روايات الخيال السياسي... هل هي مسؤولة عن انتشار «نظرية المؤامرة»؟

تلاقي في الآونة الأخيرة رواجاً شعبياً وتجارياً كبيراً

الأطروحات التآمرية مصدر إلهام لروايات وإنتاجات أدبية تهدف إلى تعليل أحداث أو إضفاء معنى عليها (رسم بالذكاء الصناعي - ميدجيرني)
الأطروحات التآمرية مصدر إلهام لروايات وإنتاجات أدبية تهدف إلى تعليل أحداث أو إضفاء معنى عليها (رسم بالذكاء الصناعي - ميدجيرني)
TT

روايات الخيال السياسي... هل هي مسؤولة عن انتشار «نظرية المؤامرة»؟

الأطروحات التآمرية مصدر إلهام لروايات وإنتاجات أدبية تهدف إلى تعليل أحداث أو إضفاء معنى عليها (رسم بالذكاء الصناعي - ميدجيرني)
الأطروحات التآمرية مصدر إلهام لروايات وإنتاجات أدبية تهدف إلى تعليل أحداث أو إضفاء معنى عليها (رسم بالذكاء الصناعي - ميدجيرني)

تعمل نظريات المؤامرة كشبكة بسيطة لتحليل واقع معقّد، أي أنها تقدِّم تفسيراً في خضمّ حالة من عدم اليقين وهي تجذب أكثر من غيرها؛ لأنها تساعد على إيجاد معنى في عالم مُربك وفوضوي، أو كما كتب توكفيل في «الديمقراطية في أميركا»: «فكرة خاطئة لكن واضحة ودقيقة ستكون أكثر قوة في العالم من فكرة صحيحة لكن معقدة...». ولأنها عمل خياليّ يفترض وجود جماعات سريّة تحرّك الخيوط من وراء الكواليس وأشرار يخطّطون للسّيطرة على العالم في غرف مظلمة يملؤها الدخان، فإن الأطروحات التآمرية هي أيضاً مصدر إلهام لروايات وإنتاجات أدبية تهدف إلى تعليل أحداث أو إضفاء معنى عليها، بإدراجها ضمن مؤامرة عالمية واسعة النّطاق حتى لا تبقى تلك الأحداث وليدة الصّدفة وبلا معنى. الجدل يتمركز حول تأثير المعلوماتية الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي والعوامل النفسية والاجتماعية والثقافية في استفحال هذه النظريات، لكن قلّة قليلة من البحوث تتناول المرجعيات الأدبية التي شجعت ظهور هذا الفكر غير العقلاني، رغم أن الأدب «التآمري»، إذا صّح التعبير، موجود في الرواية البوليسية ورواية الخيال السياسي والتاريخي، وهو يلاقي في الآونة الأخيرة رواجاً شعبياً وتجارياً منقطع النظير.
كتب أخيراً الباحث بيتر نايت، أستاذ الأدب في جامعة مانشستر ومؤلف كتاب «كونسبيراسي كولتور أو ثقافة التآمر»، في جريدة «لوموند» الفرنسية مقالاً بعنوان: «كثير من نظريات التآمر ولدت في الخيال» يقول فيه ما يلي: «على الرغم من أن الأدب كان مهتماً منذ زمن بعيد بموضوع المؤامرة والجمعيات السّرية فإنه وجب انتظار القرن التاسع عشر لتصبح المؤامرة عنصراً مركزياً في العقدة الروائيّة مع ظهور ما يسمى بـ(رواية المجتمعات السرية) في ألمانيا أو «غيهايم برد رومان».
في الوقت نفسه، كان بعض الكتاب البريطانيين مفتونين بشبح الجمعيات السّرية الماسونية، والتآمر الإيطالي والآيرلندي ضد الحكومة، ومع منعطف القرن العشرين بدأت الرواية البوليسية ورواية الإثارة (تريلر) تكتسبان الشهرة والاعتراف حين اعتمدتا على المؤامرة كحبكة روائية مع آلان إدغار بو وهنري جيمس المولعين بالقصّص القصيرة المحفوفة بالألغاز التي لا حلّ لها...».

