للمرة السادسة، نزل مئات الآلاف من الفرنسيين في مظاهرات جرارة في باريس والمدن الرئيسية والمتوسطة؛ احتجاجاً على مشروع القانون الحكومي لتغيير نظام التقاعد، وأهم ما فيه رفعه من سن الـ62 عاماً وهو المعمول به حالياً إلى سن الـ64 عاماً. وترافقت المظاهرات مع حركة إضراب واسعة شملت قطاعات أساسية في الاقتصاد الفرنسي، مثل النقل والتعليم والصحة والوظائف الحكومية والكهرباء والطاقة... والجديد فيها، أن الإضرابات ستتواصل في العديد منها، فيما يبدو عملية تصادمية مع الحكومة الرافضة التخلي عن خطتها.
لذا؛ من الواضح أن هناك شرعيتين تتصادمان: شرعية الحكومة المنبثقة عن انتخابات ديمقراطية وحائزة ثقة البرلمان؛ وشرعية شعبية تظهر من خلال التعبئة في الشارع والرافضة للخطط الحكومية. «الشرعية الشعبية» ترى أن أمامها عشرة أيام على الأكثر من أجل إلزام الحكومة بالتراجع، أو على الأقل تعديل بعض بنود مشروع القانون، الذي يستكمل مجلس الشيوخ مناقشة بنوده حتى نهاية الأسبوع الحالي. ووفق المسار الراهن، فإن الخطوة البرلمانية التالية ستكون إنشاء لجنة مشتركة من مجلسي النواب والشيوخ، في 15 الشهر الحالي للاتفاق على الصيغة النهائية لمشروع القانون الذي يمكن أن يطرح منذ اليوم التالي على التصويت في مجلس النواب ثم في مجلس الشيوخ، وبعدها يصدره رئيس الجمهورية ليصبح نافذاً. وإذا لم تنجح النقابات الثماني الرئيسية، التي تقود الاحتجاجات في لي ذراع الحكومة ومن خلفها رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، فإن مشروع القانون سيتحول قانوناً وبعدها سيكون التراجع عنه بالغ الصعوبة. تفيد استطلاعات الرأي بأن أكثرية من الفرنسيين تعارض القانون الجديد، إلا أنها في الوقت نفسه تعترف بأنه سيتم إقراره. وعندها، ستتراجع التعبئة الشعبية ويكون ماكرون ومعه رئيسة الحكومة إليزابيث بورن حققا هدفهما، على الرغم من أن حكومته لا تتمتع بالأكثرية المطلقة في مجلس النواب. فإن دعم غالبية نواب حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل سيوفر الأصوات التي يحتاج إليها لتمرير القانون الجديد، ضارباً بعرض الحائط الاعتراضات التي عبّر عنها الشارع. وكانت لافتة أمس المطالبة بأن «يستمع» ماكرون لمطالب المتظاهرين والمضربين، وألا يكتفي بتمضية الوقت بأقل الخسائر حتى يتحول مشروع القانون أمراً واقعاً.
وفي حين قالت بورن أول من أمس: إن «البرلمان هيئة مهمة وعندما تُقرّ القوانين تحت قبته، فإنها تحصل عندها على مصادقة ديمقراطية»، جاء الرد عليها من النقابي لوران أسكور المنتمي إلى نقابة الموظفين الحكوميين الذي نبّه من أن «التعبئة لن تنتهي مع إقرار المشروع»، مضيفاً أن «القانون الذي يُقرّ يمكن أن يلغى لاحقاً».
