شهدت التسعينات من القرن الماضي، في الجزيرة العربية والخليج، بروز شعرية مختلفة تمثلت في قصيدة النثر التي كسرت هيمنة قصيدة التفعيلة بعد أن تربع الشكل التفعيلي على عرش القصيدة طوال السبعينات والثمانينات من ذلك القرن على وجه التقريب. برزت قصيدة النثر لعدة أسباب، كان من أهمها سعي الشعراء لتجديد لغة القصيدة وبنيتها بعد أن بدا أن اللغة الشعرية أنهكتها عقود من الاستعمال، وصار من الصعب اجتراح جديد في تلك اللغة أو الأبنية. ذلك السبب نفسه كان وراء انتشار التفعيلة في السبعينات والثمانينات، وهو الآن وراء تحول آخر لم يلغِ ما سبقه، لكنه أضاف إليه على نحو يشي بشعور مشابه لذلك الذي أدى إلى التحولات السابقة.
مع بدء الألفية الثانية (وهناك من يقول إنها الثالثة) بدأت ملامح التحول إلى شعرية جديدة تلوح في الأفق، وتزاحم ما سبقها بنشر عدة دواوين لشعراء حققوا مكانة على الخريطة الشعرية، سواء في السعودية أو دول منطقة الخليج العربي الأخرى. الملمح الرئيس لتلك الشعرية المختلفة أو الجديدة هو استعادة الشكل المعروف بالتناظري أو العمودي، شكل الوزن والقافية والإيقاع الثابت غالباً. قصائد الشعراء الذين أشير إليهم هنا، وهم شعراء سعوديون، تستعيد ذلك الشكل في خروج واضح وربما حاد، ليس على قصيدة النثر فحسب، وإنما على قصيدة التفعيلة أيضاً، القصيدة احتفظت بالوزن وإلى حد ما بالقافية، لكنها غيرت عدد التفعيلات في أسطر القصيدة. هنا يستعاد البيت الشعري في مجمل الأعمال، ومع البحر الشعري الواحد (وإن نوّع البعض في البحور في القصيدة الواحدة). غير أن هذه الاستعادة للشكل الذي سأسميه البيتي وإن شاعت تسميته بالعمودي، لم تعنِ العودة للقصيدة بصورتها القديمة أو للقصيدة العمودية كما عُرفت في التراث العربي؛ أي الشكل التقليدي للقصيدة، بل إن هذه العودة أو الاستعادة تضمنت خروجاً حتى على الشكل البيتي بشكله الأحدث لدى شعراء معاصرين، مثل غازي القصيبي وجاسم الصحيح وغيرهما.
ما نجده لدى شعراء سعوديين آخرين، مثل عبد الوهاب أبو زيد ومحمد إبراهيم يعقوب وعبد اللطيف بن يوسف وهيفاء الجبري وحاتم الزهراني وسلطان السبهان وحيدر العبد الله، وغيرهم، هو خروج متعمد على الكثير مما اتسمت به القصيدة التناظرية، سواء من حيث المجازات أو المفردات أو معمار النص الشعري، على تفاوت بين الشعراء والقصائد في مدى ذلك الخروج وقيمته، لكن من المهم هنا أن أؤكد أيضاً أن الظاهرة المشار إليها لم تعنِ أن كل القصائد التي كتبها أولئك الشعراء تنسحب عليها سمات تلك الظاهرة؛ فلدى بعض أولئك الشعراء قصائد أقرب إلى قصائد التفعيلة أو ما عُرف بالشعر الحر، لكني أظن أن الغالب على المنتج الشعري لديهم أو لدى معظمهم هو الاحتفاظ بالوزن والقافية. وستقتصر أمثلتي على ذلك المنتج كما يتجلى في مقاربة القصائد لثيمة واحدة اخترتها لأهميتها، وزيادة في إيضاح ما تسعى هذه الملاحظات إلى إيضاحه. تلك الثيمة هي الشعر نفسه؛ إذ يتحول إلى ثيمة أو موضوعة للقصائد.
يقول عبد الوهاب أبو زيد في قصيدة من ديوان حديث بعنوان: «عشاء وحيد لروحي الوحيدة» (2021)... عنوان القصيدة: «إذا كان شعر»، ويلاحظ التصريع أو توافق القافية بين شطري مطلع القصيدة:
إذا كان شعر فليكن مفرداً حرّا
كومض شهاب في سماواته مرّا
أبيّاً فلا يحني له المال هامة
ولا يُشترى إذ أتعس الشعر ما يُشرى
لتنتهي بالتأكيد على حرية الشعر؛ إذ يطالب الناس بألا يقيدوا الشعر:
ولا ترسفوا في القيد من ليس كائناً
إذا لم يكن ما بينكم مفرداً حرا
المفارقة الواضحة هنا هي أن الشاعر اختار قيود الشعر المعروفة وهو يطالب بتحرير الشعر، التحرير الذي كان وراء الخروج على بنية القصيدة التقليدية حين بدأت حركة الحداثة لدى جيل بدر شاكر السياب، فعُرف شعرهم بالشعر الحر. ولربما أن أبو زيد لا يرى قيد الوزن والقافية قيداً حقيقياً، وإنما هو معنيّ بقيود معنوية تطالب الشعر بالخضوع للمادة.
القلق على مآلات الشعر هو ما يكمن خلف العديد من قصائد محمد إبراهيم يعقوب. في ديوان مبكر له عنوانه: «تراتيل العزلة» يعود لعام 2005، ينظم يعقوب قصيدة بعنوان: «تجليات أخرى» مطلعها:
بمن سوف أنجو... زورق الليل مغمد
وفي لجتي سيفان ناي وموعد
تتضمن بيته البديع:
صعدت المرايا... كلما خلتُ بهجة
تنبهت أن الفقد ما كان يصعد
لتنتهي القصيدة بقوله:
أنا لعنة الطوفان... أقصى رغائبي
ظهوري على أرض بها الشعر سيد!
تطرح هذه الأبيات من قصيدتي أبو زيد ويعقوب سؤالاً حول الهواجس التي دفعت بهؤلاء الشعراء وغيرهم إلى تبني الشكل التقليدي في القصيدة: هل هو الشعور باستنفاد قصيدة النثر والقصيدة التفعيلية لجماليات ودلالات لغتهما الشعرية، أو هو القلق على وضع الشعر، والرغبة من ثم في استعادة مكانته عبر إيقاع وشكل شعريين هما أقرب إلى الجمهور من حيث هما مألوفان ومن التراث؟ الاحتمال الأخير يفرض نفسه، لكنه لا يكفي لتفسير الظاهرة، الأمر الذي يجعل الاحتمال الأول وارداً بقوة، وقد يكون السببان مجتمعين وراء التغير الحاصل؛ ذلك أن اللغة التي تبناها بعض الشعراء ليست مما يعين على تحقيق هدف الجماهيرية، وإن عمل الإيقاع على اجتذاب البعض إلى النص الشعري.
قصائد محمد يعقوب، مثلاً، أنموذج لشعرية يصعب على عامة المتلقين التفاعل معها؛ فهي لغة تبحث عن رهافة المجاز وجدة التراكيب وما تحدثه من دهشة، وهو يذهب في هذا إلى أبعد مما يذهب آخرون. في قصيدة بعنوان: «أعراس المواقيت» من مجموعته «جمر مَن مرّوا» (2010)، يقول في مطلعها:
أفقنا على سكرة مرتين وسرنا لأرواحنا خطوتين
إلى أن يقول:
أناشيدنا ما تبقى لنا
من الحب والخبز والبين بين
مددنا يداً للكلام العصيّ فلما تعبنا مددنا اليدين
في البيتين الأخيرين تحديد لهوية الشعر، ووصف لمحاولات الوصول إليه نظماً وتلقياً. الشعر هو خلاصة الحب والعيش وما بينهما من تفاصيل الحياة، والشعر كلام عصيّ نسعى له مرة، وحين نتعب لا نتوقف، بل نواصل السعي (وهي مفارقة خارجة عن مألوف التعبير؛ لأننا نتوقع أن تكون نتيجة التعب التوقف). إنها صور للشعر لا يتيسر لكل المتلقين استكناهها مثلما أن الشاعر لم يصل إليها بيسر؛ فهي كلام عصيّ على الجميع. تناظرية الشكل هنا وفي قصائد أخرى ليعقوب تتأسس على مقاربة الشعر من حيث هو كلام عصيّ. يؤكد ذلك ما نجد في أحدث دواوين الشاعر، وهو: «مجازفة العارف» (2022)؛ إذ يتكرر التمحور حول الشعر وتلقيه في قصيدة بعنوان: «إرث شخصي»، وإن على نحو مخاتل وعصيّ. القصيدة هنا تنزيل سماوي، استراق للسمع كالذي فعله الجن في الآية القرآنية:
وجودك لم يروَ
استرقت قصيدة من العالم العلويّ
فانهال عالم
(هكذا رسم البيت في الديوان، وكان يمكن للشاعر أن يكتب النص على شكل بيتي هو:
وجودك لم يرو استرقت قصيدة
من العالم العلوي فانهال عالم)
ويمضي النص إلى أن نصل إلى قوله مخاطباً الشاعر في نفسه:
نجيّاً...
تربي الهامشي وتحتفي
بكل جنوح لم تقله المعاجم
الشعر هنا ليس استراقاً لكلام سماوي فحسب، بل هو احتفاء أيضاً بالمهمش وبما لا تضمه المعاجم من الألفاظ المرفوضة. المهمش والجانح من مفردات تقع ضمن الأسس التي قامت عليها قصيدة النثر، ويتضح هنا أنها أساس أيضاً لشعرية لا تتردد في الانتظام في بحور الشعر التقليدية. هذا مع أن ترتيب الأسطر في الديوان لا يوحي بأن الأبيات منتظمة ضمن تلك البحور، كأنما هي محاولة للاحتفاظ بمسافة عن البناء التقليدي الذي قد يوهم بعض القراء بأنهم يقرأون قصائد تقليدية، لكن هذه وإن تكررت في غير مجموعة شعرية، فإنها تظل مسألة هامشية؛ لأن الإيقاع أقوى من رسم البيت على الصفحة، ودلالات الشعر وجمالياته أقوى من الإيقاع.
الأمثلة من شعراء آخرين كثيرة، وليست أقل أهمية أو قدرة على تمثيل الظاهرة المشار إليها، لكن المساحة تضيق عن استيعابها.
* جزء من ورقة أُلقيت
بمهرجان الشعر الخليجي بالبحرين في نوفمبر الماضي