يقف العالم مع نهاية 2022، ودخول 2023، أمام اختبار الانفجار السكاني، إذ بلغ عدد سكانه خلال العام المنصرم، 8 مليارات نسمة. فقبل عشرة آلاف سنة كان عدد سكان العالم لا يتجاوز المليون، وفي بداية القرن التاسع عشر وصل العدد إلى المليار، ليصبح ثلاثة مليارات أواسط القرن الماضي. وفي منتصف هذا القرن سيعيش أولادنا وأحفادنا في عالم يزيد تعداد سكانه عن عشرة مليارات، يقول الباحث الديموغرافي ستيفين إيموت، من جامعة أكسفورد، إنه أشبه ما يكون بقنبلة هائلة في عالم شهيته مفتوحة بلا حدود على الموارد التي تنضب بسرعة، وتتعرض طبيعته لضغوط غير مسبوقة تهدد استدامتها في المدى المنظور. واليوم يزداد عدد سكان الهند 67385 مولوداً جديداً مع كل إشراقة شمس، وعند كل غروب يأوي عشرات الملايين من الأطفال في البلدان النامية إلى فراشهم، على جوع يتضور منه 828 مليون شخص يشكلون 10 في المائة تقريباً من سكان العالم، الذين بلغوا ثمانية مليارات منتصف الشهر الفائت، أي ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه أواسط القرن الماضي، حسب التقرير الأخير الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية.
وفيما يتوقع التقرير أن يبلغ التعداد السكاني في العالم 9.7 مليار في عام 2050، ليصل إلى عشرة مليارات ونصف المليار في نهاية القرن الحالي، تؤكد دراسة حديثة أجرتها مجموعة من خبراء العلوم الديموغرافية في عدد من الجامعات الأميركية والبريطانية، ونشرتها مؤخراً مجلة «لانسيت» العلمية، أن عدد سكان العالم سيبلغ ذروته في عام 2070، حيث يستقر لفترة قبل أن يبدأ بالانخفاض حتى نهاية هذا القرن، وذلك لسبب أساسي هو ارتفاع مستوى تعليم المرأة وتعميمه في البلدان النامية.
- تباطؤ ديموغرافي
وخلافاً لما يتبدى من هذه الأرقام عند الوهلة الأولى، فإن النمو الديموغرافي العالمي يتباطأ منذ عام 1950 بنسبة 10 في المائة سنوياً، وذلك بسبب من انخفاض معدلات الإنجاب في العديد من البلدان خلال العقود الأخيرة المنصرمة، حيث إن ثلثي سكان العالم يعيشون حالياً في بلدان أو مناطق لا يتجاوز معدل الولادات فيها طفلين لكل امرأة، وهو المعدل التقريبي اللازم للحفاظ على المستوى السكاني في مناطق معدلات الإنجاب المتدنية. وتفيد آخر الدراسات بأن 61 دولة سينخفض عدد سكانها بنسبة 1 في المائة أو أكثر من الآن إلى عام 2050 بسبب تراجع معدلات الإنجاب وارتفاع معدلات الهجرة في بعض الحالات.
ومن المنتظر أن تحصل الزيادة الكبرى المرتقبة في عدد السكان مع انتصاف القرن الحالي في ثمانية بلدان، هي مصر وإثيوبيا والهند والفلبين وباكستان ونيجيريا وتانزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي أميركا اللاتينية والكاريبي من المتوقع أن يصل عدد السكان إلى ذروته في عام 2056، حيث يبلغ 752 مليوناً، قبل أن يبدأ بالتراجع إلى 646 مليوناً في نهاية القرن.
وإذ تنبه وكالات الأمم المتحدة من أن التضخم السكاني السريع سيؤدي إلى عرقلة جهود استئصال الفقر، ومكافحة الجوع وسوء التغذية، وتعميم الخدمات الصحية والتعليمية، تذكر بأن تحقيق أهداف التنمية المستدامة في مجالات التعليم والصحة والمساواة، من شأنه أن يساعد على الحد من معدلات الإنجاب، ويكبح التضخم السكاني العالمي.
وتتوقع الدراسات أن يرتفع عدد السكان الذين تتجاوز أعمارهم 65 سنة بنسبة 10 في المائة نهاية العام الحالي، لتصل إلى 16 في المائة عند منتصف هذا القرن، عندما يصبح عددهم أكثر من ضعف عدد الأطفال دون الخامسة من العمر، ومعادلاً لعدد الأطفال دون الثانية عشرة. وينبه صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية لأن البلدان التي يزداد عدد المسنين فيها، يجب أن تسارع إلى مراجعة برامج العناية الصحية المخصصة لهذه الشريحة من السكان، وإلى رفع مستوى استدامة أنظمة الضمان الاجتماعي والصناديق التقاعدية.
- التجانس اللغوي والثقافي
يقول خبراء إن بعض البلدان، مثل المجر واليابان، التي تتبع سياسة الحفاظ على التجانس اللغوي والثقافي، برغم المخاطر الاقتصادية والمالية والجيوسياسية الناجمة عن تراجع عدد السكان، ستجد نفسها مضطرة لتغيير سياستها بالنسبة للهجرة عاجلاً قبل آجل. وتتوقع الدراسات أن يتراجع عديد القوة العاملة في الصين من 950 مليوناً إلى 350 مليوناً، ما سيؤثر بشكل ملحوظ على قدراتها العسكرية، بعد أن تخسر 65 في المائة من السكان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و24 سنة.
