«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (2- 3): شيراك... شهية مفتوحة للنساء والطعام... وطبقه المفضل رأس العجل المطبوخ

الكاتب فرانز أوليفيه جيزبير: الرئيس الأسبق كان «شرهاً» في كل شيء... جاهزاً ليبلع البحر وأسماكه... كل شيء عنده صالح للأكل

برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
TT

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (2- 3): شيراك... شهية مفتوحة للنساء والطعام... وطبقه المفضل رأس العجل المطبوخ

برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)

إذا كان فرانز أوليفيه جيزبير يرى في فرنسوا ميتران «حبه الذي لا يتفوق عليه حب آخر»، فإنه يعترف في كتابه «الزمن الجميل» بأنه أحب أيضاً الرئيس الأسبق جاك شيراك. لكنه يسارع إلى إيضاح أنه «لم يحب السياسي؛ بل أحب الرجل» الذي كان يقف خلف رجل السياسة، لا بل إنه يركز في إحدى صفحات الكتاب (الصفحة 197) على جانبه «الحيواني الطاغي».
يقول جيزبير: «قامته ممشوقة إلى الأعلى، وأنفه متأهب: شيراك كان جاهزاً ليبلع البحر وأسماكه. كان يلهث كالكلب، يركض كالحصان، يجامع كالأرنب، يأكل كالخنزير، كل شيء صالح للأكل».
يقول جيزبير: «كان شيراك فاهاً مفتوحاً بحاجة لملئه في كل وقت. سيجارته على طرف شفتيه، قميصه مفتوح، جميلاً كأحد آلهة الإغريق. كان يضج بحيوية لا مثيل لها عند أحد. كان يحب الناس، يتخطى الحواجز من اليمين واليسار، وكان يهوى الشراب. كان متسرعاً دوماً، خبيث النظرات. وقد نجح في أن يجر وراءه الديغوليين والاشتراكيين وأنصار الوسط، وحتى الشيوعيين في منطقته لا كوريز (وسط فرنسا)، وكنت أسمع من ناخبين في هذه الدائرة قولهم: أنا شيوعي الهوى؛ لكنني أنتخب لصالح شيراك».
ويضيف جيزبير: «لن أرى ولم أرَ أبداً رجلاً يمتلك الطاقة التي امتلكها شيراك. كان يحب الاحتكاك بالناس ولا يفرق بين اليمين واليسار. كان دوماً متعجلاً حتى في شؤون الحب»؛ حيث كانت له نجاحات يعرفها الجميع. ويذكّر جيزبير بما كانت تقوله عنه عشيقاته، من أن الأمور عنده «لا تتخطى الدقائق الخمس».
ومن نوادر شيراك أنه كان ينادي، تندراً، امرأته برناديت شوردون دو كورسيل، المتحدرة من عائلة بورجوازية عريقة، وقد تعرف إليها خلال سنوات دراسته في معهد العلوم السياسية في باريس: «ماما». ويحكى أن الأخيرة كانت تسأل مساء كل يوم معاونيه السؤال نفسه، وهو: «هل تعلمون أين ينام زوجي هذه الليلة؟».

لورانس ابنة شيراك... مأساة حياته الحقيقية

لم يكن زواج شيراك وبرناديت سهلاً؛ إذ إن عائلة الأخيرة رفضت بداية أن ترتبط ابنتهم برجل من عامة الشعب؛ لا بل إنها رفضت أن تتم مراسم الزواج باحتفال ضخم. لذا جرت مراسم الزواج بشيء من السرية في كنيسة متواضعة. وليس سراً أن عائلة برناديت ساعدت شيراك ليعبر إلى عالم السياسة. إلا أن الفضل الأكبر يعود لأحد كبار بارونات منطقة لا كوريز، هنري كويل، الراديكالي - الاشتراكي الذي مد له يد العون. وفي عام 1967 ترشح شيراك للنيابة في منطقة لا كوريز، رافضاً عرض جورج بومبيدو، رئيس الحكومة وقتها الذي اقترح عليه دائرة سهلة. ولأنه نجح في رهانه، بينما كان الآخرون يتوقعون فشله، فقد أثار حشرية الجنرال ديغول الذي عينه وزير دولة مسؤولاً عن شؤون العمالة، ما عبَّد له طريق السياسة والمناصب العليا في الجمهورية الفرنسية. وعمومًا، فقد مر شيراك بها جميعاً، من نائب إلى وزير دولة ووزير داخلية ورئيس حكومة ورئيس بلدية باريس، فرئيس للجمهورية؛ حيث أمضى في قصر الإليزيه 12 عاماً.

العشيقة التي كان مستعداً للتخلي عن كل شيء للزواج بها (غيتي)

يركز جيزبير على طباع شيراك الذي كان شعبياً، قريباً وبسيطاً في تعامله مع الناس، يصافح ويقبل أينما وُجد، ويوزع الابتسامات والتحيات وكلمات الإطراء، و«يدغدغ حتى مؤخرة الأبقار» عندما كان يفتتح المعرض الزراعي الذي يجري كل عام في باريس. ومن أراد أن يرى شيراك على حقيقته، كان عليه أن يتبعه وهو يتنقل بين أجنحة المعرض: كأس بيرة من جانب، وأخرى من الخمر في الجانب المقابل، وما بينهما مزيج من النقانق والسجق. وكان صحنه المفضل رأس العجل المطبوخ.
ويروي جيزبير غداء خاصاً دعاه إليه شيراك عندما كان يتابع إحدى حملاته الانتخابية، ويقول عنه إنه «منظر مدهش. فما كانت الأطباق توضع على الطاولة حتى تفرغ بلمح البصر». ويضيف الكاتب: «لم يكن يكتفي بالوجبات التقليدية؛ بل كان بحاجة لأن يأكل قبل الظهر والعصر»، وهو يقارنه بعمال البناء الذين يلتهمون السندويتشات بشراهة.
ومن الصور التي ينقلها جيزبير عن شيراك أنه كان دائم الحركة، لا يستطيع الجلوس دون أن يحرك ساقيه على الدوام، ويضرب الأرض بقدمه حتى خلال الاجتماعات الرسمية، وهو يشعل السجائر الواحدة بعد الأخرى.
شراهة شيراك امتدت إلى الجنس النسائي. ومن أبرز مغانمه الصحافية الشقراء جاكلين شابريدون، المولودة في عام 1940، والتي عملت في إذاعة لوكسمبورغ، ولاحقاً في صحيفة «لو فيغارو». ويقول جيزبير إن شيراك كان يعيش معها «قصة حب حقيقية»، وكان «مستعداً للتخلي عن كل شيء من أجلها». وكانت جاكلين متزوجة منذ سنوات من السياسي الاشتراكي شارل هيرنو الذي عينه الرئيس ميتران لاحقاً وزيراً للدفاع. لكن جاكلين تعرفت على شيراك في عام 1975، عندما كان رئيساً للوزراء، ووقعت في حبه؛ لا بل إنهما تقاربا إلى درجة أنهما عزما على الزواج رغم أن كلاً منهما كان متزوجاً من جانبه. إلا أن مستشارة شيراك السياسية ماري فرنس غارو، ذات الباع الطويل، منعت شيراك من الإقدام على هذه الخطوة، ونبهته من أنها قد تقضي على مستقبله السياسي. وذهبت غارو -وفق بعض الروايات- إلى حد اقتراح إعطاء عشيقة شيراك مبلغ 500 ألف فرنك مقابل قطع العلاقة، وقد نجحت في ذلك. ولكن لم يعرف ما إذا كانت جاكلين قد قبضت المبلغ أم لا. لكن ما هو معروف أنها حاولت لاحقاً الانتحار؛ لكن محاولتها فشلت. وبعد انفصالها عن هيرنو تزوجت مرتين.