دان براون - إمبرتو إيكو - جيمس ألروي

ألكسي بروكا الكاتب والصحافي في المجلة الأدبية «ماغازين ليتيرير» ذهب لأبعد من ذلك حين تحدث على أمواج إذاعة «فرانس كولتور» في برنامج بعنوان «نظريات التآمر في الأدب» عن «مكتبة البارانويا» التي تضم في رفوفها إصدارات مبدعين مصابين بما يسميه بـ«البارانويا الخلاقّة» أو «ذهان الملاحقة الخلّاق»، حيث يعمد هؤلاء إلى ابتداع حكايات يشعر فيها البطل (الذي غالباً ما يكون رجلاً أبيض) أنّ حريته وهويّته – وحتى سلامته الجسدية – مهدَّدة بالوقوع تحت سيطرة قوى غامضة. ولتفسير ما يحدث تُقدّم نظرية المؤامرة كوسيلة لفهم الأنظمة المبهمة والأحداث الغامضة التي لم تعد فيها المؤامرة أجنبية تهدف إلى التسلّل إلى الأمّة، بل تهديداً يأتي من الداخل وهو أكثر غموضاً ومكراً»... يضيف الكاتب الفرنسي بأن اسم الروائي هوارد فيليبس لوف كرافت قد يوضع على رأس قائمة كُتّاب «التآمر»، فطيلة حياته ألّف لنا هذا الأخير أعمالاً تشرح بأن العالم ليس كما نظن، وبأن كائنات غريبة هي في الواقع التي تحكم، ورغم أن الكاتب لم يكن هو نفسه يؤمن بهذه الأطروحات التآمرية فإن التأثير على القراء كان قوياً ولا سيما الشباب...». أعمال الروائي هوارد فيليبس لوف كرافت اقتبست بشكل واسع في السنيما والتلفزيون، ولاقت نجاحاً كبيراً ولا سيما قصّص المخلوقات الزاحفة الذكية التي تتحكم سراً في مصائر البشرية من خلال أخذ مكان شخصيات مهمة في السياسة والأعمال، مثل هذه الروايات تركت أثرها وتسبّبت في ظهور إشاعات غريبة، كتلك التي استهدفت رئيس الوزراء النيوزيلندي السابق جون كاي الذي اضطر للظهور في وسائل الإعلام عام 2014 لنفي إشاعات سخيفة تدعي بأنه «حيوان زاحف» قادم من الفضاء، فأعلن بلهجة ساخرة أمام الكاميرات: «زرت الطبيب والبيطري، وكلاهما أكد لي أني لست زاحفاً... وأنا هنا لأعلن بأني لم أزر يوماً مركبة فضائية وليس لي أي زّي أخضر»، وبينما كان لوف كروفت يستعمل عنصر المؤامرة لإضفاء طابع الإثارة على حبكاته الروائية كان مواطنه الأميركي دان براون يؤمن بكل النظريات التآمرية الواردة في كتاباته، بل يسعى جاهداً إلى الترويج لها. فهو الذي كتب في مقدمة روايته «شفرة دافنشي» أن كل ما كتب في الرواية موثق ومستوحى من أحداث واقعية، رغم أن كثيراً من الأساتذة والباحثين أثبتوا بالدليل القاطع عكس ذلك تماماً.
وفي عمله الأخير قبل رحيله عام 2016 «العدد صفر» اقترح إمبرتو إيكو الروائي الشهير وصاحب الرواية المعروفة «اسم الوردة» كتابة جديدة للتاريخ، حيث عرض على لسان شخصية رومانو الصحافي حقيقة أخرى بخصوص الزعيم الفاشي موسوليني، حيث لم يكن هو الذي أعدم في 28 أبريل (نيسان) 1945، بل كان شبيهه! لماذا رفض الدوتشي مقابلة عائلته في كومو؟ لأنها كانت ستلاحظ الخداع. لماذا أرادت بيتاتشي، عشيقة الديكتاتور، أن تموت مع موسوليني المزيف؟ لإنقاذ الحقيقي، تم تسليم الشخص الأصلي إلى رئيس أساقفة ميلانو، ومثل الفاشيين الآخرين، تم شحنه إلى الأرجنتين بمساعدة الفاتيكان، حيث حظي بحماية الغرفة الماسونية بي 2 (الموجودة فعلاً في الواقع)، والتي حاولت إعادته إلى السلطة عام 1970. كل هذه النظريات يشرحها إمبرتو إيكو على مدى عشرين صفحة، وبصرامة تعطي انطباعاً بأن الكاتب هو نفسه مقتنع بغموض التاريخ.
