التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
TT

التقنية في حدود العقل والأخلاق

هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)
هل تبقي الآلة دوراً يؤديه الإنسان مستقبلاً؟ (د.ب.أ)

إن قصة التقنية بدأت منذ أن وجد الإنسان نفسه في مواجهة الطبيعة مع كل ما ينتج عن هذه المواجهة من مخاطر وتحديات وأسئلة وانتظارات. ومن رحم هذا الواقع المتوحش، ولدت فلسفة الفعل التقني التي أسست لصناعة أبسط الأدوات الدفاعية والهجومية والنفعية، وما زالت تفرض نفسها حتى عصرنا الراهن بعد أن تمظهرت من خلال محطات ومنعطفات أساسية في تاريخ البشرية، بدءاً من أبسط الاكتشافات التقنية وصولاً إلى عصر تكنولوجيا النانو، مروراً باكتشاف الذرات وغيرها العديد من الاكتشافات التي ظهرت بفعل التحالف المقدس بين العلم والتقنية.
ومن أبرز محطات فلسفة الفعل التقني كانت الثورة الصناعية الأولى التي تمثلت باكتشاف الآلة البخارية والطباعة، ثم من خلال الثورة الصناعية الثانية التي أتت نتيجة اكتشاف مصادر الطاقة، خصوصاً الطاقة الكهربائية. ولا شك في أن هذه الثورة الصناعية أسهمت في تجاوز وتدمير العالم القديم؛ وقد دامت هذه الثورة طويلاً وصولاً إلى الثورة الصناعية الثالثة التي نعيش في كنفها اليوم وتتمثل في اعتماد البشر الذكاء الاصطناعي من خلال الدعوة إلى تعديل أو تحويل الإنسان من جهة، أو من خلال تجاوزه وإحلال الآلة مكانه من جهة أخرى. هكذا إذن، إن فلسفة الفعل التقني رافقت الإنسان منذ أن بدأ يعي تمايزه عن كائنات الطبيعة الأخرى وراح يحاول عبر التقنية والتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة وتطويعها، فحقق على مراحل متفاوتة وثْباتٍ ومنعطفات مهمة على صعيد العلم والتقنية؛ إلا أن الوثبة الأكثر أهمية في تاريخ البشرية قد تحققت في القرن العشرين، وبدت التقنية رهاناً لهذا القرن، على حد تعبير المفكر الفرنسي جاك إلّول (ELLUL).
أمام هذا التطور التكنولوجي الذي برز من خلال الحلف القائم بين سلطتي التقنية والعلم برزت عدة مساهمات فكرية تدق ناقوس الخطر تجاه جموح التقنية من أجل ردها إلى حدود العقل والعقلانية. ومن أبرز المساهمين في طرح مسألة التقنية في القرن العشرين المفكر الفرنسي جاك إلّول ELLUL من خلال كتابه تحت عنوان «التقنية أو رهان القرن» (La technique ou l’enjeu du siècle)، والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر من خلال بحثه العميق تحت عنوان «مسألة التقنية»، كما برز رواد «مدرسة فرنكفورت» في النقد العميق للعقلانية التكنولوجية. وكذلك شهدنا مساهمة الفيلسوف الألماني هانز يوناس Jonas من خلال كتابه «مبدأ المسؤولية، أخلاق من أجل الحضارة التكنولوجية». في هذا الكتاب، يطرح يوناس إعادة صياغة الأخلاق انطلاقاً من فكرة المسؤولية. ولذلك ينطلق من الأخلاق الكانطية، وخصوصاً من القواعد التي أرساها كانط في كتابه «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» ويركز على دور الأمر القطعي أو الواجب الإلزامي في تأسيس مبدأ المسؤولية، ويحاول أن يستبدل صيغة كانط الأخلاقية المجردة بصيغة أخرى تنسجم مع دعوته للإنسان المعاصر إلى الالتزام بالمستقبل البشري وإلى عدم المخاطرة حتى ولو كان ذلك منطقياً بمصير الأجيال القادمة. وسنحاول التقاط الفرق بين صيغتي كانط ويوناس. إن الأمر القطعي لدى كانط يقول: «افعل بطريقة تستطيع معها أن تريد بأن تصبح حكمتك قانوناً كونياً» ويلاحظ يوناس أن مسألة الاستطاعة هنا هي مسألة منطقية تتعلق بمدى عدم تناقض العقل مع ذاته، أي أن الإنسان العاقل عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كونه واحداً من الكائنات العاقلة، ولذلك عليه أن يحكم بطريقة يكون فيها حكمه كونياً. وبالتالي، إن الاعتبار الأساسي للأخلاق هنا ليس أخلاقياً بل منطقياً، إذ إن الاستطاعة أو عدم الاستطاعة هنا تعبر عن التواؤم أو عدم التواؤم منطقياً وليس عن موافقة أو عدم موافقة. هذا يعني أن الإنسان يستطيع منطقياً أن يريد أو لا يريد تقرير نهاية البشرية. هذا على صعيد المنطق. ولكن على صعيد الأخلاق يجدر التساؤل: من يعطي الحق لحلقة معينة من السلسلة البشرية أن تقطع هذه السلسلة؟ قد يكون من حق أو من واجب جيل معين أو جماعة معينة أن تضحي بنفسها من أجل قضية ما ولكن لا يحق لها أن تتخذ قراراً بقطع السلسلة البشرية، وذلك لأنها مسؤولة عن المستقبل أكثر مما هي مسؤولة عن الحاضر، وبالتالي إن الأمر القطعي عند يوناس يتحول إلى أخلاق من أجل الأجيال القادمة، ليس بمعنى أننا يجب أن نضع من الآن قواعد أخلاقية تلتزم بها الأجيال القادمة، بل بمعنى أن تكون أخلاقنا الراهنة مسؤولة تجاه أجيال المستقبل. ومن أهم المساهمات التي سلطت الضوء على ضرورة إخضاع الجموح التقني لسلطة وقدرة العقل كانت مساهمة الفيلسوف الفرنسي دومينيك جانيكو Janicaud، الذي كان على معرفة قريبة من هايدغر، من خلال كتابه المنشور عام 1985 تحت عنوان «قدرة العقلاني» La puissance du rationnel حيث قدم نظرة ثاقبة وإنذاراً مبكراً تجاه المخاطر التي يسببها جموح التقنية المتفلتة من سلطة العقل والأخلاق.
بالنسبة إلى جانيكو، إن قدرة العقل تتجاوز وتنظم وتضبط الظاهرة التقنية، ولكن هذه القدرة ليست مباشرة أو ظاهرة بل هي خلفية وتظهر من خلال آليات معينة في جميع ميادين الكينونة. يقول جانيكو حول هذه المسألة: «هناك نقطة أضحت مكتسبة: إن العقل لا يسود مباشرة ولا بالكامل في العالم كما لو أنه ملِك أو ساعة ضخمة أو صورة مؤلّهة من قبل الثورة؛ ولكن ما زال هناك الكثير لحل الأحجية التي يقترحها العالم الراهن على روحٍ ما تزال قادرة على الاندهاش: إن التحول التقني - العلمي الشاسع، الذي يتابع مساره وينمي قدراته ومفاعيله من دون توقف، يتم إنجازه، بمعنى ما، باسم العقلانية؛ وعلى أي حال، إنه يضمن سيطرته على العالم من خلال توسط العديد من الآليات العقلية، النظرية، التقنية والعملية... هكذا نصل بذلك إلى منح العقلاني - على الأقل في هيئاته التقنية - العلمية - مزايا القدرة الفعلية، وذلك لأنه، بحلوله محل الأساطير والطقوس والثقافات التقليدية، يصبح ملاذاً وإشارة أو نموذجاً عن النظام الكوني وحتى عن معنى الحياة. ونتيجة لذلك، فإن الإنسان (فرد، طبقة، أو نوع) يفتخر بكونه وكيله ومن منبعه راح يسكر بملذات السلطة»**. ولكن طالما أن الإنسان ينهل سلطته من ينبوع العقل، ما الذي يدفعه إلى الانتفاض ضد العقلانية المسيطرة سواء كانت عقلانية تقنية أم عقلانية سياسية أو فلسفية؟ نحن هنا أمام «مناقضة: لم يكن العالم أبداً معقلناً بهذا الشكل؛ والعقل لم يكن أبداً بهذا العجز»*** هل نحن أمام عجز العقلاني أم أمام قدرته؟ طالما أننا نتمرد على العقلانية وننتقدها فهذا يعني أن العقل مسيطر، وبالتالي يتمتع بالقدرة الكافية لذلك. وبالمقابل، فإن انتصار الأفكار العدمية والنقدية والتفكيك وعدم ارتياح الإنسان تجاه التكنولوجيا وخوفه من المجهول، فهذا يعني أن العقل عاجز عن تقديم مبرراته.
