يُعدّ محافظ «البنك المركزي التونسي»، مروان العباسي، أحد أبرز خبراء «البنك الدولي» في شمال أفريقيا طيلة عقدين، وواحداً من أبرز مسؤولي الدولة المكلفين منذ سنوات محاولة «كسر الحصار المالي الدولي» لتونس. وكان العباسي قد رُشّح بعد منعرج 25 يوليو (تموز) 2021 لرئاسة الحكومة بـ«ضوء أخضر» من نقابات رجال الأعمال والعمال وبعض السفارات الغربية والشركاء الاقتصاديين الأجانب. وهو من أكثر الشخصيات السياسية التي استقبلها الرئيس التونسي قيس سعيّد، وعقد جلسات عمل معها منذ توليه مقاليد الأمور في «قصر قرطاج». إلا أن سعيّد وافق لاحقاً على اقتراح إسناد رئاسة الحكومة إلى امرأة، فكلف العباسي أن يتصدر، مع «الثلاثي الاقتصادي»، في حكومة نجلاء بودن، جهود توفير حاجيات الدولة والبلاد إلى تمويلات خارجية ازدادت الحاجة إليها منذ استئناف مفاوضات الحكومة مع «صندوق النقد الدولي»، في 2016 ثم 2018.
منذ تولي نجلاء بودن رئاسة الحكومة التونسية، صار مروان العباسي ضمن «المطبخ المصغر» حول رئيسة الحكومة، الذي يضم كذلك وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد، ووزيرة المالية سهام بوغديري منصية.
ويتميز الثلاثة بكونهم من خريجي جامعات تونسية وفرنسية في الاقتصاد والمالية، وأيضاً بكثرة تحركاتهم في اتجاه الصناديق العربية والأفريقية والدولية لجذب المستثمرين، والتوصل معها لتسوية معضلات عجز الموازنة والتضخم المالي وصناديق الدعم وإفلاس كثير من المؤسسات العمومية.
أيضاً يقود العباسي مع هذا «الثالوث» المفاوضات المضنية مع «صندوق النقد الدولي» ومع «البنك العالمي» و«البنك الأوروبي للاستثمار» والصناديق العربية والأفريقية والإسلامية للتنمية. ولقد عُرِف الرجل بابتسامته الدائمة وهدوئه الكبير، بما في ذلك خلال المؤتمرات الصحافية والاجتماعات التي يشارك فيها عشرات الوزراء ورجال الأعمال والخبراء، وتتعرض فيها قرارات مجلس إدارة «البنك المركزي» إلى انتقادات لاذعة، مثل رفع معدلات الفائدة والإجراءات «اللاشعبية» التي تؤدي إلى تراجع الإقبال على القروض البنكية عامة وقروض الاستهلاك خاصة.
- من «البنك الدولي» إلى ليبيا
التحق مروان العباسي بفريق «البنك الدولي»، بعد نحو عقدين من التدريس في إحدى أبرز جامعات النخبة الاقتصادية في تونس، وهي «المعهد الأعلى للتجارة» في قرطاج، وبعد مشاركات عديدة في مهمات استشارية وإدارية في مؤسسات اقتصادية وعلمية تونسية وعربية ودولية.
في يناير (كانون الثاني)، عُيّن العباسي في «مجموعة البنك الدولي» برتبة «خبير اقتصادي أول ومنسق إقليمي للبرامج في ليبيا». وبعد سنتين، وتحديداً عام 2010، اختاره «البنك الدولي» ممثلاً رسمياً له لدى ليبيا، ثم رُقّي عام 2012 إلى مرتبة مدير «مكتب البنك الدولي» لدى ليبيا.
بفضل هذه المسؤوليات في «البنك الدولي» ومكتبه في ليبيا، أصبح العباسي قريباً من موطنه (تونس)، ومن مسؤولي المؤسسات المالية الإقليمية والدولية المسؤولة عن ملفات كامل شمال أفريقيا، بما فيها تونس.
