«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (2- 3): شيراك... شهية مفتوحة للنساء والطعام... وطبقه المفضل رأس العجل المطبوخ

الكاتب فرانز أوليفيه جيزبير: الرئيس الأسبق كان «شرهاً» في كل شيء... جاهزاً ليبلع البحر وأسماكه... كل شيء عنده صالح للأكل

برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
TT

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (2- 3): شيراك... شهية مفتوحة للنساء والطعام... وطبقه المفضل رأس العجل المطبوخ

برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)
برناديت الأرستقراطية... وشيراك ابن الشعب (غيتي)

إذا كان فرانز أوليفيه جيزبير يرى في فرنسوا ميتران «حبه الذي لا يتفوق عليه حب آخر»، فإنه يعترف في كتابه «الزمن الجميل» بأنه أحب أيضاً الرئيس الأسبق جاك شيراك. لكنه يسارع إلى إيضاح أنه «لم يحب السياسي؛ بل أحب الرجل» الذي كان يقف خلف رجل السياسة، لا بل إنه يركز في إحدى صفحات الكتاب (الصفحة 197) على جانبه «الحيواني الطاغي».
يقول جيزبير: «قامته ممشوقة إلى الأعلى، وأنفه متأهب: شيراك كان جاهزاً ليبلع البحر وأسماكه. كان يلهث كالكلب، يركض كالحصان، يجامع كالأرنب، يأكل كالخنزير، كل شيء صالح للأكل».
يقول جيزبير: «كان شيراك فاهاً مفتوحاً بحاجة لملئه في كل وقت. سيجارته على طرف شفتيه، قميصه مفتوح، جميلاً كأحد آلهة الإغريق. كان يضج بحيوية لا مثيل لها عند أحد. كان يحب الناس، يتخطى الحواجز من اليمين واليسار، وكان يهوى الشراب. كان متسرعاً دوماً، خبيث النظرات. وقد نجح في أن يجر وراءه الديغوليين والاشتراكيين وأنصار الوسط، وحتى الشيوعيين في منطقته لا كوريز (وسط فرنسا)، وكنت أسمع من ناخبين في هذه الدائرة قولهم: أنا شيوعي الهوى؛ لكنني أنتخب لصالح شيراك».
ويضيف جيزبير: «لن أرى ولم أرَ أبداً رجلاً يمتلك الطاقة التي امتلكها شيراك. كان يحب الاحتكاك بالناس ولا يفرق بين اليمين واليسار. كان دوماً متعجلاً حتى في شؤون الحب»؛ حيث كانت له نجاحات يعرفها الجميع. ويذكّر جيزبير بما كانت تقوله عنه عشيقاته، من أن الأمور عنده «لا تتخطى الدقائق الخمس».
ومن نوادر شيراك أنه كان ينادي، تندراً، امرأته برناديت شوردون دو كورسيل، المتحدرة من عائلة بورجوازية عريقة، وقد تعرف إليها خلال سنوات دراسته في معهد العلوم السياسية في باريس: «ماما». ويحكى أن الأخيرة كانت تسأل مساء كل يوم معاونيه السؤال نفسه، وهو: «هل تعلمون أين ينام زوجي هذه الليلة؟».

لورانس ابنة شيراك... مأساة حياته الحقيقية

لم يكن زواج شيراك وبرناديت سهلاً؛ إذ إن عائلة الأخيرة رفضت بداية أن ترتبط ابنتهم برجل من عامة الشعب؛ لا بل إنها رفضت أن تتم مراسم الزواج باحتفال ضخم. لذا جرت مراسم الزواج بشيء من السرية في كنيسة متواضعة. وليس سراً أن عائلة برناديت ساعدت شيراك ليعبر إلى عالم السياسة. إلا أن الفضل الأكبر يعود لأحد كبار بارونات منطقة لا كوريز، هنري كويل، الراديكالي - الاشتراكي الذي مد له يد العون. وفي عام 1967 ترشح شيراك للنيابة في منطقة لا كوريز، رافضاً عرض جورج بومبيدو، رئيس الحكومة وقتها الذي اقترح عليه دائرة سهلة. ولأنه نجح في رهانه، بينما كان الآخرون يتوقعون فشله، فقد أثار حشرية الجنرال ديغول الذي عينه وزير دولة مسؤولاً عن شؤون العمالة، ما عبَّد له طريق السياسة والمناصب العليا في الجمهورية الفرنسية. وعمومًا، فقد مر شيراك بها جميعاً، من نائب إلى وزير دولة ووزير داخلية ورئيس حكومة ورئيس بلدية باريس، فرئيس للجمهورية؛ حيث أمضى في قصر الإليزيه 12 عاماً.