وإذا عدنا إلى المسألة التقنية بصفتها مسألة عقلانية، نجد أنفسنا نتساءل حول الحدود العقلانية للظاهرة التقنية. هل هي ظاهرة محدودة في الزمان والمكان أم أنها غير محدودة؟ عقلانياً، هي قد تكون محدودة وقد تكون غير محدودة. هذا يتوقف على وظيفتها وعلى مدى انتهاكها لقدرة العقل أولاً وللقانون الأخلاقي الإنساني، ثانياً. وفي هذه المسألة، نجد أنفسنا، أيضاً، أمام مناقضة جديدة تتعلق بالتقنية: «إن مناقضة قدرة العقلاني في عصر القدرة يمكن أن تُصاغ على الشكل التالي: أطروحة: كل ما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً سواء كان تحقيقه معتبَراً حسناً أخلاقياً أو مداناً. أما الأطروحة النقيضة فهي: لا شيء مما هو قابل للتنفيذ تقنياً يجب أن يكون متحققاً إذا شكّل تحقيقه خطراً على الأهلية الأخلاقية للبشرية أو ألغاها»****
إن الأطروحة الأولى تتعاطى مع التقنية على أنها ظاهرة حيادية ولا تخضع لأي معيار أو تقدير أخلاقي أو لأحكام القيمة الأخلاقية في عملية تحقيق الموضوع التقني. أما نقيض هذه الأطروحة فيقتضي بأن لا تكون أي عملية تقنية مقبولة إذا انتهكت مبدأ الأخلاق ذاته أي الإنسانية في حريتها.
هنا نعود إلى هانز يوناس الذي أخذ على الأمر القطعي الكانطي صوريته ومنطقيته بمعزل عن الحكم الأخلاقي، الذي يمكن أن يؤدي إليه الفعل البشري، فعدله بحيث ربط الحكم على العمل البشري بمدى تأثيره على الإنسانية وعلى مستقبلها فعلياً وليس منطقياً. إن النقاش في هذه المسألة يتعلق بالطبع بمسألة التقنية وبمدى سيطرتها وبكيفية التعامل مع هذه السيطرة مستقبلياً. لقد وضع دومينيك جانيكو ثلاث ملاحظات حول تناول يوناس لهذه المسألة:
في الملاحظة الأولى، يذكر جانيكو الصيغة المعدلة للأمر القطعي بحسب يوناس فيعتبر أنها تتناسب مع الأطروحة النقيضة في المناقضة المذكورة أعلاه. ولكنه يرى أن ظروف الإنسانية في عهد يوناس هي مختلفة عن ظروفها في عصر كانط، إذ لم يكن في ذهن كانط أن الإنسانية سوف تكون مهدَّدة بالفناء. وبالتالي إن يوناس يعدل صيغة مطلقة فينقلها من ظرف إلى ظرف لتصبح محصورة في حالة وحيدة قد تكون مستحيلة وهي فناء البشرية.