- مقرّب من السبسي وسعيّد
بعد نحو 10 سنوات في «البنك الدولي»، اختارت السلطات التونسية مروان العباسي لتعويض محافظ «البنك المركزي»، الشاذلي العياري، وزير الاقتصاد الأسبق الذي تقدمت به السن وأتعبه المرض.
في ذلك الحين، رشحه الرئيس التونسي الراحل، الباجي قائد السبسي، ورئيس حكومته (يومذاك)، يوسف الشاهد (يوم 7 فبراير 2018) لرئاسة «البنك المركزي» و«السلطة النقدية»، التي أصبحت، منذ 2016، وفق القانون التونسي الجديد، «سلطة مستقلة» عن السلطة التنفيذية، رغم خضوعها لرقابة البرلمان والهيئات العليا الرقابية للدولة. ولقد رحَّبت أغلب الأطراف وقتها بتعيين العباسي محافظاً جديداً.
البرلمان، في الواقع، صادَق، خلال أسبوع واحد، على قرار التعيين الصادر عن رئيس الحكومة، الشاهد. ولم يعترض عليه إلا 18 نائباً، بينما احتفظ 5 نواب بأصواتهم، ما مكَّنه من أن يؤدي اليمين الدستورية، بعد يوم واحد، في «قصر قرطاج»، أمام الرئيس قائد السبسي.
منذ ذلك الحين، حافَظ العباسي على موقعه، خصوصاً بعد انتخابات خريف 2019 الرئاسية والبرلمانية، ما أكد شعبيته وتقدير أغلب الأطراف السياسية الوطنية له.
ومن ثم، تصدر «السلطة النقدية» مجدداً في حكومتي إلياس الفخفاخ؛ من فبراير (شباط) إلى أغسطس (آب) 2020، وهشام المشيشي؛ من سبتمبر (أيلول) 2020 إلى 25 يوليو (تموز) 2021... وأخيراً في عهد حكومة المهندسة نجلاء بودن، التي أدت اليمين الدستورية يوم 29 سبتمبر 2021.
بذا يكون العباسي قد نجح في أن يكون «صديقاً» لكل الأطراف السياسية والحكومية والبرلمانية، ومقرباً وموثوقاً من كل الرؤساء ورؤساء الحكومات خلال السنوات الأخيرة.
- «الثالوث الاقتصادي»
على صعيد الصعود السياسي، رشحت وسائل الإعلام التونسية مراراً العباسي لرئاسة الحكومة، بينما دافع آخرون عن بقائه على رأس «البنك المركزي»، الذي أصبحت لديه صلاحيات واسعة جداً منذ مصادقة البرلمان والحكومة على القانون الذي نص على «استقلاليته»، بل إن بعض قرارات مجلس إدارة «البنك المركزي» اصطدمت، أواخر عهد حكومة يوسف الشاهد (2016 - 2019)، وفي عهد حكومة هشام المشيشي (مطلع 2021)، بقرارات وزارة المالية والحكومة، لأن القانون يعطي محافظ «البنك المركزي» اليد الطولى في الدفاع عن احتياطي البلاد من العملة الوطنية والعملات الأجنبية. وتبين أن صلاحيات رئيس «السلطة النقدية» كانت مراراً أكبر من كثير من صلاحيات الوزراء وقصرَي الرئاسة في القصبة وقرطاج.
- بعد حل البرلمان وحكومة المشيشي
لكن الأمور تغيرت بعد منعرج 25 يوليو 2021 وحلّ البرلمان وحكومة هشام المشيشي، وبالتالي، تركُّز غالبية صلاحيات السلطات الثلاث في قصر الرئاسة بقرطاج؛ فقد نظّم الرئيس سعيّد سلسلة من المقابلات وجلسات العمل مع العباسي بمفرده، أو بحضور زميليه في «الثالوث الاقتصادي»، سمير سعيد وزير الاقتصاد والتخطيط، وسهام بوغديري منصية وزيرة المالية.
ثم عزز العباسي موقعه في المؤسسات العليا لصنع القرار في الدولة، بعد ما أبداه من تعاون وتجاوب مع الرئيس سعيّد ورئيسة حكومته، بودن، في سباقهما ضد عقارب الساعة لتوفير «حاجيات موازنة الدولة المالية»، ووضع حد لـ«الحصار» المالي الدولي الذي بررته بعض العواصم الأوروبية والغربية برغبتها في «تشجيع السلطات التونسية على العودة إلى المسارين الديمقراطي والبرلماني».
وعلى الرغم من اعتراضات كثيرة من الخبراء الاقتصاديين، مثل معز حديدان، وتحفُّظ المسؤولين السابقين عن البنوك، مثل عز الدين سعيدان، وافق العباسي وفريقه في مجلس «البنك المركزي» على التمادي في توفير «السيولة المالية والنقدية» للحكومة، عبر تسهيلات الحصول على مزيد من القروض من البنوك التونسية.
وفي ظل «الحصار المالي» الكبير المفروض على تونس، أصبحت الحكومة توفر قسطاً كبيراً من حاجياتها من الدينار التونسي والعملات الدولية بـ«ضوء أخضر» من العباسي وإدارة «البنك المركزي»، على الرغم من التقارير والدراسات التي تحذر من «العواقب المالية والسياسية الخطيرة لسياسة» تأجيل مواعيد استرداد البنوك لديونها لدى الدولة إلى عام 2033.
في أي حال، الانتقادات الموجَّهة لمروان العباسي وللرئيس سعيّد، بسبب هذا الاعتماد «المبالغ فيه» (في نظر البعض) على احتياطي البنوك المحلية من العملات الوطنية والدولية، لم تنل من موقعه في مؤسسات صُنع القرار في البلاد، ولا من تأثيره السياسي ولا توافقه مع وزيرة المالية ووزير التخطيط الاقتصاد في «الثالوث الاقتصادي» الذي تعتمد عليه رئاسة الجمهورية ورئيسة الحكومة. والدليل تكليفه أخيراً بقيادة مفاوضات جديدة مع كبار مسؤولي «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» في واشنطن، ثم خلال «مؤتمر دافوس» بسويسرا، وفي «قمة الحوكمة» بدبي.
- مؤهلات علمية لافتة
لعل من أبرز نقاط القوة عند مروان العباسي أنه من بين الشخصيات القليلة جداً التي تتمتع بخبرة اقتصادية عريضة، أكاديمياً وميدانياً، خلافاً لكل رؤساء الحكومات منذ 2011، وجلّ وزراء المالية والاقتصاد السابقين الذين تخرجوا في المدارس العليا للمهندسين والتكنوقراط؛ فقد حصل العباسي على درجة الأستاذية في الاقتصاد والتخطيط من كلية العلوم الاقتصادية والتصرّف بتونس، ثم نال شهادة الماجستير في الرياضيات الاقتصادية والاقتصاد المتري من جامعة بانتيون - أساس في العاصمة الفرنسية، باريس. ثم نال الماجستير في الاقتصاد الزراعي من «المعهد الوطني للبحوث الزراعية» بجامعة باريس الأولى - بانتيون سوربون. وحصل من الجامعة نفسها لاحقاً على الدكتوراه في العلوم الاقتصادية.
هذه المؤهلات الأكاديمية جعلت من مروان العباسي سياسياً واقتصادياً متخصصاً وخبيراً، بخلاف مَن كانوا يوصَفون برموز «دولة الهواة»، التي أسهبت في الحديث عنها المعارضة والنقابات. وكان الأكاديمي فتحي اليسير قد تطرق إليها في كتاب مطوَّل ضمَّنه قراءة نقدية لأداء حكومات ما بعد «ثورة يناير 2011».