وتفيد دراسات منظمة الصحة بأن معدل الحياة عند الولادة بلغ 72.8 سنة عام 2019، أي ما يزيد 9 سنوات عن عام 1990، وينتظر أن يستقر عند هذا المعدل حتى منتصف هذا القرن. لكن ثمة تفاوتاً ملحوظاً بين البلدان، يصل إلى سبع سنوات في البلدان الأقل نمواً. وكان هذا المعدل قد تراجع إلى 71 سنة العام الماضي بسبب جائحة «كوفيد» والتداعيات التي نشأت عنها.
وفيما تخطط الدول الغنية والصناديق السيادية الكبرى لتعديل سياساتها الاستثمارية استناداً إلى التغييرات الديموغرافية المرتقبة، تفيد منظمة الأغذية والزراعة (فاو) بأن عدد السكان الذين يعانون الجوع في العالم قد ارتفع إلى 828 مليوناً في نهاية العام الماضي، أي بزيادة قدرها 46 مليوناً عن العام السابق، بعد أن كان قد ارتفع 150 مليوناً منذ ظهور الجائحة، ما يعني أن العالم يبتعد أكثر فأكثر عن الهدف الذي حدده منذ سنوات بالقضاء على الجوع وسوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي بحلول عام 2030.
ويفيد التقرير الأخير، الذي شاركت في إعداده منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الغذاء العالمي والصندوق الدولي للتنمية الزراعية ومنظمة الصحة، بأن 2.3 مليار نسمة يعانون من انعدام حاد أو متوسط في الأمن الغذائي، أي ما يزيد عن 350 مليوناً مقارنة بالعام الذي سبق ظهور الجائحة. وتفيد منظمة الصحة بأن 3.1 مليار شخص لم يتمكنوا من الحفاظ على وجبة غذاء صحية بشكل مستديم في عام 2020، أي 112 مليوناً مقارنة بالعام السابق، وأن 45 مليون طفل دون الخامسة من العمر يعانون من سوء التغذية الحاد الذي يضاعف اثنتي عشرة مرة خطر الوفاة بين الأطفال.
- صورة قاتمة
يرسم التقرير صورة قاتمة جداً للسنوات المقبلة، حيث من المتوقع أن يزيد عدد سكان العالم الذين يعانون من الجوع عن المليار في عام 2030، مع احتمال شديد في ارتفاع هذا العدد في حال حدوث كوارث طبيعية كبيرة أو تغيرات مناخية شديدة أو أزمات تؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي والغذائي وانخفاض القدرة الشرائية عند السكان.
وتدق الفار ناقوس الخطر إذ تشير إلى أن المعدل السنوي العالمي للإنفاق على قطاع الزراعة والأغذية كان 630 مليار دولار في السنوات الخمس المنصرمة، أي نصف الحد الأدنى الذي يقدره الخبراء لتحقيق معظم أهداف التنمية المستدامة، وأن القسم الأكبر من هذا الأنفاق لا يصل إلى عدد كبير من المزارعين، خصوصاً منهم الصغار الذين يوفرون حوالي 80 في المائة من الأغذية في العالم، وأن سياسات الدعم السخي التي تعتمدها الدول الغنية، غالباً ما تتسبب في زعزعة الأسواق، وتلحق الضرر بالبيئة ولا تساهم في إنتاج أطعمة مغذية وصحية. ويعود ذلك إلى الجزء الأكبر من هذا الأنفاق يذهب لدعم إنتاج أغذية أساسية من ألبان وأجبان ومشتقات اللحوم وسكر، واستخدام كثيف للأسمدة الكيميائية.
وفيما تحذر المنظمات الدولية من «المستويات الكارثية» التي بلغها الجوع وسوء التغذية، تقول كريستينا ماك، منسقة منظمة «أطباء بلا حدود» في أفريقيا، «منذ أن بدأت العمل في هذا المجال عام 2004، لم تقع عيني على ما نشاهده اليوم من تدهور واسع النطاق للأوضاع الصحية والغذائية في القارة، حيث ازداد عدد المرضى الذين يعانون من نقص حاد في التغذية بنسبة 16 في المائة قياساً بالعام الماضي». ويقول خبراء منظمة الصحة إن ما خفي من أرقام الجوع أعظم بكثير من حيث التداعيات بعيدة المدى، خصوصاً عند الأطفال الذين ترافقهم مضاعفات نقص التغذية المزمن التي تترك آثاراً مدمرة على صعيد القدرات الإدراكية، والتقزم، والاضطرابات العصبية، الأمر الذي يوثر أيضاً على عائلاتهم ومجتمعاتهم، وعلى اقتصادات البلدان التي يعيشون فيها.
وتحذر الدراسة الأميركية البريطانية من أن المستقبل الديموغرافي يستدعي التخطيط السريع لمواجهته أمام التحولات الجذرية التي ستنشأ عنه على صعيد تغير المعادلات الجيوستراتيجية، وسقوط النظريات السائدة في الغرب حول الهجرة. وتخلص الدراسة إلى أن «القرن الحادي والعشرين سيشهد ثورة في تاريخ الحضارة البشرية، حيث إن أفريقيا والعالم العربي هما اللذان سيشكلان ملامح المستقبل، فيما يتراجع النفوذ الأوروبي والآسيوي، ليقوم النظام العالمي الجديد على محاور أربعة في نهاية هذا القرن هي الهند ونيجيريا والصين والولايات المتحدة».