وقبل انتهاء المظاهرات واجتماع القادة النقابيين لمناقشة تتمة الحراك، علم أنه ستطلق دعوة جديدة للتعبئة يوم السبت المقبل، أي يوم تصويت مجلس الشيوخ على مشروع القانون. كذلك انطلقت دعوات لمواصلة الإضرابات في قطاعات رئيسية مثل النقل العمومي والطاقة والتعليم. واعتبر النقابيون، أن تعبئة يوم أمس تجاوزت ما شهدته فرنسا في 31 يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث نزل إلى الشوارع ما يزيد على 2.5 مليون شخص، وفق أرقام النقابات. وكما في كل مرة، فإن هذه الأرقام ترتفع مع النقابات وتنخفض مع الشرطة. ولكن مشاهدة المظاهرات الرئيسية، التي حصلت أمس في باريس ومرسيليا وليون ورين ونيس وبايون، وغيرها من المدن الكبرى والمتوسطة، تبين أن التعبئة تطال الفئات العمرية كافة من المتقاعدين إلى تلامذة المدارس، كما أن عائلات بأكملها نزلت بدورها إلى الشوارع لتسير في المظاهرات. وفي الوظيفة العمومية وحدها، تفيد الأرقام الرسمية أن ما لا يقل عن 650 ألاف موظف توقفوا عن العمل، وأن 42 في المائة من موظفي وعمال شركة كهرباء فرنسا توقفوا عن العمل أمس. والحال نفسه مع محطات تكرير النفط التابعة لشركة «توتال أنرجيز» التي توقفت جميعها عن العمل بينما عمدت شركات كبرى مثل «ستيلانتيس» إلى إقفال عدد من مصانعها والطلب من الموظفين والعمال الامتناع عن الالتحاق بمراكز أعمالهم حتى لا يبان الإضراب داخلها.
واستبق لوران بيرجيه، أمين عام نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للعمل، وهي عادة من النقابات الأكثر اعتدالاً انطلاق المظاهرة الكبرى في باريس للإشادة بـ«التعبئة التاريخية التي حصلت قياساً لما شهدته فرنسا في الأربعين أو الخمسين سنة الماضية»، مؤكداً أن تعبئة الأمس تجاوزت بـ20 في المائة ما جرى في 31 يناير الماضي. وجاراه في ذلك أمين عام الكونفدرالية العامة للعمل، فيليب مارتينيز القريب من الحزب الشيوعي، الذي أكد أن يوم أمس هو «أقوى يوم تعبئة منذ بداية الحركة الاحتجاجية». وبحسب مارتينيز، فإن الحكومة «لا تستطيع أن تصم أذنيها عما يجري»، منبهاً من سعي الحكومة لفرض الأمر الواقع الذي «سيشعل برميل البارود». واعتبر جان لوك ميلونشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية»، أنه يتعين على رئيس الجمهورية أن «يجد مخرجاً» من الطريق المسدودة، مقترحاً أن يحل البرلمان أو أن يجري استفتاءً شعبياً على مشروع القانون. وكانت النقابات، ومن ورائها أحزاب اليسار والخضر، تهدف إلى «شل دورة الحياة» في البلاد كوسيلة ضغط على السلطات وأيضاً على النواب وأعضاء مجلس الشيوخ. وإلى جانب الحركة الاحتجاجية الراهنة، ستشهد الأيام القليلة المقبلة تحركات مختلفة، أولها اليوم (الأربعاء)، حيث من المرتقب أن تحصل «إضرابات نسائية» بمناسبة اليوم العالمي لحقوق المرأة، وتليه يوم الخميس حراك الشباب، والجمعة مظاهرات وإضراب وطني للدفاع عن المناخ، بينما يوم السبت تعود التعبئة ضد خطة الحكومة بشأن نظام التقاعد.وأصابت إضرابات أمس قطاعات النقل (سكك حديدية، مترو، حافلات) والنقل الخاص بما في ذلك النقل الجوي والعبّارات، والمدارس بمختلف مستوياتها، وقطاع الطاقة والإعلام الرسمي وجمع النفايات والمصافي. وأفادت بعض الأرقام الرسمية، بأن 32 في المائة من أساتذة الابتدائي والثانوي امتنعوا عن العمل في حين نقابة المعلمين أشارت إلى 60 في المائة. وقطعت بعض الطرق الرئيسية بالحواجز والشاحنات.
وفي نهاية المسيرات في باريس وليون وورين حصلت بعض المناوشات بين مجموعات من المتظاهرين ورجال الأمن وهي أمر تقليدي في فرنسا. إلا أن الجميع أشاد منذ البداية بالتنظيم الجيد واحترام النظام وهو ما التزمت به النقابات. وحشدت وزارة الداخلية 10500 رجل أمن في كل أنحاء فرنسا، منهم 4200 لباريس وحدها. ومساءً، كان السؤال يدور حول ما تنوي النقابات الدعوة إليه بخصوص مواصلة الإضرابات في عدد من القطاعات التي على رأسها قطاعات النقل والتعليم والطاقة.
فرنسا: الشارع مجدداً في مواجهة الحكومة والبرلمان
النقابات تشيد بـ«التعبئة التاريخية» ضد قانون التقاعد
فرنسا: الشارع مجدداً في مواجهة الحكومة والبرلمان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة