مفكر أوكراني يواجه أهوال الحرب بطريقته الخاصة

فولوديمير يرمولاونكو يشرف على محطة إعلامية إلكترونية بلغة بلاده وبالفرنسية والإنجليزية

فولوديمير يرمولاونكو
فولوديمير يرمولاونكو
TT

مفكر أوكراني يواجه أهوال الحرب بطريقته الخاصة

فولوديمير يرمولاونكو
فولوديمير يرمولاونكو

عندما سمع دوي أصوات المدافع والدبابات والطائرات في اليوم الأول من الغزو الروسي لبلاده، لم يفكر فولوديمير يرمولاونكو في الهروب مثلما فعل آلاف من أبناء وطنه، بل أرسل عائلته الصغيرة إلى قرية بعيدة من جبهات القتال، ومكث هو في العاصمة كييف ليواجه بطريقته الخاصة أهوال الحرب في بلاده. ويعدّ فولوديمير يرمولاونكو، البالغ من العمر 42 عاماً، من أبرز المفكرين في أوكرانيا، ومن أكثرهم شهرة في البلدان الأوروبية، خصوصاً في فرنسا التي يتقن لغتها. وبنصيحة من والده الذي كان مُشرفاً على قسم الفلسفة في جامعة كييف، ومن والدته التي تُدرّسُ الفلسفة في الجامعة نفسها، اختار هو دراسة المادة نفسها. وبعد تخرجه، رغب في التحرر من «العالم التجريدي»، الذي هو عالم الفلسفة، ليدرس الآداب والعلوم الإنسانية وتاريخ الفنون والعلاقات الدولية. كما أنه دَرَسَ تاريخ الأفكار المضادة للثورات في فرنسا وروسيا. وعن ذلك كتب أطروحة أصبحت مرجعاً في هذا الموضوع. وكل هذا أكسبه تعمّقاً واسعاً في كثير من المجالات المعرفية. وهو يرى أن الفلسفة «نواة صلبة» إلا إنها تصبح أكثر جدوى وفاعلية إن هي انفتحت على الآداب والفنون والمجالات المعرفية الأخرى.
ولكي ينشر أفكاره على أوسع نطاق؛ حرص فولوديمير يرمولاونكو على كتابة مقالات في الصحف والمجلات، وفيها تطرّق إلى قضايا فكرية وسياسية وأدبية. كما أصدر دراسة عن المفكر الألماني فالتر بنيامين، وعمّا سمّاها «الآيديولوجيات السائلة» في أوروبا المعاصرة. وراهناً هو يشرف على محطة إعلامية إلكترونية تبثّ أخباراً عن بلاده في زمن الحرب بلغة بلاده، وأيضاً باللغتين الفرنسية والإنجليزية.
وفي حوار أجرته معه مجلة «الفلسفة» الفرنسية في عددها الصادر في شهر مارس (آذار) 2023، أشار فولوديمير يرمولاونكو إلى أنه يواجه مع مواطني بلاده الموت يومياً، إلا إنه يفضل الموت على الهروب منه. ويضيف: «إلى حد الآن لم ألتحق بجبهة القتال، إلا إن كل شيء يمكن أن يتغير بين يوم وآخر. كثيرون من عائلتي ومن أقاربي هم الآن في جبهات القتال. وإذا ما توسّعت الحرب، فإنه يتوجب على جميع الرجال التوجه فوراً إلى جبهات القتال». وبسبب انشغاله بالحرب، لم يعد فولوديمير يرمولاونكو يعير اهتماماً للقضايا التي كان يخوض فيها في وقت السلام: «التفكير المتمحور حول الذات لم تعد له أهمية في الحضارة الراهنة. اليوم وحدها الجدوى والفاعلية والنتيجة هي المؤثرة».
وفي بداية الحرب، وزع فولوديمير يرمولاونكو برفقة زوجته المساعدات والمواد الغذائية على المقاتلين. وخلال تنقلاته بين مختلف المدن والجبهات، انتبه إلى أن المقاتلين يحتاجون إلى سيارات لنقل الجرحى، أو لتغيير سريع لمواقعهم. لذلك أمضى أشهراً لجمع التبرعات بهدف شراء سيارات. كما أنه سافر إلى المناطق الأشد تضرراً من الحرب، لمواساة أهلها بمحاضرات ثقافية وفكرية بإمكانها أن تسلحهم معنوياً لمواجهة المصاعب. وفي الأثناء؛ التقى كثيراً من المثقفين المعروفين ليجري معهم حوارات مهمة عن الأوضاع في بلاده، وفي العالم. كما التقى أكاديميين يساهمون في المجهود الحربي من دون أن ينقطعوا عن أداء مهامهم في مجالاتهم الخاصة. وهو يقول إن التجارب التي اكتسبها إلى حدّ هذه الساعة أكدت له أن البشر العاديين يمكن أن يتحولوا إلى «كائنات خارقة» في الأزمنة الصعبة. وهذا ما يتأكد لنا من خلال روايات كثيرة كتبت من وحي الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن خلال حروب أخرى أيضاً. وهو يقول: «في كل مكان هناك أناس بسطاء للغاية بإمكانهم أن يحققوا المعجزات. وهؤلاء يمتلكون حكمة كبيرة عن العالم المادي، ويقدمون مساعدات كبيرة في مواجهة مختلف المصاعب».
ويروي فولوديمير يرمولاونكو قصة شبيهة بقصة «عجوز على الجسر»، التي يحكي فيها هيمنغواي قصة عجوز إسباني يواجه بصبر وحكمة زحف جنود الجنرال فرنكو على مدينته. وهو يقول إن شيخاً متقاعداً من مدينة صغيرة تقع بالقرب من العاصمة كييف وتعرضت لقصف روسي عنيف في بداية الحرب، انتسب إلى «الدفاع الوطني»، وأطلق صاروخاً على شاحنة عسكرية روسية، مُحدثاً انفجاراً هائلاً عطّل تقدم القوات الروسية.
وفي الحوار الذي أجرته معه مجلة «الفلسفة» الفرنسية، أشار إلى أن الأوكرانيين أبدوا منذ اليوم الأول للغزو الروسي أنهم عازمون على الدفاع عن وطنهم؛ «لذلك أقاموا متاريس في مداخل العاصمة كييف وبقية المدن، وتوحدوا لمواجهة الجيش الغازي. وهذا يدلّ على أن أوكرانيا ليست رهينة هذا أو ذاك، وليست خاضعة لسلطة سياسية مُعينة، بل هي أمّة مُكوّنة من رجال ونساء عازمين جميعاً على حمايتها». ويرى فولوديمير يرمولاونكو أن الروس «غيّروا طريقتهم بعد مرور سنة على الغزو. والآن هم يختارون موت جنودهم على تدمير دباباتهم، لذلك هم يرسلونهم بأعداد كبيرة لمواجهة الأوكرانيين». مع ذلك؛ هو يقرّ بأن بلاده «ليست قادرة وحدها على إلحاق هزيمة بالجيش الروسي. وإذا ما تقاعس (حلف شمال الأطلسي) عن مساعدتها في هذا الظرف العصيب، فإن روسيا سوف تجرؤ على غزو بلدان أخرى بهدف تحقيق حلم بوتين في إعادة بناء إمبراطورية القياصرة». ويضيف: «روسيا آخر إمبراطورية في أوروبا. وأزمتها بدأت مع مطلع القرن التاسع عشر بعد أن حصلت كل من بولونيا وفنلندا وبلدان بحر البلطيق على استقلالها. وخلال الحقبة الشيوعية، حاول الروس استرداد مجدهم الإمبراطوري، إلا إنهم فشلوا في ذلك. والآن مع بوتين حان دور أوكرانيا ومولدوفيا وجورجيا للتحرر من النفوذ الروسي لبناء مجتمعات جديدة تقوم على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان». ويختم يرمولاونكو حواره مع مجلة «الفلسفة» الفرنسية قائلاً: «لست مُتعباً ولا يائساً. فقط نحن أدركنا أنه لا خيار لنا، وأنه من الضروري أن نحمي وطننا. والحياة التي نعيشها منذ بداية الغزو ليست حياة طبيعية بالتأكيد... فنحن ليس بإمكاننا أن نخطط لأي شيء؛ لنهاية أسبوع أو لعطلة. مثل هذه التخطيطات أصبحت مُنعدمة في حياتنا منذ بداية الغزو. ونحن نعمل طوال الوقت، وحتى في الليل. ومشاعرنا ليست مستقرة، وهي في ترجرج مستمر. غير أن كل هذا لا يمنع من التمتع بلحظات سعادة قصيرة. وهذه الحياة التي باتت هشة تظل ثمينة بالنسبة إلينا جميعاً».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

مهرجان الرياض للمسرح ‬⁩يطلق دورته الثانية بـ20 عرضاً وتكريم السباعي

نجل أحمد السباعي يتلقى التكريم من المهرجان (واس)
نجل أحمد السباعي يتلقى التكريم من المهرجان (واس)
TT

مهرجان الرياض للمسرح ‬⁩يطلق دورته الثانية بـ20 عرضاً وتكريم السباعي

نجل أحمد السباعي يتلقى التكريم من المهرجان (واس)
نجل أحمد السباعي يتلقى التكريم من المهرجان (واس)

انطلق، الأحد، مهرجان الرياض للمسرح بدورته الثانية، ويستمر لاثني عشر يوماً من العروض المسرحية المتنوعة، ومنصة محورية لدعم المسرحيين السعوديين، واكتشاف وتطوير المواهب الناشئة، والاحتفاء بالأعمال المميزة.

وشهد حفل افتتاح الدورة الثانية من المهرجان تكريم شخصية هذا العام؛ وهو الأديب والصحافي والمؤرخ الراحل أحمد السباعي، الذي اشتُهر بلقب «أبو المسرح السعودي»، وجَرَت تسميته شخصية العام في المهرجان؛ تقديراً لإسهاماته في إدخال المسرح السعودية وتطوير الفنون في المملكة.

وقُدِّم على خشبة مسرح مركز المؤتمرات بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن بمدينة الرياض حيث يقام المهرجان، عرضٌ مسرحي يحكي انطلاقة المسرح في المملكة على يد الرائد أحمد السباعي، مطلع الستينات الميلادية من القرن العشرين.

والسباعي، المولود عام 1905، عمل، مطلع مشواره العملي، في قطاع التعليم، وشرع خلالها في الكتابة بصحيفة «صوت الحجاز»، التي تولّى رئاسة تحريرها لاحقاً، وأسس صحيفة «الندوة»، ثم مجلة «قريش» الأدبية.

ويسجَّل للسباعي أنه كان من أوائل الدائبين على إنشاء المسرح السعودي في بواكيره، وذلك في مطلع الستينات، واستقطب مدربين ذوي دراية وخبرة، للتمثيل من مصر، وجهز عرض الافتتاح، لكن محاولته لم تكلَّل بالنجاح وقتها، وتُوفي عام 1984. ‏

من حفل افتتاح المهرجان في دورته الثانية بالرياض (واس)

تطلعات طموحة للإبداع

تمثل الدورة الثانية للمهرجان امتداداً للنجاح الذي حققته الدورة الأولى، مع تطلعات طموحة لتقديم مزيد من الإبداع والتميز في السنوات المقبلة. يشارك، في نسخة هذا العام، 20 عرضاً سعودياً مع برنامج يشمل 3 ندوات، و6 ورش عمل، و20 قراءة نقدية، وتتوزع العروض المشارِكة على مسارين؛ أحدهما للمسرح المعاصر ويضم 11 عرضاً، والآخر للمسرح الاجتماعي ويضم 9 عروض.

وقال سلطان البازعي، الرئيس التنفيذي للهيئة، إن مهرجان الرياض للمسرح في دورته الثانية يمثل إنجازاً جديداً لمسيرة المسرح السعودي، وانطلاقة نحو آفاق مسرحية مشرقة. وأضاف: «يجسد المهرجان قيمنا المشتركة، ونهدف إلى أن يكون المسرح السعودي مسرحاً يعكس هويتنا وثقافتنا، في ظل دعم القيادة الرشيدة، ونسعى إلى تحقيق مزيد من النجاحات». وأفاد البازعي بأن المهرجان سيشهد مشاركة 20 عملاً مسرحياً في مسارين مختلفين، إضافة إلى 3 ندوات حوارية، و3 ورش عمل، و20 قراءة نقدية، خلال 10 أيام من الإبداع المسرحي في تجربة ثرية واستثنائية. من جهته، أشار الدكتور راشد الشمراني، مدير المهرجان، إلى أن مهرجان الرياض للمسرح يمثل خطوة نوعية لتعزيز مكانة المسرح في المشهد الثقافي السعودي، موضحاً أن المهرجان يهدف إلى اكتشاف الطاقات الإبداعية ودعمها، إلى جانب تطوير المحتوى المسرحي وتوسيع قاعدة الجمهور، بما يُعزز دور المسرح بوصفه منصة للحوار والتواصل الإنساني، ويسهم في بناء مجتمع واعٍ بفنون الأداء والمسرح. وخلال الحفل، جرى تكريم لجنة الفرز والمشاهدة في المهرجان التي كان لها دور بارز في الدورة الحالية، وضمت نخبة من الأسماء وهم: حمد الرميحي، وعبد الناصر الزاير، وعبد الله ملك، والدكتور عزيز خيون، والدكتور خالد أمين. ويشهد المهرجان عرض مسرحيات الفرق المتأهلة في مسابقة المهرجان، والقادمة من 8 مدن، بالإضافة إلى مجموعة من الفعاليات الثقافية؛ منها ندوات وقراءات نقدية وورشة عمل، كما سيقدم المهرجان عروضاً يومية متنوعة وثقافية تعكس التنوع والإبداع.