السينما العربية البديلة تبحث عن بديل

نجاحات محدودة ومستقبل غامض

المخرج الراحل نبيل المالح أحد وجوه السينما البديلة
المخرج الراحل نبيل المالح أحد وجوه السينما البديلة
TT

السينما العربية البديلة تبحث عن بديل

المخرج الراحل نبيل المالح أحد وجوه السينما البديلة
المخرج الراحل نبيل المالح أحد وجوه السينما البديلة

تعترض طريق السينما العربية مشاكل متعددة، نظراً لكونها تعتمد على نسبة محدودة من المشاهدين في بلدانها أو حتى خارج هذه البلدان. ليس كل السينما العربية في آنٍ معاً، فهناك نتائج أفلام أفضل من أخرى، ونجاحات أعلى قدراً من سواها، ومخرجون يصلون بسرعة وآخرون تتركهم الحياة المتسارعة وراءهم إما بعد نجاح واحد أو من دون أي نجاح.

مشهد من فيلم طارق صالح «ولد من الجنة»

على سبيل المثال فإن نجاح أفلام السعودية هيفاء المنصور «وجدة» واللبنانية نادين لبكي «كفرناحوم» والتونسية كوثر بن هنية «الرجل الذي باع ظله» لا يمكن نكرانها. كل واحدة من هؤلاء المخرجات قدّمت عملاً أبحر بعيداً في أركان الأرض عبر المهرجانات الدولية أولاً ثم عبر فتوحات تسويقية مثمرة. كذلك حال المخرج السوداني أمجد أبو العلا وفيلمه «ستموت في العشرين»، إذ انطلق على شاشة مهرجانات وغرف من الفرص التي أتبحث له سريعاً في صالات السينما حول العالم.
لكن الحال ليس كذلك بالنسبة لعدد أكبر من الأفلام العربية المنتجة خلال السنوات العشر الأخيرة على الأقل. ليس كذلك بالنسبة لفيلم مي المصري «3000 ليلة» أو لفيلم «آخر واحد فينا» لعلاء الدين سليم أو «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد أو «ساير الجنة» لسعيد سالمين المري و«غداء العيد» للوسيان بورجيلي أو «غزة مونامور» لطرزان وعرب ناصر.

«باب الوداع» فيلم فني هُضم حقه

من ناحية هو أمر صحيح إذا ما نظرنا إلى أن النجاح لا يمكن أن يُصيب كل الأفلام على نحو واحد أو متساوٍ، لكن من ناحية أخرى، فإن معظم النجاحات التي تحققت لأفلام تونسية ومغربية ولبنانية ومصرية في السنوات الأخيرة، كانت بفعل دعم أجنبي. هذا الدعم لا يشمل النسبة الأكبر من التمويل فقط، بل وضع اليد على تسويقه عالمياً وربطه بشبكة العروض في المناسبات الفنية كما في صالات العروض.

تكاتف
إنه وضع شائك بالنسبة لمن يرغب في تفكيكه لمعرفة حقيقته. هل تخدم هذه الأفلام السينما العربية بالمطلق أو تخدم طواقمها؟ هل هناك مردود معنوي أو مادي للدول العربية التي جاءت منها هذه الأفلام (ما نجح منها وما فشل) أو أن المردود محدود بمخرجي هذه الأفلام؟
السؤال الأهم هنا هو كيف لنا تصنيف هذه الأفلام إذا ما كانت تنطلق عربياً (كونها من مخرجين ومنتجين عرب ولو أن التمويل الأكبر غير عربي)؟ هل هي عربية فعلاً وأين تكمن في مسيرة كاملة أقدمت عليها السينما العربية منذ أواخر الستينات وخلال السبعينات عندما انتبه عدد من المخرجين والمنتجين والنقاد إلى ضرورة تأليف قاعدة جديدة للسينما العربية أطلق عليها اسم «السينما البديلة»؟ بالتالي، هل الأفلام المذكورة أعلاه بديلة؟ وإذا كانت، فبديلة لأي سينما أخرى؟