شيراك مستقبلاً رفيق الحريري في قصر الاليزيه (غيتي)

ومن مغانم شيراك المعروفة أيضاً علاقته بالممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي، وهي علاقة لم تكن خافية على الفرنسيين. وتطول مسبحة النساء اللواتي أغراهن شيراك بقامته العالية وضحكته الرنانة وقدراته على التواصل. ومن الأسماء التي تتداول اسم ميشيل بارزاك التي عينها لاحقاً وزيرة للصحة، وأسماء أخرى كثيرة.
بيد أن في حياة جاك شيراك جرحاً عميقاً لم ينجح في علاجه أو تجاوزه، وهو مرض ابنته البكر، لورانس، التي كانت مصابة بمرض جسدي- نفسي أفقدها الشهية وأضعفها حتى الموت. وبعكس أختها كلود التي عملت إلى جانب والدها في قصر الإليزيه، فإن لورانس بقيت بعيدة عن الأضواء بسبب مرضها الذي أصابها وهي في سن الخامسة عشرة من العمر؛ لكنه لم يمنعها من أن تكمل دراستها وتصبح طبيبة. غير أن مرضها أنهكها شيئاً فشيئاً، وسعت عائلتها بكل ما تملك من وسائل لمساعدتها من غير أن تنجح. وعلى الرغم من انشغالاته وارتباطاته، فقد حرص والدها أن يراها باستمرار وأن يتناول الغداء معها مرتين في الأسبوع على الأقل، حتى ولو اضطر إلى تناول وجبتين. وحاولت لورانس الانتحار أكثر من مرة، وفي إحداها قفزت من نافذة شقتها. وفي أبريل (نيسان) من عام 2016 توفيت عن 58 عاماً بعد أن توقف قلبها عن النبض، وفشل الأطباء في إعادة تشغيله. وكلما سئل شيراك عن ابنته كان رده أنها «مأساة حياته».
يكرس جيزبير حيزاً كبيراً من حديثه عن شيراك لحياته السياسية، ولنزاعه مع الرئيس فاليري جيسكار ديستان الذي كان في زمانه أصغر رؤساء الجمهورية سناً (47 عاماً). ويروي الكاتب تفاصيل الحملة الرئاسية التي انطلقت مباشرة بعد وفاة الرئيس جورج بومبيدو في عام 1974، وهو في قصر الإليزيه، بداء السرطان. وقتها، كان في الساحة 3 مرشحين رئيسيين: الأول جاك شابان دلماس، رئيس الحكومة السابق ورئيس البرلمان ورئيس بلدية مدينة بوردو الشهيرة وصاحب برنامج إصلاحي متقدم. وكان شابان دلماس مرشح الحزب الديغولي الذي ينتمي إليه شيراك. والمرشح الثاني كان جيسكار ديستان، وزير المالية ومرشح تجمع الوسط، والثالث فرنسوا ميتران، أمين عام الحزب الاشتراكي. ومن جانبه، لم يكن شيراك، وزير الداخلية، يخفي طموحاته السياسية. وبسب انتمائه كما شابان دلماس للتيار الديغولي، كان من المفترض به أن يدعم مرشح حزبه. إلا أنه كانت لشيراك حسابات سياسية مختلفة، إذ اعتبر أن نجاح شابان دلماس سوف يضعفه ويقطع عليه طريق المستقبل. من هنا، عمد إلى تعبئة 33 نائباً في البرلمان و4 وزراء وشخصيات أخرى من حزبه، وأصدروا «نداء الـ43»، وفيه دعوا لانتخاب جيسكار ديستان الذي فاز بالرئاسة متقدماً على فرنسوا ميتران بـ425 ألف صوت فقط. وكانت مكافأته بأن سماه جيسكار ديستان رئيساً للحكومة، بحيث أصبح شيراك في سن الـ42 عاماً أصغر رئيس للحكومة سناً. لكن، منذ تلك الفترة، اتُّهم شيراك بالوصولية؛ لا بل بالخيانة وبتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة الحزبية والعامة.

الرئيس شيراك والممثلة كلوديا كاردينالي (غيتي)

لكن العلاقة بينه وبين جيسكار لم تكن «شهر عسل»؛ بل علاقة متوترة. شخصيتان مختلفتان: من جهة شيراك الملتهب والمستعجل دوماً: «ابن الشعب»، ومن الجهة المقابلة جيسكار ديستان، السياسي الأرستقراطي، ذو الدم البارد الذي سعى منذ بداية عهده لقص جناحي شيراك.
ويروي جيزبير أحد المشاهد التي تعكس التوتر بين الجانبين، ورغبة جيسكار في «إهانة» رئيس الوزراء الذي عينه. ويحصل ذلك في قصر الإليزيه؛ حيث حمل شيراك بيانه الوزاري لرئيس الجمهورية الذي جمع حوله بعض كبار وزرائه، ومن بينهم الوزير جان جاك سيرفان شرايبر، رئيس تحرير مجلة «الإكسبريس» المعروفة. وفي هذه الجلسة، بدا شيراك كطالب يتم امتحانه، أو كصحافي متمرن يطلب منه إعادة كتابة موضوعه. وقال له شرايبر: «هذه المادة بحاجة إلى إعادة النظر بها... إنها لا تساوي شيئاً. ولو كان بومبيدو موجوداً لقال الشيء نفسه». وليس هذا المشهد سوى غيض من فيض.
ويسرد جيزبير قصة دعوة شيراك وزوجته إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع في «حصن بريغانسون» المطل على مياه المتوسط. وهناك، بدت معاملة جيسكار لـشيراك وزوجته مهينة، إذ دعي إلى العشاء مدرب التزلج، وأُجلس الضيفان على كرسيين، بينما جيسكار وزوجته أنيمون خصص لهما مقعدان وثيران.
ويعتبر جيزبير أن جيسكار أراد أن يجعل من شيراك موظفاً ينفذ أوامره وسياساته، وأكثر من ذلك، سعى لوأد الحزب الديغولي المنافس لتجمع الوسط، وهو ما فهمه شيراك الذي نجح في وضع اليد عليه ليجعله أداته الحربية بوجه رئيس الجمهورية. وانتهت العلاقة الجدلية بين الطرفين إلى «الطلاق»؛ حيث قدم شيراك استقالته من رئاسة الحكومة بشكل لم يسبقه إليه أي رئيس حكومة سابق، إذ أعلن ذلك بواسطة بيان مختصر وزع على الصحافة. وفي الانتخابات الرئاسية اللاحقة، لم يتردد شيراك في الترشح منافساً لجيسكار، وحصل على 18 في المائة من الأصوات. واعتبر مناصرو الأخير أن شيراك كما «خان» شابان دلماس في 1974 كذلك «خان» جيسكار في 1981؛ حيث لم يدعُ حزبه وناخبيه للاقتراع لصالحه في الدورة الثانية؛ بل اكتفى بالقول إنه «شخصياً» سيصوت له. والنتيجة كانت أن جيسكار خسر وخرج من الإليزيه.
ويقول جيزبير عن شيراك (صفحة 265) فيما يبدو أنه حكم نهائي: «إنه رجل مسكون. لم أفهم أبداً ما الذي كان يلتهمه من الداخل. هل هو الحيوية المتدفقة؟ هل هو القلق الوجودي؟ هل هو كره الذات؟ هل هي المازوشية؟ لا شك إنها هذه الأمور الأربعة معاً التي تجعله يمدد يومه إلى ما لا نهاية. لم أحب أن ألج إلى رأسه الذي لم يكن دوماً ممتلئاً».
«الشرق الأوسط» تنشر حلقات من كتاب «الزمن الجميل» للكاتب الفرنسي فرانز أوليفيه جيزبير (1- 3): كتاب مثير ينزع «ورقة التين» عن الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران
 

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (3-3): «الزمن الجميل» يرسم صورة «الرئيس الأرستقراطي» المتأرجح بين التقليد والحداثة


مقالات ذات صلة

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب غلاف الرواية

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق على مدى عشرة أيام تزين فعاليات معرض الكتاب العاصمة السعودية (هيئة الأدب)

علوان: معرض الرياض للكتاب أيقونة ثقافية وأكبر المعارض العربية في مبيعات الكتب

بات معرض الرياض الدولي للكتاب عنواناً للريادة الثقافية للسعودية منذ انطلاقه قبل خمسة عقود وتحقيقه سنوياً لأعلى عوائد مبيعات الكتب بين المعارض العربية.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق ترتبط نورة بعالم لغة الإشارة بشكل شخصي بسبب قصة شقيقتها الكبرى (تصوير: أمنية البوحسون) play-circle 02:39

مترجمة سعودية تفتح نوافذ المعرفة لجمهور الصمّ بـ«معرض الرياض للكتاب»

تقوم مترجمة لغة إشارة سعودية بنقل ما يرِد فيها على لسان متخصصين كبار تباينت مشاربهم وخلفياتهم الثقافية إلى جمهور من الصمّ يتطلع لزيادة معارفه وإثراء مداركه.

عمر البدوي (الرياض)

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

ميشيل فوكو
ميشيل فوكو
TT

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

ميشيل فوكو
ميشيل فوكو

حين كتبت حنا آرندت كتابها عن «إيخمان في القدس» كانت تسعى إلى تبيئة مفهوم «تفاهة الشر» في المجال الإنساني المعاصر، بما هو تجاوز غير مفهوم في السياسة والأخلاق والعقيدة. كان في اعتقادها أن إرادة الأذى زيغ ملتبس، لا تفسره صولة الانتقام ولا التسلط، ولم ينأ عن فهمها أن الشر سقم مقيم يتجاوز المحرقة اليهودية، إلى كل اقتراحات الموت الغفير، حين يتراكم بصفات وأشكال مرعبة دون مبرر ولا دليل، شأن ما يحدث في قطاع غزة منذ سنة، لهذا اعتُبرت أطروحتها لمدة غير يسيرة سنداً لمحاولات فهم الوحشية الأسطورية الفجائية وغير الأصلية للمجتمعات، ولعله من سخرية التاريخ أن تضحى دليلاً مضيئاً اليوم لمحاولة فهم ما يجري من قبل الضحية (السابقة/ المؤبدة) أمام أنظار العالم.

حنا آرندت

لكن المفهوم الدال على التوحش الإنساني وعلى انعدام المبرر في الأذى، والعبثية في التعذيب والقتل، كان شاملاً للانحراف البشري تاريخياً إلى تخفيف العالم من تخمة الأصول والهويات، ذاك كان ديدن الحروب الدينية والطائفية والعرقية من حرب طروادة إلى الإبادة العرقية في فلسطين ومحيطها اليوم، وفي محاكمة «إيخمان» كان انعدام الفهم والحافز صادماً، لكن العقاب أيضاً كان بدون أفق، إذ هل يكفي عقاب شخص لإقامة العدالة، إزاء جرائم تهم مجتمعات، أو دولاً أو البشرية جمعاء؟ ما الذي يمكن أن ينتهي إليه الأمر خارج الإدانة القضائية للفرد؟ في الآن نفسه الذي لا يطول فيه العقاب «جرم الدولة» إلا رمزياً.

في تاريخ البشرية كان الإعدام السياسي انتقاماً بدون مبررات أخلاقية في محطات عديدة، ولا يحقق الإحساس بإقامة العدالة في عمقه، لهذا سيطر العبث في العقاب، وهو ما جعل ميشيل فوكو يكتب «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، مؤرخاً للعسف والإقصاء والتهميش لمنكوبين (ذهنياً وجسمانياً) ممن كان عزلهم ونفيهم وإرسالهم للمهالك في سفن لا تعرف شطآناً، حلاً لمصيبة البشرية، وهو الحقل الدلالي الذي يمتح منه السلوك العقابي للجيش الإسرائيلي منذ «طوفان الأقصى»، تجاه ساكنة غزة الذين تدرج الانتقام الجماعي منهم من العزل إلى تنظيم إبادات جماعية، إلى دفعهم للهروب إلى المهالك، فيما يشبه «سفينة الحمقى» المطوحة بالمنكوبين للمجهول التي تحدث عنها ميشيل فوكو، حيث قرنت الضحية بغياب العقل، (لنتأمل معجم الإعلام والسياسيين الإسرائيليين الذين تقلبوا بين مراتب وسم الضحية بالجنون منذ بداية الحرب)، وهو المعنى ذاته الذي ينهض عليه مفهوم الضحايا «البلهاء» الذين تحدثت عنهم حنا آرندت، فالضحية هنا نتاج لثنائية متضامنة: هي «غياب العقل» و«عبثية الشر»، تدعمها قاعدة عقائدية أساس هي «من أجل السماء».

في مقال للصحافية الأميركية المقيمة في القدس إليانا رودي تحدثت عن «بينالي القدس للفن اليهودي المعاصر»، الذي ينتظم منذ سنوات في المدينة المحتلة، بما هو «لحظة للتأمل في مفهوم النزاع» ضمن المحتوى الثقافي لليهودية، ولم يكن العنوان العام للبينالي مفارقاً لمضمون ما ورد في عبارة الصحافية، والمتكرر بصيغ شتى في وثائق البينالي، إذ اختصرت فيه الهوية اليهودية وما تنطوي عليه من ذاكرة متصلة بالصراع في شعار: «من أجل السماء».

يعرض البينالي كل دورة أعمال فنانين يهود من إسرائيل وبلدان أوروبية وأميركية وآسيوية وأفريقية، وبمشاركة عدد محدود من الفنانين غير اليهود، في عدة فضاءات في القدس، أغلبها مواقع في القدس الشرقية من مثل محطة القطار الأولى، ومركز التراث اليهودي لشمال أفريقيا، ومتحف هيشال شلومو، ومركز «أخيم حاجد»، وفي المركز طبعاً «برج داوود»، أماكن بتسمياتها الجديدة المستحدثة على أنقاض التسميات العربية القديمة، وبتصفح سريع للتغطيات الصحافية العالمية المواكبة لمضامين الأعمال الفنية المقدمة في دورات البينالي تتبين هيمنة سؤال «الانتماء» في اتصاله بالعقيدة «اليهودية» وبالأرض والماء والسماء والمدينة والرموز والمباني.... وبتعبير إيدو نوي، مدير محتويات المعارض المقامة، فإن اختيار الفضاء جاء باعتبار «القدس تختزل رمزياً جوهر النزاع».

في كتاب «العنف والمقدس» يستحضر المفكر الفرنسي روني جيرار قاعدة شديدة الدلالة في هذا السياق، هي ما سماه «مثلث الرغبة»، حيث الراغب والمرغوب فيه يحتاجان دوماً إلى وسيط مؤثر يتخذ في أحوال كثيرة صيغة نص، قد يكون له مظهر مقدس، من هنا يمكن فهم عنوان البينالي في إحدى دوراته الأخيرة: «من أجل السماء» الذي يستحضر مفردات ومعاني مشتقة من الآية التوراتية، «إن أي نزاع من أجل السماء سوف يدوم في نهاية المطاف، ولن يدوم أي نزاع آخر ليس من أجل السماء».

