سيلفيو برلسكوني، الاسم الأكثر حضوراً في المشهد السياسي الإيطالي منذ ثلاثة عقود، والشخصية الإيطالية الأكثر إثارة للجدل في الداخل والخارج، يدنو من نهاية مسيرته السياسية، التي بدأت مطالع تسعينات القرن الماضي، عندما أسس حزب «فورزا إيطاليا»، الذي بدّل اسمه ثلاث مرات قبل أن يعود ليستقر على التسمية الأولى، وتولّى خلالها رئاسة الحكومة الإيطالية ثلاث مرات، فيما كان يخضع لما يزيد على 40 ملاحقة قضائية بتهم الفساد والاحتيال، والتهرب من دفع الضرائب، ورشوة القضاة والشهود، فضلاً عن الفضائح الجنسية التي غالباً ما كان يتباهى بها للتدليل على ذكوريته ومواهبه في الغواية.
درج برلسكوني، خلال وجوده على رأس الحكومة الإيطالية، على تعيين وزير للعدل مكلّف بصورة غير رسمية بتأجيل النظر في الدعاوى التي تلاحق «الفارس»، إلى أن تتجاوز مواقيت تقادم التهم الموجهة إليه، بحيث لم تصدر بحقه سوى إدانة نهائية واحدة بتهمة تزوير البيانات الضريبية.
وفي أواخر الأسبوع الماضي، وبعد أن كانت الأدلة الدامغة وعشرات الشهادات تنذر بإدانته بتهمة رشوة الذين كانوا يشاركونه حفلاته الجنسية الصاخبة مع قاصرات، صدر الحكم النهائي بتبرئته استناداً إلى مخالفات وأخطاء في الإجراءات القضائية. لكن متاعب برلسكوني هذه المرة جاءت من جهة أخرى؛ فـ«الحزب الشعبي الأوروبي»، الذي يضمّ أحزاب اليمين المحافظ قرّر نبذه، وبدأ يمهّد لإبعاده، في الوقت الذي كانت فيه رئيسة الحكومة الإيطالية جيورجيا ميلوني، وحليفته في الائتلاف اليميني، تردد في مجالسها الخاصة أنها قد ضاقت به ذرعاً، ولم تعد مستعدة للسماح له بزرع الألغام أمامها.
ومنذ نزوله إلى الملعب السياسي، كما يحلو له أن يردد، إلى اليوم، لم يتوقف برلسكوني عن لعب دور حاسم في السياسة الإيطالية. لكن التغيير الأساسي هو أن حزب «فورزا إيطاليا» الذي أسسه في عام 1994، والذي يمثّل «الحزب الشعبي الأوروبي» في إيطاليا، ضمرت شعبيته في السنوات الأخيرة إلى أن أصبح بقاؤه مرهوناً بصحة مؤسسه، الذي لم يعد يجد سبيلاً إلى الظهور سوى إحراج حليفته رئيسة الحكومة، التي كانت قد تولّت أول منصب عام لها كوزيرة للشباب في حكومته الثانية.
والمفارقة أن برلسكوني الذي يمثّل الجناح المعتدل في الحكومة الائتلافية التي تضمّ حزب «الرابطة» اليميني المتطرف الذي يتزعمه ماتّيو سالفيني، وحزب «إخوان إيطاليا» الذي قام على أنقاض الحركة الفاشية وترأسه ميلوني، قد عثر في الحرب الدائرة في أوكرانيا على الخنجر المناسب الذي يصوبّه إلى ظهر رئيسة الحكومة، كلما شعر بأنه مهمّش، أو أن آراءه لا يؤخذ بها.
ففي الأسبوع الماضي، وبعد أن أدلى بصوته في الانتخابات الإقليمية، سأله الصحافيون عن رأيه في اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والمستشار الألماني أولاف شولتس، واستبعدت عنه رئيسة الحكومة الإيطالية جيورجيا ميلوني، فردّ بقوله: «لو كنت رئيساً للوزراء لما اجتمعت أبداً بزيلينسكي، ولا تحدثت إليه، فيما نحن شهود على دمار بلاده ومقتل جنوده ومواطنيه». ثم أضاف برلسكوني، الذي تربطه صداقة وطيدة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن زيلينسكي يجب أن يرمي سلاحه لوقف المزيد من إهراق الدماء، متغاضياً عن أن بلاده هي التي تعرضت للاجتياح الروسي، ليطالب بعد ذلك بأن تكفّ الولايات المتحدة عن تمويل شراء الأسلحة والذخائر لأوكرانيا قائلاً: «كي نصل إلى السلام، على الرئيس الأميركي جو بايدن أن يتحدث إلى زيلينسكي ليقول له: «في تصرفك، بعد نهاية الحرب، خطة مارشال لإعمار أوكرانيا، لكن بشرط أن تعلن غداً وقف إطلاق النار، وإلا فإننا سنقطع عنك كل المساعدات المالية والعسكرية».
هذه التصريحات التي أحرجت رئيسة الحكومة الإيطالية، التي أكّدت مراراً على دعمها التام لأوكرانيا، واصطفافها بجانب التحالف الغربي، كان لها وقع القنبلة في أوساط «الحزب الشعبي الأوروبي»، الذي كان حتى الآن يغضّ الطرف عن شطحات برلسكوني، وكان قد برّر تحالفه مع اليمين المتطرف لتشكيل الحكومة، وهو أمر لم يحدث في أي بلد أوروبي آخر. وعندما ارتفعت أصوات الأحزاب اليسارية تندد بتصريحات برلسكوني في البرلمان الأوروبي الأسبوع الفائت، كان رئيس «الحزب الشعبي الأوروبي» مانفريد فيبير أول المصفقين لها، ليعلن بعد ساعات عن إلغاء المؤتمر الأوروبي للحزب، الذي كان مقرراً انعقاده في مدينة نابولي بدعوة من برلسكوني.
وفي غضون ذلك، بدأ المحافظون الأوروبيون بتوجيه رسائل مباشرة إلى رئيسة الحكومة الإيطالية، التي سبق أن ألمحوا إلى استعدادهم لاحتضان حزبها ضمن الحزب الشعبي، والتي كانت قد أبدت استعدادها للتجاوب مع تلك الدعوات.
وكان أحد الوزراء السابقين في حزب «فورزا إيطاليا» قد صرّح منذ أسابيع عندما قرر فك ارتباطه مع برلسكوني قائلاً: «منذ سنوات لم يعد هذا الحزب يمثّل التيار اليميني المعتدل والليبرالي والأوروبي، والتصريحات التي تصدر منذ فترة عن برلسكوني تدلّ على أنه ليس سوى ما كان دائماً: شركة أخرى من شركاته».
ويراهن «الحزب الشعبي الأوروبي» في الوقت الحاضر على أنطونيو تاجاني، وزير الخارجية الحالي، والرئيس الأسبق للبرلمان الأوروبي، للحفاظ على شعرة معاوية مع حزب برلسكوني. لكن الانتقادات اللاذعة التي صدرت عن زعيم «فورزا إيطاليا» ضد حلفائه الأوروبيين، تنذر بقطيعة وشيكة بين الطرفين، تفتح الباب واسعاً أمام جيورجيا ميلوني، التي قام انتصارها الساحق في الانتخابات الأخيرة على أنقاض حليفيها سالفيني وبرلسكوني.
اليمين الأوروبي ينبذ برلسكوني تمهيداً لاحتضان ميلوني
اليمين الأوروبي ينبذ برلسكوني تمهيداً لاحتضان ميلوني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة