عهد عون يصدّع القضاء اللبناني ويحوّله إلى تيارات متصارعة

TT

عهد عون يصدّع القضاء اللبناني ويحوّله إلى تيارات متصارعة

طوى عهد الرئيس ميشال عون آخر صفحاته، وأقفل خلفه أبواب القصر الجمهوري على شغور رئاسي جديد هو الرابع في تاريخ لبنان، لتفتح بعده صفحات المؤسسات الدستورية المتصدعة، الواقفة على حافة السقوط التام.
تتفاوت نسبة النكبات بين مؤسسة وأخرى، إلا أن السلطة القضائية خرجت من عهد عون مشلولة ومعطلة وواهنة وأقرب إلى التفكك، بعدما أرهقتها التدخلات السياسية وقضت على الأمل ببناء «القضاء المستقل»، الذي كان عنواناً أساسياً في خطاب القسم الذي أطلقه عون فور انتخابه، وظل يردده طيلة ولايته.
تعددت الكوارث التي أصابت الجسم القضائي على مدى السنوات الست الماضية، ولم يسبق للقضاة أن عاشوا حالة الإحباط التي تصاحبهم اليوم، فحملات التجريح والتنكيل استباحت كل المواقع وكل المرجعيات المحصنة ضمن محراب العدالة، واللافت أنها تركزت في الأسابيع الأخيرة على رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود شخصياً، وقد أفرد الرئيس عون أجزاء مهمة من مقابلاته التلفزيونية الأخيرة ومن خطاب الوداع، لمهاجمة القاضي عبود، لتحميله مسؤولية انهيار الواقع القضائي.
الغريب في الأمر أن القاضي عبود الذي اختاره عون شخصياً وعينه في أعلى منصب قضائي، بات هدفاً مباشراً له في محاولة لتشويه صورته وإقالته من موقعه. والسبب - كما تقول مصادر قضائية - أن عبود نظم مع مجلس القضاء الأعلى تشكيلات قضائية أقصت بعض القضاة المحسوبين على رئيس الجمهورية من مواقعهم الحساسة لعدم كفاءتهم وأهليتهم، كما رفضه تعيين قاضية مقربة من عون كمحقق رديف بملف انفجار المرفأ، وأصر على اختيار قاضٍ حيادي متحرر من القيود السياسية.
لم يكن هجوم رئيس الجمهورية على المرجع القضائي الأول وليد ساعته، بل مهّد له نواب وقياديون في التيار العوني، عبر تظاهرات نظمت تحت منزل عبود، وكلمات وصفته بأنه «رئيس مافيا»، قبل أن يلجأ هذا الفريق إلى تقديم شكوى أمام هيئة التفتيش القضائي ضده.
صحيح أن الخيبات بدأت بعد أشهر قليلة على انتخاب عون، وتحديداً مع صدور التشكيلات القضائية التي أعدّها سليم جريصاتي (أول وزير للعدل في عهد عون)، وشكلت انقلاباً فاضحاً على المعايير، حيث نصبت المقربين من رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل في المفاصل الأساسية للقضاء خصوصاً في النيابات العامة. وأعلن وزير العدل الأسبق أشرف ريفي أن «العقلية التي أدارت القضاء بعد وصول عون إلى قصر بعبدا شكلت فضيحة مدوية». وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أن جريصاتي «أرسى سياسة قضائية غير مسبوقة، فتدخل بكل شاردة وواردة، ولم تقف تدخلاته مع قضاة النيابات العامة، بل طالت القضاء الجالس، ويكفي التذكير باتصاله برؤساء محاكم والطلب منهم إصدار أحكام مشددة ببعض الملفات، وبعض هذه الاتصالات موثقة بالصوت والصورة». ولفت ريفي إلى أن «أداء غادة عون (المدعية العامة في جبل لبنان) التي جعل منها عون مدعياً عاماً للجمهورية، ويمدد صلاحياتها إلى كل المحافظات، على العقل التدميري في إدارة القضاء»، معتبراً أن «الخطأ القاتل تمثل بقرار تعيين محقق عدلي رديف بملف انفجار مرفأ بيروت، في أكبر مخالفة للقانون، وفي خطوة ترقى إلى مستوى الفضيحة». أما شعارات استقلال القضاء ومحاربة الفساد، فقد نسفتها ممارسات هذا الفريق، على حد تعبير اللواء ريفي، الذي لم يفاجأ بالانقلاب عليها. وقال وزير العدل الأسبق: «تاريخ ميشال عون حافل بالتناقضات والانقلاب على المبادئ، هذا الرجل الذي أعلن حربه على الميليشيات والسلاح غير الشرعي، عندما كان رئيساً للحكومة العسكرية، انقلب على تاريخه وتحالف مع أكبر وأخطر ميليشيا (حزب الله)، ووصل إلى رئاسة الجمهورية بقوة البندقية غير الشرعية، كما أنه تعهد في خطاب القسم بمحاربة الفساد في المؤسسات، لكن الخيبة كانت بدوره في هدم بنيان القضاء وتشريع ثقافة الفساد في لبنان».
لا تختلف مقاربات المعنيين بالشأن القضائي، حول توصيف التدخلات السياسية التي وضعت القضاء في دوامة الشلل والتعطيل، وأكد مصدر قضائي بارز لـ«الشرق الأوسط»، أن «المعضلة الكبرى تمثلت في تعطيل الرئيس عون لمرسوم التشكيلات القضائية الشاملة، لكونها المدخل الأساس لتنقية الجسم القضائي من الشوائب، ووضع القاضي المناسب في المكان المناسب». ولفت إلى أن «التفويض المطلق للقاضية غادة عون، وتطرف الأخيرة في ملاحقاتها سددت ضربة قوية لمصداقية العمل القضائي، خصوصاً أن ملاحقاتها طالت فقط خصوم ميشال عون وجبران باسيل»، لافتاً إلى أن «قرار تعيين محقق عدلي رديف بملف المرفأ خالف الأسس القانونية، وشكّل التدخل الأخطر بعمل القضاء». وذكر أن «أطرافاً سياسية أخرى (الثنائي الشيعي) تعطل التحقيق منذ عشرة أشهر، عبر الدعاوى المقامة ضد المحقق العدلي طارق البيطار، وساهمت بوقف كل الإجراءات».
بعض القضاة آثروا مغادرة محراب العدالة قبل استفحال الأزمة، وأولهم رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر، الذي استقال من القضاء بعد أشهر قليلة من تسلم عون مهامه الرئاسية، الدافع الأساس لهذه الاستقالة سببه نقل صادر من منصبه، لأنه رفض المصادقة على مرسوم يقضي بتعيين قاضٍ مقرب من عون في منصب رفيع، وقد علل صادر الرفض يومها بأن هذا «القاضي المذكور لديه ملفات أمام هيئة التفتيش القضائي، ولا يمكن مكافأته وهو في دائرة الشبهة».
ويتجاوز القاضي شكري صادر محطة إقالته من منصبه التي دفعته إلى الاستقالة من القضاء، ليتحدث عن «النقطة الأكثر سواداً بتعاطي رئيس الجمهورية من القضاء، من خلال تجميد مرسوم التشكيلات القضائية الشاملة منذ أربع سنوات، لأن هذه التشكيلات شملت عدداً من القضاة المحسوبين عليه، ونقلتهم إلى مواقع أخرى لعدم كفاءتهم». وأشار صادر لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود «أكبر الذين أصيبوا بالخيبة، فالأخير كانت لديه الإرادة والعزيمة على تنظيف القضاء من بؤر الفساد ومن جزر الأزلام والمحسوبيات، بينما إرادة عون كانت تركز على قطع رؤوس القضاة المحسوبين على خصومه السياسيين». وأكد أن عون «أحبط كل المحاولات التي قام بها مجلس القضاء وبإجماع أعضائه، اعتماد مبدأ الثواب والعقاب وإقصاء القضاة الذين تحوم الشبهات حول أدائهم، وعلى رأسهم القاضية غادة عون، التي تواجه 24 دعوى أمام التفتيش القضائي والمجلس التأديبي بسبب تمردها على رؤسائها خصوصاً مجلس القضاء والنائب العام التمييزي (القاضي غسان عويدات)، ولذلك قرر عون منحها وسام الاستحقاق الرفيع».
لا تقف أزمة القضاء عند تحريك النيابات العامة وفقاً لإرادة هذه الجهة أو تلك، بل امتدت لتطال رأس الهرم القضائي، ولا يخفي شكري صادر مرارته، من «تحويل مجلس القضاء الأعلى في الأشهر الأخيرة إلى تيارات سياسية، عبر تعيين أعضاء جدد تابعين سياسياً للرئيس عون، ما سمح بتطويق رئيس مجلس القضاء سهيل عبود، وبضرب التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت». واعتبر أن «إصرار عون (عبر وزير العدل هنري الخوري) على تعيين القاضية سمرندا نصار محققاً رديفاً بملف المرفأ يشكل فضيحة كبرى، لأن القاصي والداني يعرف أن هذه القاضية محسوبة على التيار الوطني الحر (الذي يرأسه جبران باسيل)، ومن أشد المؤيدين له». وجزم صادر بأن القاضي سهيل عبود «يواجه الآن وحيداً منظومة السلطة وعلى رأسها عون وجبران باسيل»، مذكراً بأن «محاكم التمييز الفرنكوفونية التابعة لـ120 دولة تنطق باللغة الفرنسية، أعلنت صراحة أن القاضي عبود يقف وحيداً بوجه سلطة الفساد في لبنان، ولذلك لا ننتظر تغييراً في لبنان».


مقالات ذات صلة

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

المشرق العربي رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

تُوفّي الموسيقار اللبناني إيلي شويري، عن 84 عاماً، الأربعاء، بعد تعرُّضه لأزمة صحية، نُقل على أثرها إلى المستشفى، حيث فارق الحياة. وأكدت ابنته كارول، لـ«الشرق الأوسط»، أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن تعلم به العائلة، وأنها كانت معه لحظة فارق الحياة.

المشرق العربي القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

وجّه المجلس التأديبي للقضاة في لبنان ضربة قوية للمدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، عبر القرار الذي أصدره وقضى بطردها من القضاء، بناء على «مخالفات ارتكبتها في إطار ممارستها لمهمتها القضائية والتمرّد على قرارات رؤسائها والمرجعيات القضائية، وعدم الامتثال للتنبيهات التي وجّهت إليها». القرار التأديبي صدر بإجماع أعضاء المجلس الذي يرأسه رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجار، وجاء نتيجة جلسات محاكمة خضعت إليها القاضية عون، بناء على توصية صدرت عن التفتيش القضائي، واستناداً إلى دعاوى قدمها متضررون من إجراءات اتخذتها بمعرض تحقيقها في ملفات عالقة أمامها، ومخالفتها لتعليمات صادرة عن مرجع

يوسف دياب (بيروت)
المشرق العربي جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن فرص انتخاب مرشح قوى 8 آذار، رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، «باتت معدومة»، مشيراً إلى أن الرهان على الوقت «لن ينفع، وسيفاقم الأزمة ويؤخر الإصلاح». ويأتي موقف جعجع في ظل فراغ رئاسي يمتد منذ 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث فشل البرلمان بانتخاب رئيس، وحالت الخلافات السياسية دون الاتفاق على شخصية واحدة يتم تأمين النصاب القانوني في مجلس النواب لانتخابها، أي بحضور 86 نائباً في دورة الانتخاب الثانية، في حال فشل ثلثا أعضاء المجلس (86 نائباً من أصل 128) في انتخابه بالدورة الأولى. وتدعم قوى 8 آذار، وصول فرنجية إلى الرئاسة، فيما تعارض القوى المسيحية الأكثر

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

جدد سفير المملكة العربية السعودية لدى لبنان، وليد بخاري، تأكيد موقف المملكة من الاستحقاق الرئاسي اللبناني بوصفه «شأناً سياسياً داخلياً لبنانياً»، حسبما أعلن المتحدث باسم البطريركية المارونية في لبنان بعد لقاء بخاري بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، بدأ فيه السفير السعودي اليوم الثاني من جولته على قيادات دينية وسياسية لبنانية. وفي حين غادر السفير بخاري بكركي من دون الإدلاء بأي تصريح، أكد المسؤول الإعلامي في الصرح البطريركي وليد غياض، أن بخاري نقل إلى الراعي تحيات المملكة وأثنى على دوره، مثمناً المبادرات التي قام ويقوم بها في موضوع الاستحقاق الرئاسي في سبيل التوصل إلى توافق ويضع حداً للفراغ الرئا

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

تأتي جولة سفيرة الولايات المتحدة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا على المرجعيات الروحية والسياسية اللبنانية في سياق سؤالها عن الخطوات المطلوبة لتفادي الشغور في حاكمية مصرف لبنان بانتهاء ولاية رياض سلامة في مطلع يوليو (تموز) المقبل في حال تعذّر على المجلس النيابي انتخاب رئيس للجمهورية قبل هذا التاريخ. وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر نيابية ووزارية أن تحرك السفيرة الأميركية، وإن كان يبقى تحت سقف حث النواب على انتخاب رئيس للجمهورية لما للشغور الرئاسي من ارتدادات سلبية تدفع باتجاه تدحرج لبنان من سيئ إلى أسوأ، فإن الوجه الآخر لتحركها يكمن في استباق تمدد هذا الشغور نحو حاكمية مصرف لبنان في حال استحال عل

محمد شقير (بيروت)

مصادر لـ«الشرق الأوسط»: تركيا ستطالب أميركا بموقف حاسم من «الوحدات» الكردية

مسيّرات تركية قصفت مستودع أسلحة يعود لقوات النظام السابق بمحيط مطار القامشلي (المرصد السوري)
مسيّرات تركية قصفت مستودع أسلحة يعود لقوات النظام السابق بمحيط مطار القامشلي (المرصد السوري)
TT

مصادر لـ«الشرق الأوسط»: تركيا ستطالب أميركا بموقف حاسم من «الوحدات» الكردية

مسيّرات تركية قصفت مستودع أسلحة يعود لقوات النظام السابق بمحيط مطار القامشلي (المرصد السوري)
مسيّرات تركية قصفت مستودع أسلحة يعود لقوات النظام السابق بمحيط مطار القامشلي (المرصد السوري)

أكدت تركيا استمرار فصائل «الجيش الوطني السوري» الموالي لها في التقدم بمناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)».

وقالت مصادر دبلوماسية لـ«الشرق الأوسط» إن تركيا ستطلب موقفاً أميركياً واضحاً وحاسماً تجاه مسألة دعم «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تعدّ أكبر مكونات «قسد»، وذلك خلال مباحثات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في أنقرة الجمعة.

وأكد مسؤول بوزارة الدفاع التركية أن فصائل «الجيش الوطني السوري» تواصل تقدمها لـ«تطهير شمال سوريا من الإرهاب»، في إشارة إلى معركة «فجر الحرية» التي تنفذها الفصائل بمناطق سيطرة «قسد»، والتي تمت خلالها السيطرة على مدينتي تل رفعت ومنبج.

بلينكن وصل إلى الأردن الخميس ويزور تركيا الجمعة لمباحثات حول سوريا (رويترز)

وقال المسؤول العسكري التركي، خلال إفادة أسبوعية من وزارة الدفاع التركية الخميس، إن «تركيا أبلغت الولايات المتحدة مراراً بأن منظمة إرهابية (داعش) لا يمكن القضاء عليها باستخدام منظمة إرهابية أخرى (الوحدات الكردية)».

استثمار الحرب على «داعش»

وأضاف المسؤول أن «الوحدات» الكردية تعمل على «خطة قذرة»، وأنها «تحاول خلق انطباع لدى العالم بأن تنظيم (داعش) في شمال شرقي سوريا لم ينته، وذلك بارتداء ملابس إرهابيي التنظيم»، مشدداً على أن القوات التركية والفصائل الموالية لها لن تمنحها الفرصة لكسب مساحة في شمال سوريا.

وتابع المسؤول العسكري التركي: «نتابع جميع أنواع الأنشطة التي تهدف إلى توفير مظلة حماية لـ(حزب العمال الكردستاني) و(وحدات حماية الشعب) عبر خلق التصور بأن خطر (داعش) لا يزال مستمراً في شرق الفرات. أكدنا لمحاورينا (الأميركيين)، مراراً وتكراراً، أنه لا يمكن إنهاء منظمة إرهابية باستخدام منظمة إرهابية أخرى».

وقال المسؤول العسكري التركي إن عمليات فصائل «الجيش الوطني» ستستمر، مشيراً إلى «اكتشاف شبكات أنفاق كبيرة في منبج بما يكفي لإدخال الإرهابيين (الوحدات الكردية) مركبات».

تدريبات مشتركة بين قوات أميركية و«قسد» في شمال شرقي سوريا (إعلام تركي)

وأضاف أن العمليات التي تنفذها القوات التركية وفصائل «الجيش الوطني» في شمال سوريا منذ سنوات هي «جزء من الحرب ضد الإرهاب، وتدخل في إطار حماية السلامة الإقليمية، وضمان الوحدة السياسية لسوريا، وإنهاء الأنشطة الإرهابية المزعزعة للاستقرار، والمساهمة في أمن حدود تركيا، والقضاء على التهديد الإرهابي ضد البلاد».

الخلاف بشأن «الوحدات» الكردية

في السياق ذاته، قالت مصادر دبلوماسية لـ«الشرق الأوسط» إن أنقرة ستطلب من أميركا تحديد موقفها بشكل واضح وحاسم من دعمها المستمر «وحدات حماية الشعب» الكردية.

وأضافت المصادر: «سيجري إبلاغ بلينكن بأنه إذا لم تتخذ بلاده موقفاً وتضع مسافة مع (الوحدات الكردية)، فإن تركيا ستفعل اللازم من أجل حماية حدودها وشعبها من تهديداتها».

ولفتت إلى أن واشنطن لم تلتزم بالتفاهمات الموقعة مع تركيا؛ «سواء المتعلقة بمنبج وشرق الفرات في عامي 2018 و2019 بشأن إبعاد (الوحدات الكردية) عن الحدود الجنوبية لتركيا بمسافة تتراوح بين 30 و40 كيلومتراً».

وأكدت أن تركيا عازمة على استكمال الحزام الأمني بهذا العمق بطول حدودها مع سوريا البالغ 900 كيلومتر.

على الجانب الآخر، وقبل زيارة بلينكن تركيا، أعطت واشنطن إشارات واضحة على استمرار دعمها «الوحدات» الكردية، مع إقرارها بحق تركيا في الدفاع عن نفسها في مواجهة الهجمات التي تتعرض لها.

مباحثات بين وزيري الخارجية التركي والأميركي في أنقرة خلال نوفمبر 2023 (الخارجية التركية)

وقال المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، الأربعاء، إن «الأتراك لديهم حق مشروع في الدفاع عن مواطنيهم وأراضيهم ضد الهجمات الإرهابية، وهم حليف مهم في (حلف شمال الأطلسي - ناتو)، لكن الإدارة الأميركية لديها اهتمام بملاحقة تنظيم (داعش)، وهذا يعني الشراكة مع (قوات سوريا الديمقراطية - قسد)، وسيستمر ذلك، وحيثما يتداخل هذان الهدفان أو يتعارضان، فسنجري، كما فعلنا، المحادثات المناسبة مع الأتراك بشأن كيفية تحقيق هاتين النتيجتين».

بدوره، قال وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، إن بلاده «تعمل وتتواصل مع قوات (قسد) التي تقودها (الوحدات) الكردية، وهي شريك رئيسي في القتال المستمر ضد تنظيم (داعش) الإرهابي. لقد عملنا جنباً إلى جنب مع (قسد) لبعض الوقت، وهذا العمل مستمر. لدينا علاقة جيدة معهم، وأعتقد أن الأمر سيبقى على هذا النحو».

وعدّ السيناتور الجمهوري من ولاية داكوتا الشمالية، كيفن كرامر، أن «تورط تركيا في سوريا (غريب)»، قائلاً: «علينا ألا نصمت إذا شنت تركيا حملة متصاعدة ضد الأكراد».

استهدافات تركية مستمرة

في السياق، واصلت تركيا استهدافاتها للعتاد العسكري ومخازن الأسلحة والذخيرة التي خلفتها قوات نظام بشار الأسد في القامشلي بمحافظة الحسكة في شمال شرقي سوريا، واستهدفت مسيّرات تركية للمرة الثانية فوج «طرطب» قرب القامشلي، مما أدى إلى وقوع 3 إصابات في صفوف «قسد».

وقال «المرصد السوري لحقوق الإنسان» إن المسيّرات التركية استهدفت مستودعات ذخيرة في محيط مطار القامشلي، مما أدى إلى انفجارها وتطاير شظايا الذخائر وسقوطها على منازل المدنيين في القامشلي، وسط تحليق مكثف للمسيّرات التركية في سماء المدينة وريفها.

ولفت إلى أن الأسلحة المستهدفة تركها جيش النظام السوري قبل انسحابه من «الفوج 54» جنوب القامشلي، حيث سيطرت قوى الأمن الداخلي في «قسد»، المعروفة باسم «الأسايش»، على المنطقة لاحقاً.

كما استهدفت مسيّرة تركية قرية ديكان على الطريق بين مدينتي صرين وعين العرب (كوباني)، واستهدفت أخرى قبلها بساعات قرى خراب عشك وزور مغار.

آثار قصف تركي لمستودع أسلحة من مخلفات جيش النظام بمحيط مطار القامشلي (المرصد السوري)

وفي الرقة استهدفت المسيّرات نقطة تابعة لقوى «الأسايش»، بالإضافة إلى مستودع على أطراف المدينة.

وجاءت تلك الهجمات بعد عملية نفذتها المخابرات التركية في القامشلي ليل الثلاثاء - الأربعاء، استهدفت آليات ومعدات وأسلحة وذخائر من مخلفات جيش النظام كانت «وحدات حماية الشعب» الكردية تنقلها إلى القامشلي.

على صعيد آخر، قال المسؤول العسكري التركي إن «إسرائيل تحتل الأراضي السورية، وتواصل انتهاك القانون الدولي، وأعلنت ضم المنطقة العازلة، في انتهاك لـ(اتفاقية فصل القوات) الموقعة عام 1974».

وأضاف: «إننا ندين بشدة هذا الغزو الذي سيفيد الجماعات الإرهابية في الوقت نفسه، كما أن الهجمات التي تمنع إرساء الاستقرار في سوريا ستؤثر على الجميع بالمنطقة، بما فيها إسرائيل».

تدفق أقل للعائدين

في غضون ذلك، يستمر تدفق السوريين من تركيا على البوابات الحدودية الثلاث التي فُتحت لعودتهم إلى بلادهم، وهي: باب الهوى (جيلفا غوزو) التي تربط بين هطاي جنوب تركيا وشمال إدلب، وباب السلامة (يايلا داغي) بين هطاي وحلب، وكسب (أونجو بينار) بين كيليس وحلب.

سوريون ينتظرون عند معبر كسب أو أونجو بينار في كيليس التركية للعبور إلى بلادهم (أ.ب)

ولوحظ منذ الأربعاء تراجع في أعداد السوريين المتوجهين إلى البوابات للمغادرة، بعدما كانت شهدت ازدحاماً وطوابير طويلة منذ يوم الأحد وحتى الثلاثاء؛ إذ لا يزال آلاف السوريين، لا سيما الذين لديهم أعمال مستقرة في تركيا، لم يتخذوا قرارات بالعودة، كما تؤجل العائلات التي لديها أبناء يدرسون في تركيا قرارهم حتى انتهاء العام الدراسي في يونيو (حزيران) المقبل.

كما واجه عشرات من السوريين الذين توجهوا إلى البوابات الحدودية مواقف غير متوقعة، حيث تعيد السلطات التركية المسؤولة عن النقاط الحدودية السوريين المطلوبين من الإنتربول أو في قضايا بتركيا أو مَن لم يسووا ديونهم وأوضاعهم المالية قبل المغادرة، فضلاً عن السوريين من مزدوجي الجنسية ويحملون جنسيات أخرى غير التركية.

في الوقت ذاته، أدى تسارع عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم إلى حركة في أسواق السيارات والعقارات وأماكن العمل في تركيا؛ إذ عرض بعض السوريين الذين أرادوا العودة سياراتهم ومنازلهم وأماكن عملهم للبيع العاجل.

سوري يحمل أغراضه متوجهاً إلى معبر باب الهوى بين هطاي وإدلب للعودة إلى بلاده بينما ينتظر آخرون إنهاء إجراءاتهم (إ.ب.أ)

وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن السوريين لن يعودوا إلى بلادهم بين عشية وضحاها، وأن عودتهم ستستغرق وقتاً طويلاً، خصوصاً أولئك الذين أسسوا أعمالاً في تركيا، فإن خبراء يعتقدون أنه حتى مع عودة 10 في المائة منهم (نحو 250 ألفاً) في المرحلة الأولى، فستحدث حركة في الأسواق.

وحذر متعاملون في سوق السيارات المستعملة بتركيا المواطنين من الوقوع ضحايا إعلانات وهمية أو عمليات نصب عبر الإنترنت في ظل استغلال المحتالين مسألة عودة السوريين.