مثقفون مصريون يحتجون على ما سموه «أخونة وزارة الثقافة»

قابلوا رئيس الوزراء مطالبين بإقالة الوزير الحالي وإصلاح الوضع الثقافي

وزير الثقافة المصري عبد الواحد  النبوي،  محمد عبلة، أحمد مجاهد، خالد يوسف
وزير الثقافة المصري عبد الواحد النبوي، محمد عبلة، أحمد مجاهد، خالد يوسف
TT

مثقفون مصريون يحتجون على ما سموه «أخونة وزارة الثقافة»

وزير الثقافة المصري عبد الواحد  النبوي،  محمد عبلة، أحمد مجاهد، خالد يوسف
وزير الثقافة المصري عبد الواحد النبوي، محمد عبلة، أحمد مجاهد، خالد يوسف

يبدو أن الأزمات المتلاحقة التي تعصف بوزارة الثقافة المصرية منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 لن تتوقف أو تهدأ، رغم تعاقب 7 وزراء خلال 4 سنوات. ويخوض المثقفون المصريون حاليا معركة ضد ما سموه «أخونة وزارة الثقافة» ومحاولة تغييب دورها وتحويلها إلى كيان باهت. تفجرت الأزمة الجديدة بعد قرار وزير الثقافة المصري عبد الواحد النبوي، بإقالة رئيس الهيئة العامة للكتاب د. أحمد مجاهد، وتكليف الكاتب حلمي النمنم رئيس دار الكتب والوثائق، قائمًا بأعمال رئيس الهيئة العامة للكتاب، لحين تعيين رئيس جديد للهيئة. ذلك القرار الذي جاء عقب قرارات الوزير السابقة بإقالة د. محمد عفيفي من المجلس الأعلى للثقافة، ود. أنور مغيث من المركز القومي للترجمة، فضلا عن إقالة رئيس المركز القومي للمسرح ومديرة مركز الهناجر للفنون خلال الأشهر الماضية.
من جانبه، صرح وزير الثقافة المصري بأن «الأزمة مفتعلة» وأن الوزارة في حاجة لأشخاص يتميزون بأفكار جديدة من أجل ضخ دماء جديدة تتفهم طبيعة المرحلة المقبلة، خصوصا أن هيئة الكتاب عليها أعباء ضخمة وكبيرة مثل ضرورة الانتشار في الجنوب، «فلدينا كتب مكدسة منذ سنوات طويلة لم تصل إلى صعيد أو شمال مصر». وأضاف: «هناك ضرورة وأهمية التحول الرقمي للنشر الحكومي، ولا بد أن تكون سياسة النشر الجديدة لها رؤية تتفق مع ماهية المعارف التي يحتاج إليها المجتمع المصري في هذه المرحلة وتوزيع النشر بما يتفق مع هذه الاحتياجات».
وعلق أحمد مجاهد في تصريحات تلفزيونية بأنه «تعامل مع الدكتور عبد الواحد النبوي وزير الثقافة منذ قدومه للوزارة كان يتخلله معوقات مستمرة في ما يتعلق بعمل الهيئة، «الأمر الذي أضر بشكل مصر خارجيًا في بعض منها وعطل مسيرة الهيئة»، مشددًا على أنه يمتلك الوثائق والمستندات الدالة على ذلك.
وتفاقمت الأزمة وما زالت حدتها تتصاعد على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الوسط الثقافي، وسط مطالبات بإقالة الوزير الحالي تحت شعار «ارحل» واتهامات له بـ«الإخوانية» و«السلفية»، ومحاولته تنفيذ خطة علاء عبد العزيز، وزير الثقافة الأسبق في عهد حكومة محمد مرسي الإخوانية.
وتداولت جبهة «ألتراس وزارة الثقافة» وصفحة «لا لأخونة الثقافة المصرية» عدة بيانات تشير إلى زيارة وفد من حزب النور السلفي للوزير عقب تولية منصبه. وتأتي تلك الأزمة عقب أيام من توقيع عشرات المثقفين المصريين على بيان يرفض ما وصفوه بـ«رجعية» وزير الثقافة، بعد أن أقدم على اتفاق مع وزارة الأوقاف يقضي بنشر الثقافة بالمساجد، وعقد الندوات الثقافية بها بدلا من تجديد الخطاب الديني، واعتبروها محاولة علنية لـ«تديين الثقافة».
وفي تصعيد جديد، التقى وفد من المثقفين المصريين مساء الاثنين رئيس الحكومة المصرية إبراهيم محلب احتجاجا على أوضاع وزارة الثقافة. وحضر اللقاء المخرج خالد يوسف، والكاتب وحيد حامد، والشاعر سيد حجاب، والروائي يوسف القعيد، رئيس لجنة التفرغ بالمجلس الأعلى للثقافة، والمخرج محمد فاضل، والمخرج داود عبد السيد، والفنان التشكيلي محمد عبلة، والروائي إبراهيم عبد المجيد، والمخرج عمرو عبد العزيز رئيس اتحاد النقابات الفنية، والفنانة فردوس عبد الحميد، ومسعد فودة نقيب السينمائيين، والشاعر جمال بخيت، والمخرج المسرحي عصام السيد، والمنتج محمد العدل، عضو غرفة صناعة السينما، والفنانة ليلى علوي عضو غرفة صناعة السينما، والسينمائي فوزي العوامري، والسينمائي أنسي أبو سيف، بينما تغيب عن الحضور لظروف قهرية: الروائي بهاء طاهر، والروائي جمال الغيطاني، والموسيقار عمر خيرت، والفنان حسين فهمي، والفنان محمود قابيل.
وقال المخرج خالد يوسف، رئيس لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة وعضو لجنة الخمسين، إن «قرار المثقفين بلقاء رئيس الوزراء جاء بسبب عدم وجود رؤية واضحة لعمل الوزارة أو وجود استراتيجية فعالة للتعامل مع الإرهاب». وأعلن يوسف عن البيان الذي أصدره وفد المثقفين عقب لقائهم برئيس الحكومة أمس، والذي جاء فيه: «انتهى منذ قليل اجتماعنا مع السيد رئيس مجلس الوزراء الذي استمع باهتمام بالغ لمجموعة من المثقفين والمبدعين الذين استعرضوا كل الإشكاليات التي تحول دون وجود رؤية ثقافية شاملة تساهم في بناء الإنسان المصري وقدرتنا كمجتمع في التصدي لتحديات المرحلة، كما تم شرح تفاصيل المشهد الثقافي وسوء إدارته من قبل القائمين على المؤسسات الثقافية المختلفة. وقد تفهم سيادته كل المحاور التي تحدث عنها مجموعة المثقفين والمبدعين ووعد بدراستها جيدا والعمل على حلها حلا ناجزا. ويشكر المثقفون والمبدعون سيادته لرحابة صدره ويعربون عن تقديرهم العميق لتفهمه ووعيه الكامل بأهمية دور الثقافة والإبداع في بناء الإنسان والوطن».
من جانبه يرى الفنان التشكيلي محمد عبلة أن «التغييرات الممنهجة التي يقوم بها وزير الثقافة سواء في الوزارة أو القطاعات التابعة لها هدفها واضح وهو تكبيل الوزارة وتحويلها لجثة هامدة. إن 80 في المائة من المثقفين يتعاملون مع الوزارة ويدركون أن الوزير ليس على المستوى في هذه المرحلة الحرجة من تعامل الدولة مع موجة إرهاب ضارية».
وقالت الكاتبة إقبال بركة: «رغم النشاط الذي أبداه وزير الثقافة عبد الواحد النبوي وتجوله في قرى ونجوع مصر لكنني أجد أنه أخطأ بسبب التغييرات الكثيرة والمتتالية في قيادات الوزارة، فقد بدأ تغييراته بإقالة مديرة العلاقات الثقافية الخارجية ثم أعادها لفشل بديلتها، والغريب أنه أقال أحمد مجاهد دون بديل، وإعطاء مؤسسة بحجم الهيئة العامة للكتاب لحلمي النمنم عبء كبير عليه إضافة إلى مسؤولياته». وأضافت: «التغييرات الكثيرة تدل على عدم الاستقرار، وكمثقفين مصريين نتعامل طوال الوقت مع وجوه جديدة في فترات قصيرة جدا، ما إن نستقر على وضع حتى يتم تغييره، ونتفق معهم على مشروعات لا تتحقق بسبب التغيرات المتتالية مما يؤثر على المشهد الثقافي واستقراره بوجه عام».
وقال الفنان التشكيلي مصطفى عبد الوهاب إن «الوزير منذ توليه الوزارة وهو يرفض حضور أنشطة وزارة الثقافة الفنية تحديدا من منطلق معتقداته الشخصية، حتى إنه رفض وضع اسمه كراعٍ لمعرض فني بحجة أن المعرض يتضمن صورا عارية!».
أما الشاعر والناقد شعبان يوسف فيرى أن «أزمة المثقفين مع وزارة الثقافة تأخذ أشكالا عدة بسبب التغييرات المتلاحقة منذ ثورة يناير»، ولمح إلى أن «التغييرات التي يقوم بها وزير الثقافة عبد الواحد النبوي لا تتم وفق رغبة شخصية منه وإنما أرضاء لميول الحكومة الحالية التي أطاحت بالناقد جابر عصفور بسبب سياسته التنويرية التي أغضبت التيارات الدينية السلفية، والتي تريدها الحكومة ظهيرا دينيا للدولة، حتى تتجنب أقاويل الإخوان بأن الحكومة كافرة وما إلى ذلك، خصوصا أن الدول مقبلة على انتخابات نيابية. وبالتالي فإن الوزير يقوم بإقالة كل من لديهم فكر تنويري، وللأسف لم يقدم الوزير البديل الملائم، بل وجوه جديدة تفتقر إلى الخبرة في التعامل مع المشهد الثقافي ونحن في وقت حرج لا يحتمل ذلك».
واستنكر يوسف إخضاع وزارة الثقافة للإشراف الديني المتمثل في وزارة الأوقاف، في ظل الاتفاقية التي عقدها وزير الثقافة مؤخرا حول تنظيم الندوات الثقافية في المساجد، مشيرا إلى أن ذلك «سوف يؤجج الانقسامات في المجتمع المصري بين المثقفين المسلمين والمسيحيين، فسوف تناقش أعمال الأدباء المسلمين في المساجد والمسيحيين في الكنائس، في حين أن الثقافة المصرية تخص كل المصريين».



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.