الرغبة المتصلة بالانتماء، لا تنفصل - بحسب روني جيرار – عن وجود «منافس»، بمعنى: «أن المرء لا يرغب في هذا أو ذاك من الأشياء لما للغرض المرغوب من قيمة في ذاته، بل لأن امرأً آخر نظيره صيره له مرغوباً، بفعل امتلاكه له، أو مجرد الرغبة فيه»، وهو ما يجعل من وساطة النص أو طرف ثالث لازمة لتخطي رغبة المنافس، الأمر هنا لا يفارق مقولة: «النزاع»، التي تخفف من مضمون المعتقد الأصلي المركب والشديد التعقيد، والمولد لمستويات العنف الحسي، المتصل بالمصادرة المادية قبل المصادرة الرمزية.

وقد يستوعب المشاهد ضمن هذا السياق المفهومي عدداً كبيراً من التأويلات لصيغ ومقترحات الأعمال الفنية المعروضة، بالنظر إلى كونها تسعى إلى إعادة تمثيل النزاع والانتماء، بل أحياناً تعيد رسم كنه «اليهودية»، بوصفها هوية تتخطى نطاق العرق والمعتقد، إلى الخطابات المختلفة المنتجة بوازع الرغبة في الانتساب العاطفي، وهو الافتراض الذي يمكننا من فهم ذلك الإلحاح على جعل فنانين من الولايات المتحدة يستعيرون «يهوديتهم» في المعرض بما هي عتبة لتجاوز «التضامن مع» إلى «التماهي بـ» في رباط مقدس، وهو ما تجسده أساساً المعارض التي تستهدف فتح نقاش بين اليهود الإسرائيليين واليهود الأميركيين حول سبل تخطي «النزاعات الطارئة»، كما مثلته أعمال فنانين غير يهود انتسبوا لمكان وعنوان وشعار ترسم كلها ملامح هوية متعالية لكن لها جذور متصلة بمكان «مرغوب» هو القدس.

المفهوم الدال على التوحش الإنساني كان شاملاً للانحراف البشري تاريخياً وكان ذلك ديدن الحروب الدينية والطائفية والعرقية من حرب طروادة إلى الإبادة العرقية في فلسطين

ليس طارئاً ولا متمحّلاً، إذًا، تصريح رامي أوزيري، المسؤول عن البينالي، الذي يحاول أن يعقد صلة مفهومية بين الأطروحة العقدية وأشكال وأساليب الفن المعاصر، المتنقلة بين «الفيديو» و«الأداء» (البيرفورمانس)، و«التجهيز»، و«النحت»، و«الجداريات»، بناء على استبطانها كلها لأشكال الحركة، وتخطي الاستقرار أو الثبات، التي تسم محتوى الاحتفال اليهودي، بما فيه الصلاة، حيث «تعتمد بشكل كبير على حركة الجسم إلى الأمام وإلى الخلف في إيقاع ممتد»، إنها الحركة المولدة لرمزية الشكل بصرف النظر عن تشخصه الفني أو الطقوسي.

ولعل المماثلة هنا تتخطى نطاق قراءة النوازع المتصلة بالأسلوب في اتصاله بالمحور: «التنازع»، والشعار: «من أجل السماء»، إلى امتلاك الشكل الفني في جوهره وجعل انتمائه للفضاء عودة استعارية للشكل التعبيري القائم على مقولات تخطي الهوية والمواطنة العالمية إلى مبدأ الانتماء، (العودة لا مفر منها لأرض الميعاد)، التي تكسبه معنى. في النهاية هي تنويعات بلاغية تسوغ «عبثية الشر» بإنتاج تأويلات تسعى إلى امتلاك المرغوب وتحقيق الرغبة وتخطي المنافس، المرغوب الذي ليس شيئاً آخر، هنا، إلا المدينة الرمز، بنفي هوياتها الأخرى، وجعل الامتلاك بجوهر إنساني، تكون فيه الأعمال تخييلاً للنزاع ضمن دائرة وعي الراغب المهيمن والـمُصادر، لا من قبل صاحب الحق الذي تحول إلى مجرد منافس.