وفي الملاحظة الثانية، يعتبر جانيكو أن قانون يوناس لا يتعلق بذات فردية في حياتها اليومية، بل يطال البشرية كبشرية معرّضة لتمدد عدواني من قبل التقنية المتحالفة مع العلم. وفي المناقضة الجديدة تقنية/ أخلاق، إن المكان المخصص للطبيعة لدى كانط أخذته التقنية التي أصبحت عاملاً حاسماً. أما العدو الأكبر للأمر القطعي الأخلاقي فلم يعد اليوم اللذة الطيبة أو الخبث، بل فعالية أو كفاءة البشرية التي خضعت للطابع التقني.
وفي الملاحظة الثالثة، يعتبر جانيكو أنه من وجهة نظر كانطية، قد يمكننا مع ذلك الاعتراض على قانون يوناس كما يلي: إن إعادة صياغة الأمر القطعي تمّت بموجب تعديلات تجريبية في احترام الحياة البشرية. وإن حصر دائرة تطبيق القانون المزعوم على العمليات التي تهدد دوام الحياة البشرية الحقيقية على الأرض يمكن أن يظهر بمثابة آخر خط دفاع للأخلاقية (ولكنه، في الواقع، تنازل وجداني أمام كل الانتهاكات التقنية). فإذا أصبح بسيطاً أمر اعتبار الآخر كوسيلة، ما عدا الحالات التي يعتبر فيها جوهر الإنسان مهدَّداً، ألا يمكن لنا أن نحاول بشكل دائم تمديد حدود المسموح به؟ على سبيل المثال، القرار الذي اتخذه ترومان بقصف هيروشيما وناغازاكي ألا يعتبر متوائماً مع «دوام حياة بشرية حقيقية»؟ وألا ينطبق ذلك عل غرف الغاز الهتلرية؟... إلخ من هذه الناحية، يصبح قانون يوناس، ليس فقط غير مفيد، بل قد يصبح مؤذياً لأنه مصدر إبهام حول ما هو جوهري*****.
ولكن جانيكو يشارك يوناس اهتمامه بمستقبل البشرية شرط ألا يكون هذا المستقبل على حساب الحاضر. هذا يعني أن الحاضر والمستقبل مرتبطان بلعبة قدرة العقل المفتوحة على الممكن المستقبلي. ولكن هل سيبقى هذا الممكن أسيراً لسلطة حلف التقنية والعلم؟ أم أنه سوف يشكل ميدان شراكة تنكسر فيه أحادية هذه السلطة؟ لذلك، إن هذه القدرة المفتوحة على الممكن سوف تنتشر وتترجم في ثلاثة ميادين مقدسة: الأخلاق، والسياسة والشعر. وهذه الميادين الثلاثة هي الأماكن الحساسة في مقاومة عملية التحويل التقني الكامل للمجتمع الإنساني وفي حماية المستقبل البشري على أنه ميدان شراكة وليس أحادية تقنية.
ففي ميدان الأخلاق يبقى الأمر القطعي، في نقاوته، الأطروحة العقلانية الوحيدة الممكنة النقيضة لتوسع القدرة التقنية/ العلمية للعقلاني. وذلك لأن هذا الأمر القطعي الأخلاقي لا شيء فيه يتنازل أمام السلطة أو القدرة أو يدخل في لعبتها. إنه يحفظ بصورة مبدئية نواة عقلانية تعصى على الانقلاب.
أما السياسي (ليس المقصود هنا السياسة اليومية بل السياسة التي تقوم على مواجهة الممكن من قبل الشعب كمسألة حياة أو موت) فهو يشكل ميداناً مقدساً بمعنى أن الشعب يتحمل من خلاله مسؤولية المستقبل. إن القرار السياسي الجوهري هو عقلاني - لاعقلاني؛ إنه يعرف أنه معرّض للانقلاب، وهو بذلك مختلف عن نقاوة الأمر القطعي، وذلك لأنه على علاقة مع السلطة. ولكن، طالما هناك أناس جديرون بهذا الاسم سوف يتغلب شرف الشعب في مواجهة المستقبل ضد خطاب التقنية.