الوضع كان مختلفاً في ذلك الفترة
السينما المصرية كانت ما زالت تشغل عروض صالات السينما في أرجاء الدول العربية. من بيروت إلى تونس، ومن العراق إلى المغرب كانت السينما المصرية ما زالت مصدر الترفيه الأول في السينما العربية ولا ينافسها إلا الأفلام الأميركية في بعض هذه الدول. هذا كله كان جزءاً من النجاح الكبير للسينما المصرية، وفي المقابل جزء كبير آخر داخل مصر ذاتها.
إزاء نجاح أفلام من نوع «قلوب العذارى» و«بنت من البنات» و«حبي الأول والأخير» و«سقطت في بحر العسل» و«أبي فوق الشجرة» ومئات سواها تشابهها في عناصر الترفيه (بصرف النظر عما تبلغه أو لا تبلغه من الجودة). التفت بعض المخرجين الشبّان العرب باحثين عن وضع يتكاتفون فيه لطرح سينما تنتمي إلى المخرج وليس إلى المنتج وشروطه. التقت المصالح المشتركة صوب الدفع بسينما المؤلف إلى الأمام.
نواة هذا الوضع المستجد كان عدداً متنوّعاً من المخرجين العرب بينهم الفلسطيني غالب شعث «الظلال في الجانب الآخر» والمصري علي عبد الخالق «أغنية على الممر» واللبناني رهان علوية «كفر قاسم» والتونسي رضا الباهي «شمس الضباع» والمغربي سهيل بن بركة «ألف يد ويد» والسوري نبيل المالح «السيد التقدمي» والعراقي قاسم حول «الحارس» وعدد كبير آخر من الذين اجتمعوا تحت هذه الراية وأعلنوها ثم مضوا بها لبضع سنين.
كان الراحل برهان علوية على حق عندما أعلن أن السينما البديلة تحتاج لموزّع بديل يرغب في ترويجها وتوظيفها لإيصالها إلى العدد الكافي من الجمهور الباحث عن الاختلاف. هذا لم يكن متوفراً آنذاك ولم تنبرِ الشركات الغربية للاهتمام إلا على نحو محدود شمل الأفلام الأولى لسهيل بن بركة ورضا الباهي، والثاني بعد ذلك خط طريقه منفصلاً عن السينما البديلة لكن من دون تنازلات فنية، وهذا على عكس ما ذهب إليه المخرج علي عبد الخالق لاحقاً مقدماً على مجموعة من الأفلام التجارية التي كان انطلق عكسها.

نظرة أحادية
معظم الإنتاجات البديلة حينها كانت محلية الصنع. بعيدة عن المؤسسات العامّة منها أو الخاصّة. كما من المهم أنها كانت كذلك بعيدة عن طموحات مخرجين رموا شباكهم نحو الجمهور العالمي مثل مارون بغدادي ويوسف شاهين، ونجحوا في الانتقال إلى تلك الجبهة وأسسوا لطموحات عدد كبير من المخرجين العرب لدخول الأسواق العالمية.
لكن شروط الدخول اختلفت في الثمانينات والتسعينات واختلفت أكثر فيما بعد.
حسب أكثر من مخرج حالي ممتنع عن مزاولة العمل بشروط التوزيع الجديدة هناك سيطرة شبه كاملة لشركات الإنتاج الأجنبية على المخرج العربي الراغب في مساعدة تلك الشركات على تمويل فيلمه. لا يمكن، مثلاً، طرح القضية الفلسطينية على أساس ظالم ومظلوم (إلا إذا كان الإنتاج إسرائيلياً كما الحال مع أفلام المخرج آفي مغربي)، ولا يهم الحديث عن مجتمع متقدّم بذاته، بل لا بد من تصوير عالم يعيش، في بعض أركانه. على الأقل، تخلّفاً واضحاً سواء أكان سببه الأول سياسي مثل «ولد من الجنّة» لطارق صالح الذي تم تقديمه في العام الماضي ضمن مسابقة مهرجان «كان»، أو هلوسات شعبية ناتجة عن دين وتقاليد «ريش» لعمر الزهيري، مهرجان «كان»، 2021.
وحين معالجة قضايا محض سياسية، فإن تحليلها ليس مطلوباً. المطلوب هو الانحياز وتقديم صورة أحادية من منظور السياسات الغربية حيال ذلك الوضع.
في مثل هذا الوضع، فإن المعيار الفني الصارم الذي كان المصدر الأول لقبول فيلم في المهرجانات الغربية، أصبح عنصراً ثانياً أو ثانوياً. لا أحد يأبه كثيراً إذا ما كان المخرج متأثراً ببرغمن أو بغودار أو بتاركوفسكي أو أنطونيوني. ما هو مهم أن تكون عناصر الإنتاج المتوفرة كافية لصياغة عمل يحمل رسالة انتقادية تُصوّب سهامها، غالباً، للشرق وليس للغرب.
المشكلة، بالتالي، ليس مستوى التنفيذ، بل ما يستطيع الفيلم العربي بيعه في السوق الأجنبية، تماماً كأي سلعة تجارية. «بايشا» لمُنيا مدوّر (الجزائر)، «باريسية» لدانيال عربيد (لبنان) و«كفرناحوم» لنادين لبكي وغيرها وفّرت للمشاهدين في الغرب نماذج سلبية من الحياة في العالم العربي، لكن بينما «باب الوداع» لكريم حنفي و«هواجس الممثل المنفرد بنفسه» لحميد بن عمرة و«بغداد خارج بغداد» لقاسم حول، كانت من تلك الأفلام التي حرصت على أن تكون ذاتية وصادقة في منهج تعاملها مع الواقع أو مع التاريخ.
«باب الوداع» لكريم حنفي (قبل ثماني سنوات) كان من بين تلك الأفلام المصرية التي راوحت مكانها لأنها لم تتسلّح بعناصر غربية. البطولة هي للبصريات. لتلك فإن المَشاهد شكّـلت جيّـداً. للكاميرا، محمولة حيناً وثابتة في أحيانٍ أكثر، وهي تؤطّـر الجميع وتضفي ظلالها المستنتج من التصوير بالأبيض والأسود.
والحكاية ليست رواية بحبكات تقليدية باتت متوقعة ضمن سياق ما هو منتشر من أفلام عربية توزّع أوروبياً. هي حكاية ثلاثة أجيال، كل بمعزل عن الآخر (غالباً) ولكل مساحته الزمنية تشمل الآخر كحب وذكرى حانية. تواصل أجيال يتم بالموسيقى والصورة، وذلك النوع الرقيق من التعامل مع الشخصيات.
لكن المطلوب من المخرجين العرب ليس التفاني في صياغة فيلم فني، بل تعريض وضع اجتماعي للنقد وتوفير ما يسمّيه المخرج حميد بن عمرة بـ«أفلام الشاورما والغبار» للعين الغربية.

اندثار
النقد في السينما مطلوب، لكن حتى يكون صادقاً عليه أن يُعاين وينطلق من ناقد محلّي لوضع محلّي وصولاً لعين محلّية. عدا ذلك، فإن الناتج لا يُفيد.
نظرت السينما البديلة لأوضاع الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة نظرة عميقة، ولو اختلط على بعض أركانها الفصل بين النيّات والنتائج فجاءت بعض أعمالها خطابية ومباشرة. تلك النظرة وجدت جمهوراً محلياً واهتماماً واسعاً بين المقبلين على مهرجانات السينما في تلك الآونة (قرطاج، دمشق، بيروت، بغداد، القاهرة).
ولمزيد من إيضاح أسباب وجودها حقيقة أنها، في الوقت الذي نادت بسينما مغايرة لتلك التجارية السائدة، فإنها وُلدت من بطن تلك السينما. بكلمات أخرى، لولا أفلام حسن الإمام وحلمي رفلة وحسام الدين مصطفى وسواهم من الذين سادت أفلامهم (بمعاييرها ومواضيعها المختلفة) الأسواق العربية، لما كان هناك داعٍ لسينما تريد قلب الطاولة على تلك الجماهيرية
اندثار السينما البديلة (وجماعة السينما الجديدة في القاهرة) لم يكن إلا لاختلاف وجهات النظر وإدراك البعض أن العمل الجماعي لن يمكن له أن يحقق المنشود. هذا ما يفسّر نجاح البعض (محمد خان، رضا الباهي، خيري بشارة، مارون بغدادي... إلخ) في نجاحات فردية من دون خيانة الرغبة في توفير بطانة فنية ضرورية.
الوضع حالياً هو أن الاتجاهات الفردية منقسمة على نفسها بين أفلام تصل إلى الغرب وأفلام لا تصل مطلقاً كون السوق العربية (كمجموع) أضعف من أن تلبّي النسبة المطلوبة من النجاح التجاري لتمكين هذه السينما من التطوّر، اعتماداً على أسواق الداخل وليس أسواق الخارج.


مقالات ذات صلة

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

يوميات الشرق السيناريست المصري عاطف بشاي (صفحته على «فيسبوك»)

الوسط الفني بمصر يودّع السيناريست عاطف بشاي

ودّع الوسط الفني بمصر المؤلف والسيناريست المصري عاطف بشاي، الذي رحل عن عالمنا، الجمعة، إثر تعرضه لأزمة صحية ألمت به قبل أيام.  

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق أنجلينا جولي في مهرجان ڤنيسيا (إ.ب.أ)

«الشرق الأوسط» بمهرجان «ڤنيسيا-4»... ماريا كالاس تعود في فيلم جديد عن آخر أيام حياتها

إذا ما كانت هناك ملاحظة أولى بالنسبة للأيام الثلاثة الأولى التي مرّت على أيام مهرجان ڤنيسيا فهي أن القدر الأكبر من التقدير والاحتفاء ذهب لممثلتين أميركيّتين.

محمد رُضا (فينيسيا)
يوميات الشرق جمانا الراشد رئيسة مجلس أمناء «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» خلال مشاركتها في افتتاح مهرجان البندقية (الشرق الأوسط)

«البحر الأحمر السينمائي» تشارك في مهرجان البندقية بـ4 أفلام

تواصل «مؤسسة البحر الأحمر السينمائي» حضورها بالمهرجانات الدولية من خلال مشاركتها في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي بين 28 أغسطس و7 سبتمبر.

«الشرق الأوسط» (البندقية)
سينما جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)
سينما «بالرغم من» ‫(مهرجان ڤينيسيا السينمائي)

شاشة الناقد: فيلم افتتاح «ڤينيسيا» 81 مبهر وموحش

يختلف جمهور اليوم عن جمهور 1988 عندما خرج ما بات الآن الجزء الأول من هذا «بيتلجوس بيتلجوس». آنذاك كان الفيلم جديداً في الفكرة والشخصيات

محمد رُضا‬ (ڤينيسيا)

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
TT

كلاسيكيات السينما على شاشة «ڤينيسيا»

جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)
جيمس ستيوارت في «انعطاف نهر» (يونيڤرسال)

داوم مهرجان «ڤينيسيا» منذ سنوات بعيدة على الاحتفاء بالأفلام التي حفرت لنفسها مكانات تاريخية وفنية راسخة. ومنذ بضعة أعوام نظّمها في إطار برنامج مستقل يحمل عنوان «كلاسيكيات ڤينيسيا».

لا يُستهان بالإقبال الجماهيري، ولا بين النقاد أيضاً، على هذه الأفلام. الجمهور المحتشد لها هو من أهم أجزاء الصورة الشاملة لما يعرضه المهرجان من أفلام (أكثر من 300 فيلم في شتى برامجه وعروضه).

ما هو خاص بالنسبة للعروض الكلاسيكية أنها عاشت ليُعاد عرضها على الشاشات الكبيرة عوض استسهال البعض بالبحث عنها في المنصات المختلفة أو على الإنترنت لمشاهدتها بأحجام صغيرة وبنسخ قد لا تكون ناصعة ومرممة كتلك التي يوفرها المهرجان للحاضرين.

المخرج ناغيسا أوشيما (مهرجان ڤينيسيا السينمائي)

منتخبات مهمّة

سبعة أفلام تستوقفنا بين منتخبات ڤينيسيا العام الحالي (27 فيلماً) هي «الليل» (La Notte) لمايكل أنجلو أنطونيوني (إيطاليا) و«الرجل الذي ترك وصيّته في فيلم» (The Man Who Put His Will on Film) لناغيسا أوشيما (اليابان)، و«انعطاف نهر» (Bend of a River) لأنتوني مان (الولايات المتحدة)، و«الحرارة الكبيرة» (The Big Heat) لفريتز لانغ (الولايات المتحدة)، و«البشرة الناعمة» (The Soft Skin) لفرانسوا تروفو (فرنسا)، و«فتاته فرايدي» (His Girl Friday) لهوارد هوكس (الولايات المتحدة)، بمنأى عنها، بيد أنها في القسم نفسه، فيلم «مارون يعود إلى بيروت» لفيروز سرحال (إيطاليا)، و«الليل» (1961) هو أحد تلك الأفلام التي تمتعت بجمهور عريض عندما أنجزه أنطونيوني في ذلك الحين. أحد أسباب نجاحه أنه على عكس فيلمه السابق لهذا الفيلم، وهو «المغامرة» (L‪’‬Avventura) تحدث عن موضوعه بوضوح بدل إبقائه رهينة التساؤلات كما كانت عادته. ليديا (جين مورو) متزوّجة من جيوڤاني (مارشيللو ماستروياني) وعلاقتهما الحالية تمر بفتور. يؤمّان حفلة ساهرة. هو ينجذب لامرأة أخرى (مونيكا ڤيتي)، وهي تستمتع بالحديث مع رجل آخر (بيرنهارد فيكي)، حين عودتهما للبيت يدركان بأن عليهما استعادة وحدتهما.

