جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء

تقبل برحابة صدر قرار منع نشر «أولاد حارتنا» في كتاب

جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء
TT

جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء

جوانب إنسانية في حياة «أديب نوبل» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء

اليوم تحتفل الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي بذكرى ميلاد نجيب محفوظ، ويأتي عرض هذا الكتاب «أيام مع نجيب محفوظ.. حكايات وحوارات» احتفاءً بحياة كاتب أرسى دعائم الرواية العربية، وأكسبها تفرداً خاصاً سيظل ممتداً في الزمان والمكان.
يسلط الكتاب الضوء على بعض الجوانب الإنسانية في حياة صاحب جائزة نوبل، حيث اقترب مؤلفه محمد الشاذلي حين كان صحافياً شاباً في الثمانينيات من محفوظ بصفته المهنية، وسرعان ما تحولت العلاقة بينهما إلى محبّة وثقة وصداقة دامت حتى رحيل محفوظ في 30 أغسطس 2006.
يشير الشاذلي، في بداية الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إلى أن فوز محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 فرض عليه التزامات إعلامية ورسمية ودبلوماسية جعلته في مهبّ عاصفة من الفوضى أفسدت عليه حياته المعروفة بالانضباط والبساطة، حتى إنه قال ذات يوم ساخراً: «يبدو أنني أصبحت موظفاً لدى نوبل»! واضطر إلى الارتباط بمواعيد مع عرب وأجانب، وإجراء حوارات ولقاءات مع دبلوماسيين ومسئولين ومثقفين وإعلاميين وزوار من الداخل والخارج يريدون رؤيته والتقاط الصور التذكارية معه، وكان يشكو من ضوء «فلاشات» الكاميرات الذي يؤذي عينيه!
ولم يكن محفوظ قبل نوبل مضطراً إلى أشياء من هذا النوع على الإطلاق، فقد كان يعيش في حرية تامة، والتزاماته هو مَن يحددها. ومن الوقائع ذات الدلالة في هذا السياق أنه في عام 1970 أصدرت مجلة الهلال الشهرية عدداً خاصاً عن نجيب محفوظ قبل الجائزة بــ18 سنة، وضمّت مقالاً بديعاً للكاتب الساخر محمد عفيفي بعنوان «نجيب محفوظ رجل الساعة»، وكان يقصد ساعة يده وقتئذ، وساعة جيبه عند بدء معرفته به. وقال عفيفي، أحد مؤسسي شلة «الحرافيش»: إن محفوظ ينظر في الساعة ليدخن سيجارته، ولا يُخرج العلبة مرة أخرى قبل مرور ساعة، وكما أن سكان مدينة كونيجسبرج كانوا يضبطون ساعتهم على موعد خروج الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط لنزهته اليومية، كذلك فإن جيران نجيب محفوظ يستطيعون ضبط ساعتهم على مواعيد خروجه وعودته، فهو يكتب في ساعة محددة، ويتوقف عن الكتابة في ساعة محددة، ويلتقي أصدقاءه في ساعة محددة، ويغادرهم في ساعة محددة، ويدخل على جلسة الحرافيش في شارع الهرم كل خميس بكيلوجرام من الكباب يحمله من بيته القديم في العباسية».
أما جائزة نوبل فقد قلبت كل ذلك النظام رأساً على عقب، فقد اضطر لأحاديث صحفية وتلفزيونية كثيرة لم يكن يقبل بإجرائها على هذا النحو المتسارع قبل نوبل، كما أنه وافق على الذهاب إلى قصر الرئاسة مرتين؛ الأولى باختياره، والثانية بدعوة وجّهتها إليه وزارة الثقافة. أما الأولى فكانت بعد تلقّي مكالمة هاتفية ثم برقية تهنئة من الرئيس الأسبق حسني مبارك في يوم فوزه بالجائزة الخميس 13 أكتوبر 1988. وردّ محفوظ فوراً وركب تاكسي إلى القصر الجمهوري لكي يكتب اسمه في دفتر التشريفات موجهاً الشكر للرئيس. أما المرة الثانية فكانت بعد الجائزة بثلاثة أسابيع حيث منحه الرئيس مبارك قلادة النيل، في احتفال كبير بقصر الاتحادية.
وبعد شيوع خبر نوبل بنحو ساعتين أو ثلاث دخل بيته في الطابق الأرضي في «172 شارع النيل بالعجوزة»، والذي انتقل إليه من سكن العوامات نحو عام 1961. وهنا داعبه الشاذلي قائلاً له بصوت عال على مرأى ومسمع من الصحافيين في شقته الصغيرة: ها هي نوبل أدخلتنا إلى بيتك أخيراً، فردّ وهو يجلجل بضحكته: وأدخلتني أنا أيضاً!
ومن المفارقات الغريبة التي يكشفها الكتاب أن نجيب محفوظ لم يمتلك يوماً أية نسخة من رواية «أولاد حارتنا» التي أثارت جدلاً حين نُشرت على هيئة حلقات مسلسَلة بصحيفة الأهرام، وطُبعت فقط خارج مصر. كان موقف محفوظ من الرواية هو موقف الدولة نفسه فتقبَّل بصدر رحب قرار منع نشرها في كتاب، وكانت النتيجة أن طبعها ناشر في لبنان، ووُزعت في دول عربية قليلة؛ منها الأردن. ويحكى الشاذلي أنه امتلك نسخة من الرواية عن طريق صديق مصري قادم من الأردن وأصبح من المميزين، ولا يعرف أهمية الكتاب الممنوع أكثر ممن يملكه.
وفي اليوم الرابع بعد نوبل كان المؤلف مع نجيب محفوظ في السيارة باتجاه مبنى التلفزيون في ماسبيرو ليدخله محفوظ، ربما للمرة الأولى ضيفاً في برنامج. لقد وافق من أجل صديقه الصحافي الشاب، وهو ما قاله لرئيسة التلفزيون السيدة سامية صادق- بالحرف الواحد- عندما أكدت أنها شعرت بأنها لن تنام الليل بسبب عدم تصديقها مجيء الأستاذ للمبنى غداً، فذهبت إليه في منزله لتطمئنّ، فقال الأستاذ، وهو يشير إلى الشاذلي، إنه سيأتي لأنه وعد هذا الرجل. ويروي المؤلف أنه كان قد رتّب حلقة مجمعة، فيها كل أصدقاء وتلاميذ نجيب محفوظ من الأدباء والفنانين، تديرها السيدة سميحة غالب زوجة الشاعر صلاح عبد الصبور، بعنوان «سهرة مع نجيب محفوظ».
كان الأستاذ نجيب يعرف أن الشاذلي يمتلك نسخة من «أولاد حارتنا»، وسأله بتواضع جم وهما في سيارة التلفزيون، عن إمكانية استعارة تلك النسخة لكي يقرأها رئيس مجلس الوزراء الدكتور عاطف صدقي، والذي طلبها يوم زيارته لمحفوظ في بيته لتهنئته بالفوز بجائزة نوبل. ومرت سحابة حزن خفيفة حين عرف للمرة الأولى أن الرواية تُطبع وتُزور في كل مكان، في انتهاك صارخ لحقوق المؤلف المادية والأدبية، وسرعان ما عاد إلى تناول أفكار شتى قبل الوصول إلى مبنى ماسبيرو.
وفي طريق العودة سأله المؤلف إن كان سيتوقف عن الكتابة بعد نوبل، فانزعج بشدة وقال: «لا لا لا، الكتابة مستمرة ويجب أن نستغل الوقت المحدود حالياً، فقد كنا نملك الوقت الوفير والجهد الكبير ونحن صغار أيام زمان، لكن الموضوعات والأفكار كانت تستعصي، أما الآن فالرغبة والأفكار موجودة، ولا نملك الوقت والجهد».
ورغم كثرة الحوارات التي أجراها المؤلف مع نجيب محفوظ، لا ينسى ذلك الحوار الذي كان عبارة عن «ضحكة» وحيدة فقط! حدث ذلك عندما ذهب إليه عام 1989 في مكتبه بالطابق السادس في «الأهرام» وفتح جهاز التسجيل وطلب منه أن يضحك، وبعد أن ضحك أغلق الكاسيت وشكره ونهض للانصراف! اندهش الأستاذ فشرح له أنه يُعِدّ برنامجاً بعنوان «لوحة وفنان» للتلفزيون المصري؛ لإذاعته في شهر رمضان عقب الإفطار مباشرة. ولمزيد من التجويد في حلقة الفنان التشكيلي صلاح عناني ولأنه سيتناول اللوحة التي رسمها لمحفوظ بمناسبة حصوله على جائزة نوبل، رأى أن تظهر اللوحة على الشاشة وأديب نوبل يضحك فيها، وذلك هو ما جرى تنفيذه فعلاً على يد مُخرجة البرنامج شادية مختار.
وذات مرة، سأل المؤلف نجيب محفوظ، على سبيل المزاح، عما إذا كان هو نفسه يجسد شخصية «سي السيد» الشهيرة التي ذاعت عبر ثلاثيته الروائية الشهيرة عندما فرض محفوظ تقاليده الشرقية المحافِظة على ابنتيه. وكان الشاذلي قد سافر إلى العاصمة السويدية إستوكهولم ضمن الوفد الصحافي المكلف بتغطية حفل جائزة نوبل، وهناك لاحظ السلوك شديد التحفظ التي تُبديه ابنتا محفوظ «أم كلثوم» و«فاطمة». نفى عميد الرواية العربية الأمر تماماً، وقال إنه أدخلهما الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وسبق أن وافق على سفرهما في رحلة مع الجامعة إلى المجر، كما وافق على قضائهما إجازة صيفية في دول أوروبية من خلال شركات سياحية، واشترى لهما سيارة وهما تعملان حالياً ولهما مطلق الحرية في الصداقة والخروج وحياتهما الكاملة التي تهتم بهما أمهما كأفضل ما يكون، كما أنه دائم الحوار معهما ولا يتردد في الرد على أي استفسار لهما كأي أب، وهو معهما ليس نجيب محفوظ الكاتب والأديب، فكيف يكون «سي السيد» بطل الثلاثية؟!
وحول مسجد نجيب محفوظ الذي جرى بناؤه عند قرية العزيزية على طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي، والذي جرى افتتاحه بعد وفاته بعامين، يشير المؤلف إلى أن الأستاذ بعد أن بدأت أحواله المادية تنتعش، قرر أن يتبرع بجزء من ثروته الطارئة لبناء مسجد، واختار أن يبنيه في تلك القرية تحديداً. وكانت السيدة زوجته قد اشترت قطعة أرض في تلك المنطقة وبنت عليها فيلا صغيرة، وكانت تجهّز للانتقال إليها. وزار نجيب محفوظ المكان مرة واحدة واتفق مع أهل القرية على أن يتكفل ببناء مسجدها، وحضر محاميه جلسةً جمعته وزوجة الأستاذ مع أهل القرية؛ لأنهم تأخروا في إتمام المسجد وافتتاحه للصلاة، رغم أنهم حصلوا على التكاليف كاملة ومقدماً وكانت في حدود نصف مليون جنيه. وهنا أخذت عائلة نجيب محفوظ قرار إتمام البناء بنفسها.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