وبالإضافة إلى هذه الخبرة الاقتصادية والميدانية، لا يُصنَّف العباسي من بين المسؤولين الذين أُثروا بعدما تحمّلوا مسؤوليات عليا في البلاد، ضمن ما أصبح يوصَف بـ«المافيات الجديدة» أو «دولة الغنيمة»، على حد تعبير الإعلامي والوزير السابق الطيب اليوسفي، الذي ألَّف بدوره كتاباً تحت هذا العنوان لتقييم غلطات السياسيين وصُنّاع القرار خلال العقد الماضي.
- بين الجامعات والإدارة
في مسار موازٍ، مع الصبغة العلمية والأكاديمية لمروان العباسي، فإن خبراته قبل وصوله إلى رئاسة «البنك المركزي» لم تقتصر على تجاربه في «البنك الدولي».
ففي عام 1997، عُيّن مستشاراً في «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات»، وهو مؤسسة دراسية تونسية دولية تنظم سنوياً مؤتمرات اقتصادية وعلمية يشارك فيها مئات من كبار رجال الأعمال ورؤساء الحكومات ووزراء الاقتصاد والمالية ومسؤولي القطاعات الاقتصادية والشؤون الاجتماعية في تونس والعالم العربي وأميركا وأوروبا والعالم أجمع.
كذلك عُيّن العباسي خبيراً في «المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية»، وهو مؤسسة علمية استشارية تابعة لرئاسة الجمهورية منذ تأسيسها قبل 30 سنة. ويتعاون مع هذا المركز نخبة من كبار السياسيين والخبراء من عدة اختصاصات اقتصادية وجيو - استراتيجية وسوسيولوجية.
أيضاً خاض الاقتصادي المحنك تجربة العمل في المؤسسات الحكومية لمدة قصيرة؛ إذ عُيّن قبل «ثورة 2011» مستشاراً اقتصادياً لوزير التجارة والسياحة والصناعات التقليدية مكلفاً شؤون تنسيق مشاريع تنمية الصادرات التي يمولها «البنك الدولي».
وفي قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، اكتسب خبرة دولية عندما عُين عام 1993 أستاذاً زائراً في «المعهد الكاثوليكي للدراسات التجارية العليا» بالعاصمة البلجيكية، بروكسل، ثم عام 2005، عُين أستاذاً زائراً في «معهد رنسيلير البوليتكنيكي»، وهو جامعة أميركية خاصة مرموقة في ولاية نيويورك، ثم عام 2009 في جامعة «تسوكوبا» باليابان.
- الاستقلالية عن الأحزاب
في المرحلة الانتقالية الجديدة التي تمر بها تونس، والتي تعمقت فيها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يمكن القول إن الهوة اتسعت بين كبار صناع القرار الرسمي والمعارضة والنقابات. وصارت معظم قيادات الحكم والمعارضة والنقابات تعترف بكون التحديات الأخطر التي تواجه البلاد اليوم تنموية اقتصادية اجتماعية سياسوية فوقية.
وحقاً، أكد عزوف نحو 88 في المائة من التونسيين عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية الجديدة، وفي المظاهرات والاحتجاجات التي تنظمها الأحزاب والنقابات أن الأولوية المطلقة بالنسبة لغالبية الشعب ورجال الأعمال والنخب ما عادت الانخراط في المعارك السياسية الفوقية... بل تحسين المؤشرات الاقتصادية والمالية والتنموية.
في هذا الإطار، يطالب كثير من السياسيين المحسوبين على المعارضة، وأيضاً أنصار مشروع الرئيس قيس سعيّد، بأن تكون الحكومة المقبلة اقتصادية في المقام الأول، وأن تسند رئاستها لشخصية مالية اقتصادية وطنية لديها أوراق رابحة دولياً.
ومن هنا، عاد الحديث يتردد عن ترشيح مروان العباسي لرئاسة الفريق الحكومي المقبل، مع الإشارة إلى أنه في هذه الأثناء غيّر الرئيس سعيّد 5 وزراء في الحكومة الحالية. وجاء التغيير وسط أنباء عن تغييرات أخرى مبرمجة قد تشمل حقائب كثيرة.