «غرامي»

تختار فوربس نجمات قائمتها بناءً على 4 معايير، هي الثروة، والحضور الإعلامي، والتأثير الاجتماعي، ومجالات السلطة. وتبدو بيونسيه مطابقة للمواصفات كلّها، بما أنّ ثروتها تخطّت الـ800 مليون دولار، وهي في طليعة الفنانات ذات الأثر السياسي والثقافي والاجتماعي.

إلى جانب كونها إحدى أكثر المشاهير ثراءً، تُوّجت بيونسيه بأكبر عدد من جوائز «غرامي» محطّمةً الرقم القياسي بحصولها على 32 منها خلال مسيرتها. وهي لم تكتفِ بلقب فنانة، بل إنها رائدة أعمال أطلقت شركاتها وعلاماتها التجارية الخاصة على مرّ السنوات. تذكر «فوربس» أن مصدر ثروتها الأساسي هو الموسيقى، إلى جانب مبادراتها الفرديّة، وتلفت إلى أنّ بيونسيه صنعت نفسها بنفسها، مع العلم بأنها لم تتابع أي اختصاص جامعيّ، بل تركت المدرسة قبل التخرّج فيها.

حطّمت بيونسيه الرقم القياسي بحصولها على 32 جائزة «غرامي» حتى عام 2023 (أ.ب)

طفلة القدَر

جاء العِلمُ في حياة بيونسيه على هيئة والدةٍ بدأت مصفّفةَ شَعر ثم فتحت صالونها الخاص، وعلى هيئة والدٍ كان يعمل مدير مبيعات في إحدى الشركات، قبل أن يصبح مدير أعمال ابنته. منهما تلمّست المنطق التجاري.

أما فنياً، فقد لمع نجمُها للمرة الأولى في مسابقةٍ مدرسيّة، عندما غنّت وهي في السابعة لتتفوّق على مَن هم في الـ15 والـ16 من العمر. فما كان من والدها سوى أن يترك وظيفته ويتفرّغ لإدارة أعمالها والفريق الغنائي الذي انضمّت إليه في الثامنة من عمرها، والمكوَّن من فتياتٍ صغيرات. تحوّل الفريق ذاتُه عام 1996 إلى «Destiny’s Child» (طفل القدَر)، لتنطلق معه رحلة بيونسيه نحو العالميّة.

فريق Destiny’s Child الذي انطلقت منه بيونسيه عام 1996 (فيسبوك)

صنعت الليموناضة

بعد انفصال الفريق، لم تتأخر بيونسيه في استئناف رحلتها الفنية منفردةً، فخاضت التمثيل والغناء. إلا أن تلك الرحلة لم تكن اعتياديّة، إذ سرعان ما ارتفعت أسهُمُها وبدأت تُراكِم الإصدارات، والحفلات، والجولات العالمية، والأدوار السينمائية، والجوائز، والألقاب.

لم يحصل ذلك بالصُدفة، بل بكثيرٍ من المثابرة. عندما طُلب منها مرةً أن تفسّر نجاحها غير المسبوق، أجابت بيونسيه: «صحيحٌ أنني مُنحت الليمون، لكنّي صنعت الليموناضة». يُنقل عمّن يواكبون تحضيراتها من كثب، أنها تُشرف على كل تفصيلٍ متعلّقٍ بألبوماتها وحفلاتها، هذا إلى جانب انخراطها المباشر في عمليّة التأليف والتصميم. تشهد على ذلك جولتها العالمية الأخيرة Renaissance والتي تحوّلت إلى ظاهرة اقتصادية.

هذا فنياً، أما نفسياً فلم يكن صعود بيونسيه الصاروخيّ مهمة سهلة. كان عليها مصارعة خجلها وشخصيتها الانطوائيّة لسنوات عدة، لكنها استلهمت تجارب نجماتٍ سبقنها. تقول إنها تأثرت بمادونا، ليس كأيقونة موسيقية فحسب، بل كسيّدة أعمال كذلك؛ «أردت أن أسير على خطاها وأن أبني إمبراطوريتي الخاصة».

تذكر بيونسيه مادونا من بين السيّدات اللواتي ألهمنها (فيسبوك)

صوت المرأة

لا تخترق بيونسيه عبثاً قوائم تضمّ أفضل رئيسات مجالس الإدارة، ومديرات الشركات الناجحة، فهي أثبتت أنها سيدة أعمال متفوّقة. أسست شركة الإنتاج الخاصة بها عام 2010 تحت اسم Parkwood Entertainment، وهي تقدّم مروحة واسعة من الخدمات في قطاع الترفيه؛ من إنتاج الأفلام، والموسيقى، والبرامج التلفزيونية، وصولاً إلى إدارة أعمال الفنانين، والتسويق، والتصميم الإلكتروني.

وفي عام 2024، أطلقت مستحضر Cecred للعناية بالشَعر، في تحيّةٍ إلى والدتها الحلّاقة، وفي استكمالٍ لمشاريعها التجاريّة.

بيونسيه ووالدتها تينا نولز (رويترز)

وظّفت بيونسيه نفوذها الفني والمالي في خدمة قضايا اجتماعية وإنسانية تؤمن بها. منذ أولى سنوات انطلاقتها الموسيقية، ناصرت قضايا النساء من خلال كلمات أغاني Destiny’s Child وأغانيها الخاصة لاحقاً. عام 2011، تحوّلت أغنية «Who Run The World? Girls» (مَن يحكم العالم؟ الفتيات) إلى نشيدٍ تردّده النساء حول العالم.

إلّا أنّ الأمر لم يقتصر على الكلام والألحان، بل امتدّ إلى الأفعال. عبر مؤسستها الخيريّة Bey GOOD، تدعم بيونسيه تعليم الفتيات من خلال تأمين الأقساط المدرسية لهنّ. وعبر تلك المؤسسة وحضورها على المنابر العالمية، تحمل بيونسيه لواء المساواة بين الجنسَين.

تحمل بيونسيه قضية تمكين المرأة من خلال أغانيها وأنشطتها الاجتماعية (فيسبوك)

تهمةٌ تهزّ عرش «الملكة بي»؟

تُعَدّ بيونسيه اليوم من أجمل سيّدات العالم، إلّا أنّ ثقتها بنفسها لم تكن دائماً في أفضل حال. في الـ19 من عمرها كانت تعاني من الوزن الزائد وتتعرّض للانتقادات بسبب ذلك. أثّر الأمر سلباً عليها إلى أن استفاقت يوماً وقررت ألّا تشعر بالأسف على نفسها: «كتبتُ Bootylicious وكانت تلك البداية لتحويل كل ما منحتني إياه الحياة، إلى وسيلةٍ أمكّن من خلالها نساءً أخريات».

انسحبَ أثر بيونسيه الاجتماعي على السياسة، فهي تشكّل صوتاً وازناً في المشهد الرئاسي الأميركي. ساندت باراك أوباما، وهيلاري كلينتون، كما تجنّدت إلى جانب كامالا هاريس في معركتها الرئاسية الأخيرة، مقدّمةً لها إحدى أغانيها كنشيدٍ رسمي للحملة.

بيونسيه في أحد تجمّعات كامالا هاريس الرئاسية (رويترز)

تشكّل مسيرة بيونسيه الفنية والمهنية بشكلٍ عام موضوع دراسة في عددٍ من الجامعات الأميركية. لكنّ الأمجاد لا تلغي التحديات، فهي تقف اليوم إلى جانب زوجٍ متهمٍ باعتداءٍ على امرأة. وإذا صحّت التهمة، فإنّها تقف بالتالي إلى جانب ما يناقض القضايا التي تبنّتها طوال مسيرتها الحافلة.