بنبرة مختلفة أسس الياباني ناغيسا أوشيما حكاية فيلمه «الرجل الذي ترك وصيّته في فيلم» (1970). هو دراما لغزية عن طالب لديه يملك كاميرا فيلم يسرقها منه شاب آخر. هذا السارق ينتحر. العلاقة بين ما صوّره الطالب الأول وكيف ترك تأثيره في المنتحر يمرّ بقناة من الغموض في فيلم لم يعمد أوشيما لنوعه بعد ذلك. والغموض لا يتوقف عند انتحار السارق، بل يستمر مع انتحار صاحب الكاميرا، أو احتمال ذلك لأن المخرج لم يشأ التحديد في فيلم ممنهج ليكون أقرب إلى التجريب.

ملصق المهرجان

تروفو وهوكس

مثّل جيمس ستيوارت حفنة من أفلام الوسترن التي أخرجها أنتوني مان و«انعطاف نهر» (1952) واحد منها. كلها جيدة بمستوى واحد من الحرفة والمهارة. الحكاية هنا هي لرجل قبل مهمّة إيصال شحنة من البضائع مقابل مال. شريكه في الرحلة (آرثر كنيدي) يميل إلى بيع البضائع لمجموعة تعرض مبلغاً كبيراً من المال لشرائها ما يسبّب التباعد بين الرجلين اللذين كانا صديقين إلى ذلك الحين. الفيلم مشحون بالمواقف الحادة والتمثيل الجيد من الجميع (بمن فيهم روك هدسون وجولي أدامز وآخرون في أدوار مساندة).

ممثلو فيلم «الحرارة الكبيرة»، ومنهم غلين فورد، ولي مارڤن، وغلوريا غراهام، جيدون كذلك في هذا الفيلم البوليسي (1953) الذي يلمع فيه فورد تحرياً قُتلت زوجته خطأ، بتفجير سيارة كان سيقودها. المسؤولية تتعارض ورغبته بالانتقام فيتخلى عن الأولى. غراهام هي المرأة التي يضربها القاتل لي مارڤن ويلقي على وجهه أبريق ماء يغلي فيشوّهها. ممتاز بين أفلام الفترة البوليسية.

ما سبق يشي بتنوّع كبير ليس في حدود اختلاف أسلوب التعبير الفني لكل فيلم، بل للكيفية التي يتحكّم فيها المخرج بمفرداته وقواعده السينمائية للوصول إلى أعلى مستوى من حسن التنفيذ.

هذا التنوّع الشديد يتوالى مع اختيار فيلم فرنسوا تروفو «البشرة الناعمة» (1964) الذي ينتمي إلى أعماله الدرامية ذات المنوال الرومانسي، يحكي قصّة ناشر يعيش حياة هانئة مع زوجته، لكن ذلك لا يمنعه من خديعتها مع مضيفة طيران التقى بها. هذا ليس من أفضل أعمال تروفو.

الفيلم السابع المختار هنا، «فتاته فرايدي» (1940) هو كوميديا. واحد من تلك الأفلام التي تميّزت بمهارة المخرج هوارد هوكس في الكتابة وفي إخراج هذه الكوميديات العاطفية. في البطولة كاري غرانت في دور الصحافي الذي يسعى لإثناء زوجته (روزيلاند راسل) عن طلب الطلاق. غرانت لديه نموذج لا يتغير في التمثيل وهو هنا يمارسه بنجاح مثالي.

العالمون سينتبهون إلى أن الحبكة ليست بعيدة عن الفيلم الكلاسيكي الآخر «الصفحة الأولى» (The Front Page) الذي أُنجز مرّتان الأولى سنة 1931 على يد لويس مايلستون، والثانية الفيلم الأشهر الذي حقّقه بيلي وايلدر سنة 1974.

في غير مكانه

«مارون يعود إلى بيروت» (2024) ليس كلاسيكياً، ما يُثير التساؤل في اختياره بهذا القسم. بالتالي هو الوحيد بين ما يرد هنا الذي لم تُتح لنا بعد مشاهدته قبل وصوله إلى هذا المهرجان. تسجيلي عن حياة وأفلام المخرج مارون بغدادي التي بدأت سنة 1975 بفيلم «بيروت يا بيروت». لم يكن فيلماً جيداً، لكن بغدادي اشتغل على نفسه وحقّق ما هو أفضل في لبنان وفرنسا.

ما تبقى ليس سهلاً الحديث عنه في المجال المحدود هذا، لكنه يحتوي على أفلام مهمّة أخرى من الهندي غيريش كاسارايڤالي («الشعائر»، 1977)، ومن روبن ماموليان «دم ورمال» (الولايات المتحدة، 1941)، ورينيه كليمو («ألعاب ممنوعة»، 1952)، وآخرين لهم باع ونجاح في تحديد هويات سينما الأمس الزاخرة.