أما الشعر، فهو ذلك البعد الذي يأخذ اللغة والإشارات إلى مداها الأقصى. إنه المعنى المتجاوز للمعنى. إنه قول عما لا يقال، إنه سمع اللامسموع، إنه المستقبل القائم على الاحتياطي الممكن لدى الإنسان. إن الشعر يجتاز التناقضات والانقلابات؛ إنه ذلك الجانب الذي يتجاوز بإفراط، من حيث هو المصدر ومن حيث هو المآل، قدرة العقلاني. إذن هناك اللامعقول؛ ولكن يجب الحفاظ على الشكل الخالص للعقلانية العملية فيما يتعدى كل الانقلابات الخاصة بالعقلانية التقنية. واللا محسوب أيضاً له مكانه، ولكن لا يجب علينا التوقف عن التعداد والحساب. هناك الغامض أو غير المرئي ولكن قول ما هو واضح وما هو مرئي هو مهمة مقدسة أمام انحراف كل المعابد.
ويختم جانيكو كتابه بعبارة لباسكال تقول: «حينها سوف نكون صامدين أو منضبطين جيداً» إذا رأينا الروابط أو العلاقات بين كل الأشياء. إن العقلاني «المنضبط جيداً» لم يعد يملك القوة الوحيدة المسيطرة التي كانت تمنحه إياها مرجعيته الذاتية الميتافيزيقية المطلقة، ولا الفعالية المطلقة المفروضة من خلال نسخته التقنية/ العلمية.
إن قدرة العقلاني، منفصلة إلى مراحل، ومتصدية للانقلاب ومنسوبة إلى الاختلاف الأونطولوجي والمصيري، هي مع ذلك وأكثر من أي وقت مضى، في حالة إمكان لممكن هش ولم نفقد الأمل فيه: إنه مستقبلنا******.
هكذا فإن القدرة التقنية ليست قدراً نهائياً، بل هي مجرد تعبير من تعبيرات العقلانية التي تستطيع احتضان المفارقة داخلها وتفتح دائماً الأبواب للممكن واللامحسوب وبالتالي للحرية. وهنا، لن يعود هنالك أي مبرر للأنظمة الشمولية التي تحكم باسم العقل الشامل سواء كانت أنظمة سياسية أو تقنية أو اقتصادية أو فلسفية... فقدرة العقلاني مفتوحة على المستقبل الممكن وعلى كل احتمالاته وبالتالي على النقد.
من هنا، فإن الموجة العارمة من الانبهار أمام التقنية الحديثة والثورة الصناعية التكنولوجية والتي سادت عصر الحداثة لا بد لها من أن تهدأ وتتأمل ولا تتسرّع في إطلاق الأحكام أو تسلّم تسليماً مطلقاً بما يسمى السلطة التكنوقراطية التي انبثقت من انتصار العلم والتقنية في عصر الحداثة؛ إذ إن هذا التسرع بهذا التسليم بسلطة التقنية مكان السلطات الأخرى ومكان الفاعلين الاجتماعيين سوف يؤدي إلى حركة مضادة للحداثة تنتفض ضد كل ما هو شمولي أو ضد كل ظاهرة تحاول مصادرة الذات الفاعلة والقضاء على دورها في صناعة التاريخ.
* باحث وأستاذ جامعي لبناني
** Dominique JANICAUD، La puissance du rationnel، Editions Gallimard، Paris، 1985. ص. 11 - 12
*** المرجع نفسه، ص 12
**** المرجع نفسه، ص 146
*****راجع المرجع نفسه ص 147 - 148
****** راجع المرجع نفسه ص 376 - 377



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.