العشيقة التي كان مستعداً للتخلي عن كل شيء للزواج بها (غيتي)

يركز جيزبير على طباع شيراك الذي كان شعبياً، قريباً وبسيطاً في تعامله مع الناس، يصافح ويقبل أينما وُجد، ويوزع الابتسامات والتحيات وكلمات الإطراء، و«يدغدغ حتى مؤخرة الأبقار» عندما كان يفتتح المعرض الزراعي الذي يجري كل عام في باريس. ومن أراد أن يرى شيراك على حقيقته، كان عليه أن يتبعه وهو يتنقل بين أجنحة المعرض: كأس بيرة من جانب، وأخرى من الخمر في الجانب المقابل، وما بينهما مزيج من النقانق والسجق. وكان صحنه المفضل رأس العجل المطبوخ.
ويروي جيزبير غداء خاصاً دعاه إليه شيراك عندما كان يتابع إحدى حملاته الانتخابية، ويقول عنه إنه «منظر مدهش. فما كانت الأطباق توضع على الطاولة حتى تفرغ بلمح البصر». ويضيف الكاتب: «لم يكن يكتفي بالوجبات التقليدية؛ بل كان بحاجة لأن يأكل قبل الظهر والعصر»، وهو يقارنه بعمال البناء الذين يلتهمون السندويتشات بشراهة.
ومن الصور التي ينقلها جيزبير عن شيراك أنه كان دائم الحركة، لا يستطيع الجلوس دون أن يحرك ساقيه على الدوام، ويضرب الأرض بقدمه حتى خلال الاجتماعات الرسمية، وهو يشعل السجائر الواحدة بعد الأخرى.
شراهة شيراك امتدت إلى الجنس النسائي. ومن أبرز مغانمه الصحافية الشقراء جاكلين شابريدون، المولودة في عام 1940، والتي عملت في إذاعة لوكسمبورغ، ولاحقاً في صحيفة «لو فيغارو». ويقول جيزبير إن شيراك كان يعيش معها «قصة حب حقيقية»، وكان «مستعداً للتخلي عن كل شيء من أجلها». وكانت جاكلين متزوجة منذ سنوات من السياسي الاشتراكي شارل هيرنو الذي عينه الرئيس ميتران لاحقاً وزيراً للدفاع. لكن جاكلين تعرفت على شيراك في عام 1975، عندما كان رئيساً للوزراء، ووقعت في حبه؛ لا بل إنهما تقاربا إلى درجة أنهما عزما على الزواج رغم أن كلاً منهما كان متزوجاً من جانبه. إلا أن مستشارة شيراك السياسية ماري فرنس غارو، ذات الباع الطويل، منعت شيراك من الإقدام على هذه الخطوة، ونبهته من أنها قد تقضي على مستقبله السياسي. وذهبت غارو -وفق بعض الروايات- إلى حد اقتراح إعطاء عشيقة شيراك مبلغ 500 ألف فرنك مقابل قطع العلاقة، وقد نجحت في ذلك. ولكن لم يعرف ما إذا كانت جاكلين قد قبضت المبلغ أم لا. لكن ما هو معروف أنها حاولت لاحقاً الانتحار؛ لكن محاولتها فشلت. وبعد انفصالها عن هيرنو تزوجت مرتين.

شيراك مستقبلاً رفيق الحريري في قصر الاليزيه (غيتي)

ومن مغانم شيراك المعروفة أيضاً علاقته بالممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي، وهي علاقة لم تكن خافية على الفرنسيين. وتطول مسبحة النساء اللواتي أغراهن شيراك بقامته العالية وضحكته الرنانة وقدراته على التواصل. ومن الأسماء التي تتداول اسم ميشيل بارزاك التي عينها لاحقاً وزيرة للصحة، وأسماء أخرى كثيرة.
بيد أن في حياة جاك شيراك جرحاً عميقاً لم ينجح في علاجه أو تجاوزه، وهو مرض ابنته البكر، لورانس، التي كانت مصابة بمرض جسدي- نفسي أفقدها الشهية وأضعفها حتى الموت. وبعكس أختها كلود التي عملت إلى جانب والدها في قصر الإليزيه، فإن لورانس بقيت بعيدة عن الأضواء بسبب مرضها الذي أصابها وهي في سن الخامسة عشرة من العمر؛ لكنه لم يمنعها من أن تكمل دراستها وتصبح طبيبة. غير أن مرضها أنهكها شيئاً فشيئاً، وسعت عائلتها بكل ما تملك من وسائل لمساعدتها من غير أن تنجح. وعلى الرغم من انشغالاته وارتباطاته، فقد حرص والدها أن يراها باستمرار وأن يتناول الغداء معها مرتين في الأسبوع على الأقل، حتى ولو اضطر إلى تناول وجبتين. وحاولت لورانس الانتحار أكثر من مرة، وفي إحداها قفزت من نافذة شقتها. وفي أبريل (نيسان) من عام 2016 توفيت عن 58 عاماً بعد أن توقف قلبها عن النبض، وفشل الأطباء في إعادة تشغيله. وكلما سئل شيراك عن ابنته كان رده أنها «مأساة حياته».
يكرس جيزبير حيزاً كبيراً من حديثه عن شيراك لحياته السياسية، ولنزاعه مع الرئيس فاليري جيسكار ديستان الذي كان في زمانه أصغر رؤساء الجمهورية سناً (47 عاماً). ويروي الكاتب تفاصيل الحملة الرئاسية التي انطلقت مباشرة بعد وفاة الرئيس جورج بومبيدو في عام 1974، وهو في قصر الإليزيه، بداء السرطان. وقتها، كان في الساحة 3 مرشحين رئيسيين: الأول جاك شابان دلماس، رئيس الحكومة السابق ورئيس البرلمان ورئيس بلدية مدينة بوردو الشهيرة وصاحب برنامج إصلاحي متقدم. وكان شابان دلماس مرشح الحزب الديغولي الذي ينتمي إليه شيراك. والمرشح الثاني كان جيسكار ديستان، وزير المالية ومرشح تجمع الوسط، والثالث فرنسوا ميتران، أمين عام الحزب الاشتراكي. ومن جانبه، لم يكن شيراك، وزير الداخلية، يخفي طموحاته السياسية. وبسب انتمائه كما شابان دلماس للتيار الديغولي، كان من المفترض به أن يدعم مرشح حزبه. إلا أنه كانت لشيراك حسابات سياسية مختلفة، إذ اعتبر أن نجاح شابان دلماس سوف يضعفه ويقطع عليه طريق المستقبل. من هنا، عمد إلى تعبئة 33 نائباً في البرلمان و4 وزراء وشخصيات أخرى من حزبه، وأصدروا «نداء الـ43»، وفيه دعوا لانتخاب جيسكار ديستان الذي فاز بالرئاسة متقدماً على فرنسوا ميتران بـ425 ألف صوت فقط. وكانت مكافأته بأن سماه جيسكار ديستان رئيساً للحكومة، بحيث أصبح شيراك في سن الـ42 عاماً أصغر رئيس للحكومة سناً. لكن، منذ تلك الفترة، اتُّهم شيراك بالوصولية؛ لا بل بالخيانة وبتقديم المصلحة الشخصية على المصلحة الحزبية والعامة.

