بريطانيا 2023... التقشّف يمسّ أسس «القوّة الناعمة»

قرار حكومي «خطير» بتخفيض التمويل للفنون والثقافة والتعليم الجامعيّ

دار الأوبرا بلندن (غيتي)
دار الأوبرا بلندن (غيتي)
TT

بريطانيا 2023... التقشّف يمسّ أسس «القوّة الناعمة»

دار الأوبرا بلندن (غيتي)
دار الأوبرا بلندن (غيتي)

في خضم الضغوط التضخميّة الهائلة التي يتعرّض لها الاقتصاد البريطاني، وبعد تخبّط الحكومات المتعاقبة في منهجيّاتها المختارة لإدارة الأزمة، انتهى الأمر مع الحكومة الجديدة إلى اختيار طريق التقشّف، وإلزام المملكة للخضوع لسياسة «شد الأحزمة» لخمس سنوات مقبلة على الأقل؛ بغرض تمويل عجز في الميزانيّة يتوقّع أن يصل إلى 50 مليار جنيه إسترليني.
وفي الواقع فإن بريطانيا لم تخرج بداية عن سياسة التقشّف المستمرة واقعيّاً منذ أن اختارت السلطات استيعاب صدمة الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 وما تلاها عبر تقليص نفقاتها على الخدمات العامّة، وتأجيل الاستثمارات الرأسماليّة في تطوير البنية التحتيّة، مع شبه تجميد للأجور على مستوياتها منذ عقدين تقريباً.
رهان النّخبة البريطانيّة المعاصرة دائماً هو على منعة مصادر اقتصاد البلاد القائم أساساً على مناحي القوّة الناعمة لا الماديّة المحض. فهذه المملكة لم تعد بعُشر قوتها العسكريّة أمام جبروتها أيّام الإمبراطوريّة الغاربة، ولم تعد حواضرها في مانشستر ولندن وليفربول مراكز للصناعات الاستراتيجيّة، وليست هي بحال قادرة على الاكتفاء الذاتيّ من الإنتاج الزراعيّ أو الطاقة أو حتى التكنولوجيّات المتخصصة دون الارتباط العضوي بالشبكات على البرّ الأوروبيّ، لكنّها مع ذلك مركز إقليمي للاستثمارات المالية والبنوك وتجارة الأسهم، وقطب سياحي هائل يتوفر على أدوات جذب تاريخيّة وحضريّة وثقافيّة وفنيّة وأكاديمية وفرص للتسوّق لا تكاد في مجموعها تُضاهى، ويسندها قطاع خدمات ممتاز، ناهيك عن نظام تعليمي وجامعيّ وبحثيّ متقدّم مرتبط بلغة صارت الأولى في عالم المال والأعمال والأكاديميات، وكذلك ماكينة نشر وإنتاج ثقافيّ وفنيّ ضخمة، وقطاع رياضيّ عالميّ الشعبيّة.
على أن تخبّط الحكومات المتعاقبة وسياساتها التقشفيّة العدميّة اتخذت في هذه الجولة الأخيرة منحنى ينذر بالخطر الشديد، بعدما استهدفت بالتخفيض والتقليص والإلغاء الميزانيات والإعفاءات للأعمدة التي تستند إليها القوّة البريطانيّة الناعمة.
خذ مثلاً في التسوّق، إذ طالما كانت لندن نقطة لا بدّ منها على خريطة التبضّع لأثرياء العالم وطبقاته البرجوازيّة، لكّن الحكومة الحاليّة قررت إلغاء إمكانيّة استرداد ضريبة القيمة المضافة (نحو 17 في المائة) من قبل الزوار غير المقيمين، الأمر الذي جعل أسعار لندن غير منافسة أبداً مقارنة، لنقل، بعواصم أوروبيّة أخرى مثل باريس وأمستردام وبرلين ومدريد، لتتراجع مبيعات الماركات الفاخرة بأكثر من النصف تقريباً، وهو ما يهدد شركات عدّة بالإفلاس، أو سيجبرها على الانتقال إلى البرّ الأوروبيّ لإدارة عملياتها واستثماراتها.
وتتعرض هيئة الإذاعة البريطانيّة، وهي من هي في الإعلام والإنتاجات الثقافيّة والفنيّة، إلى ضغوط مماثلة لتخفيض الإنفاق على نحو تسبب في إغلاق أنشطة إذاعيّة عدة وقنوات غير مربحة تجاريّاً، ولا شكّ سيؤدي ذلك إلى تراجع القدرة على المنافسة مع منتجي المادة الثقافيّة في الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة تحديداً.
كما تشتكي الجامعات ومراكز البحث البريطانيّة من فقدانها الجاذبيّة التي كانت تتمتع بها من قبل وتسمح باستقطاب أفضل الكوادر الأوروبيّة والعالمية؛ بسبب تغيّر أنظمة الإقامة بعد قرار المملكة ترك عضوية الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى تراجع فرص التمويل المكثّف التي كانت تتمتع بها من ميزانية التكتل الأوروبيّ.
لكن الأخطر الآن قد يكون قرار الحكومة الأحدث بتخفيض التمويل بشكل دراماتيكي لقطاعات الفنون والثقافة والتعليم الجامعيّ المرتبط بها، إذ إنه على الرّغم من صغر تلك الميزانيّات نسبيّاً، فإنّها ستتعرض لضغوط تقشفيّة جذريّة الطابع، وستجعل أكثر من نحو 850 منظمة وهيئة وطنيّة، تعنى بجوانب من مصادر قوة بريطانيا الناعمة، في مأزق غير مسبوق بينما تدير نشاطاتها خلال الفترة المقبلة، إذ تلقى مجلس الفنون في إنجلترا تعليمات صريحة من الوزارة المعنيّة (وزارة الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة) بتقليص الميزانيات المرصودة للسنوات الثلاث المقبلة، كما قرر وزير التعليم من جهته خفض الميزانية السنوية لدعم تعليم موضوعات الفنون والثقافة والإعلام والمسرح والتصميم في التعليم العالي بالجامعات بإنجلترا، من 36 مليون جنيه إسترليني إلى 19 مليوناً، على أن تحوّل قيمة تلك التخفيضات لدعم تعليم تخصصات العلوم الأساسيّة والتكنولوجيا والهندسة.
ويغفل وزير التعليم في قراره حقيقة أن قطاع الفنون والثقافة على الرغم من تصنيفه في حقل «القوة الناعمة» فإنّه أسهم حتى في قلب أزمة «كوفيد» عام 2020 برفد الاقتصاد القومي بمبلغ يقارب 11 مليار جنيه إسترليني مباشرة دون احتساب المساهمات الجانبيّة في رفد القطاعات الأخرى، وحقق نمواً عن السنة السابقة بمقدار 390 مليون جنيه إسترليني.
ومن الجليّ أن هجمة حكومات المحافظين المتعاقبة هذه على مصادر «القوّة الناعمة» للمملكة المتحدة نتاج نظرة شعبويّة قاصرة تتعامل مع السياسة استناداً إلى الرأي العام العابر، وتستهدف بشكل أو آخر إعادة الفنون والثقافة إلى حيّز الطبقات المرفهة بعيداً عن متناول المواطن العاديّ، وتكاد تكون تكراراً للتسرع الشعبوي في ترك عضوية الاتحاد الأوروبيّ والتي تتجه المؤشرات كافة الآن إلى اعتباره قراراً خاطئاً بكل أبعاده، الاقتصادية والثقافيّة، بما في ذلك موقف الناخبين نفسه الذي يميل الآن لمصلحة البقاء في نطاق تلك العضويّة.
الجهات المعنيّة بالثقافة عبّرت عن دهشتها من فشل متخذي القرار في فهم التفاعل التاريخيّ بين العلم والثقافة، لا سيّما في المملكة المتحدة. واستحضر أحدهم كيف تشاركت الأكاديميّة الملكيّة للفنون المبنى ذاته في سومرست مع الجمعيّة العلميّة الملكيّة في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، حيث كان الفنانون العظام ومؤسسو العلوم الحديثة يلتقون ويعملون جنباً إلى جنب ويتبادلون الأفكار.
وبالطبع فإن أي مؤرخ ناشئ للثورة الصناعيّة التي كان مهدها بريطانيا سيجد صعوبة كبيرة في فصل مسارات تطوّر الأفكار الفلسفيّة والفنيّة عن القفزات العلميّة التي شهدتها تلك المرحلة وأنتجت للعالم النظام الرأسماليّ بصيغته الحديثة. لكن وزراء الحكومة الحاليين يرون أن الخيال والإبداع الفكريّ والفنيّ والأدبي ترف ينبغي التخلّص منه الآن في هذه الأوقات العصيبة.
وبالطبع فإن اقتطاع التمويل عن قطاع الثقافة والفنون يعني حكماً الأموال التي يتم ضخها حالياً لدعم العمليّات الإبداعيّة في المناطق الأقل حظاً في بريطانيا خارج العاصمة، وهي المناطق ذاتها التي رفدت البلاد بأهم فنانيها المعاصرين الذين انحدروا من خلفيات الطبقة العاملة، وكانوا من دون الفرص التي قدمتها مؤسسات ثقافية وفنية سيضيعون في شبكات التعليم التقليدي، وستنتهي الفنون والثقافة تالياً إلى فضاءات محتكرة يقتصر عبورها على الطبقات المتيسرة مادياً.
لا مندوحة بالطبع عن تفهّم الحاجة الماسة إلى إجراء خفض في النفقات وإعادة تقييم طرائق الصرف الحاليّة للأموال العامّة.
لكن المسألة تتعدى ذلك إلى تحديد الأولويات. فلا يعرف كثيرون مثلاً أن الحكومة البريطانيّة قد طلبت للتو يختاً فاخراً مخصصاً للرحلات الملكيّة البحريّة علماً بأنّه سيكلف دافعي الضرائب سعراً معلناً قدره 250 مليون جنيه إسترليني.
وبالطبع فإن مثل هذا المشروع ليست له أية أغراض عمليّة باستثناء استعراض «القوة الناعمة» للمملكة المتحدة، وسيتحوّل فور تسلمه إلى مصدر تكلفة مستمرة.
ولكن ألا يمكن تحقيق تأثير «ناعم» أكبر ينعكس إيجاباً على نطاق أوسع وأكثر إنتاجيّة من خلال دعم المبدعين في الموسيقى والأدب والسينما والفنون الأدائية للحصول على فرص أفضل لإلهام العالم وتحفيز التبادلات مع جهاته الأربع؟
إن هذه الإمبراطوريّة المتقاعدة ليست على ما يرام.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».