في رفوف مكتبة «التآمر» نجد أيضاً الروائي جيمس ألروي صاحب الرواية الشهيرة «الداليا السوداء»، وهو مع دون دوليلو أهم الكتاب الأميركيين الذين تناولوا في أعمالهم حادثة اغتيال الرئيس جون كينيدي. ألروي عرض نظريته التآمرية في رواية الخيال السياسي «أميركان تابليود»، رابطاً فيها اغتيال الرئيس جون كينيدي بالحكومة الكوبية وجهاز المخابرات الأميركي، مضيفاً إلى العقدة عصابات المافيا والممثلة مارلين مونرو. وكل أحداث روايات جيمس ألروي تقع على خلفية مؤامرات سياسية خبيثة تنتهي بنهايات غامضة وغير مؤكّدة تجعل القارئ يتساءل عمّا إذا كانت الخيوط التي يتقفّى أثرها مجرّد خُدَع أو تمويهات.
الملاحظ أن بعض هؤلاء الكتاب حقّقوا عودة مميزة في الفترة الأخيرة رغم أن إنتاجاتهم الأدبية قد صدرت منذ عقود. تقارير صحافية كثيرة كشفت بأن رواية جورج أورويل «1984» التي ترسم صورة عالم شمولي مبني على شيوع ثقافة المراقبة، وهدم كل أشكال الثقة التي قد تتشكل بين الأفراد، قد عادت بقوة إلى رفوف المكتبات العالمية، وعرفت رواجاً كبيراً بعد أكثر من سبعين عاماً على صدورها، وبالأخّص بعد وصول الرئيس الأميركي ترمب إلى الحكم، حيث كانت من أكثر الروايات مبيعاً على منصّة «أمازون» في الولايات المتحدة وروسيا. وفي فرنسا كشفت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أن رواية أورويل «1984» كانت من أكثر الكلمات بحثاً في محرك البحث «غوغل»، وقد اقترن اسم هذه الرواية الديستوبية بجائحة «كورونا»، حيث إن هاشتاغ «كوفيد» كان الأكثر تداولاً في تلك الفترة، لدرجة أن الرواية عرفت حياة ثانية، بل أصبحت رمز مقاومة لكل أنصار الأطروحات التآمرية الذين روجوا بشكل واسع لفكرة مفادها أن الوباء أكذوبة كبيرة صُممت لإلهاء الشعوب.
الباحث بيتر نايت، أستاذ الأدب في جامعة مانشستر، ذهب لأبعد من ذلك حين ربط بين الأطروحات التآمرية التي تعرضها هذه النوعية من الأعمال وتبعات خطيرة وغير منتظرة في الواقع المعيش، حيث يبدو حادث الاستيلاء على مبنى الكونغرس الأميركي (الكابيتول) في واشنطن في 6 يناير (كانون الثاني) 2021، وكأنّه محاكاةٌ لـ«دفاتر تيرنر»، وهي رواية صادرة عام 1978، تغوص في عالم المؤامرة، وتتخيّل انتفاضة مروّعة يقوم بها العنصريّون المنادون بتفوّق البيض. الرواية من تأليف ويليام لوثر بيرس، وهو كاتب وباحث معروف بانتماءاته العنصرية الموالية لحركة «وايث باور» النازية. وقد كان لهذه الرّواية المناهضة للحكومة تأثيرها على تيموثي ماكفاي، الذي فجّر في عام 1995 مبنى فيدرالياً في أوكلاهوما سيتي، أسفر عن مقتل 168 شخصاً.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.