الرئيس شيراك والممثلة كلوديا كاردينالي (غيتي)

لكن العلاقة بينه وبين جيسكار لم تكن «شهر عسل»؛ بل علاقة متوترة. شخصيتان مختلفتان: من جهة شيراك الملتهب والمستعجل دوماً: «ابن الشعب»، ومن الجهة المقابلة جيسكار ديستان، السياسي الأرستقراطي، ذو الدم البارد الذي سعى منذ بداية عهده لقص جناحي شيراك.
ويروي جيزبير أحد المشاهد التي تعكس التوتر بين الجانبين، ورغبة جيسكار في «إهانة» رئيس الوزراء الذي عينه. ويحصل ذلك في قصر الإليزيه؛ حيث حمل شيراك بيانه الوزاري لرئيس الجمهورية الذي جمع حوله بعض كبار وزرائه، ومن بينهم الوزير جان جاك سيرفان شرايبر، رئيس تحرير مجلة «الإكسبريس» المعروفة. وفي هذه الجلسة، بدا شيراك كطالب يتم امتحانه، أو كصحافي متمرن يطلب منه إعادة كتابة موضوعه. وقال له شرايبر: «هذه المادة بحاجة إلى إعادة النظر بها... إنها لا تساوي شيئاً. ولو كان بومبيدو موجوداً لقال الشيء نفسه». وليس هذا المشهد سوى غيض من فيض.
ويسرد جيزبير قصة دعوة شيراك وزوجته إلى قضاء عطلة نهاية الأسبوع في «حصن بريغانسون» المطل على مياه المتوسط. وهناك، بدت معاملة جيسكار لـشيراك وزوجته مهينة، إذ دعي إلى العشاء مدرب التزلج، وأُجلس الضيفان على كرسيين، بينما جيسكار وزوجته أنيمون خصص لهما مقعدان وثيران.
ويعتبر جيزبير أن جيسكار أراد أن يجعل من شيراك موظفاً ينفذ أوامره وسياساته، وأكثر من ذلك، سعى لوأد الحزب الديغولي المنافس لتجمع الوسط، وهو ما فهمه شيراك الذي نجح في وضع اليد عليه ليجعله أداته الحربية بوجه رئيس الجمهورية. وانتهت العلاقة الجدلية بين الطرفين إلى «الطلاق»؛ حيث قدم شيراك استقالته من رئاسة الحكومة بشكل لم يسبقه إليه أي رئيس حكومة سابق، إذ أعلن ذلك بواسطة بيان مختصر وزع على الصحافة. وفي الانتخابات الرئاسية اللاحقة، لم يتردد شيراك في الترشح منافساً لجيسكار، وحصل على 18 في المائة من الأصوات. واعتبر مناصرو الأخير أن شيراك كما «خان» شابان دلماس في 1974 كذلك «خان» جيسكار في 1981؛ حيث لم يدعُ حزبه وناخبيه للاقتراع لصالحه في الدورة الثانية؛ بل اكتفى بالقول إنه «شخصياً» سيصوت له. والنتيجة كانت أن جيسكار خسر وخرج من الإليزيه.
ويقول جيزبير عن شيراك (صفحة 265) فيما يبدو أنه حكم نهائي: «إنه رجل مسكون. لم أفهم أبداً ما الذي كان يلتهمه من الداخل. هل هو الحيوية المتدفقة؟ هل هو القلق الوجودي؟ هل هو كره الذات؟ هل هي المازوشية؟ لا شك إنها هذه الأمور الأربعة معاً التي تجعله يمدد يومه إلى ما لا نهاية. لم أحب أن ألج إلى رأسه الذي لم يكن دوماً ممتلئاً».
«الشرق الأوسط» تنشر حلقات من كتاب «الزمن الجميل» للكاتب الفرنسي فرانز أوليفيه جيزبير (1- 3): كتاب مثير ينزع «ورقة التين» عن الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران
 

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (3-3): «الزمن الجميل» يرسم صورة «الرئيس الأرستقراطي» المتأرجح بين التقليد والحداثة


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.