مارسيل خليفة يضيء مسرح الساحة الرئيسية في جرش

مارسيل خليفة في جرش (المهرجان)
مارسيل خليفة في جرش (المهرجان)
TT

مارسيل خليفة يضيء مسرح الساحة الرئيسية في جرش

مارسيل خليفة في جرش (المهرجان)
مارسيل خليفة في جرش (المهرجان)

استعاد مهرجان جرش روح درويش في أمسية فنية تألق بها الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة، وسط حضور جماهيريّ كبير، ليكون حفلاً لكل محب للفن الأصيل بصوت خليفة، وللشعر الجميل بقصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش.

وفي ثالث ليالي مهرجان جرش في نسخته الـ38، عاش الجمهور على خشبة مسرح الساحة الرئيسية ليلةً مع الفن الملتزم والكلمة المعبِّرة، التي قدمها الموسيقار مارسيل خليفة واسترجع بها ذكرياته مع كلمات الشاعر محمود درويش والشاعر سميح القاسم والشاعر علي فودة، وغيرهم من شعراء المقاومة والشعراء الذين كتبوا للوطن.

حضرت الحفل رئيسة اللجنة العليا لمهرجان جرش وزيرة الثقافة هيفاء النجار، والمدير التنفيذي لمهرجان جرش أيمن سماوي والشاعر اللبناني زاهي وهبي.

ووسط تفاعل كبير قدَّم خليفة نخبة من أجمل ما غنى، منها: «أيها المارون» وردَّد الأبيات الأولى من القصيدة قبل أن ينشدها بصوته العذب، و«منتصب القامة أمشي» للشاعر الفلسطيني سميح القاسم التي تعالت معها أصوات الجمهور ليشاركه الغناء.

واستكمل خليفة أمسيته الفنية بغناء «إني اخترتك يا وطني» للشاعر الفلسطيني علي فودة، و«تانغو لعيون حبيبتي»، وختم أمسيته الفنية بتوجيه رسالة صمود لشعب غزة بأغنية «شدو الهمة الهمة قوية».