سقراط معاصرُنا

إنّ حياة لا نُخْضِعُها للمساءلة ليست بالحياة التي تستحق عبء عيشها

روزفلت مونتاس
روزفلت مونتاس
TT

سقراط معاصرُنا

روزفلت مونتاس
روزفلت مونتاس

أظنُّ أن أغلب القرّاء الشغوفين، وبخاصة من محبّي أعمال الراحل جبرا إبراهيم جبرا، يتذكّرون ذلك العمل الذي ترجمه جبرا في سبعينيات القرن الماضي ونشره بعنوان (شكسبير معاصرُنا Shakespeare Our Contemporary). لايُقرَأ الكتاب من عنوانه دوماً؛ بل من الخطأ الجسيم الحدسُ بمضمون أي كتاب من خلال عنوانه فحسب. لم يكن الأمر هكذا مع ترجمة جبرا لكتاب المؤلف البولندي يان كوت؛ إذ جاء العنوان ليمثل شاهدة مباشرة لما سيقرأه المرء في متن الكتاب: ليس شكسبير ذاك الذي مثّل شاهداً لعصره فحسب، بل يمكن أن يكون ضوءاً كاشفاً لعصرنا متى ما عرفنا الكيفية المناسبة لاستنطاقه في إطار فعالية دؤوبة نستطيع بمقتضاها جعل شكسبير عيناً إضافية لنا تعيننا في فهم عالمنا بطريقة تبدو معاصرة إلى حدّ يكاد معه المرء يظنُّ أن شكسبير هو أحد عظام المفكّرين في المعضلات الوجودية لعصرنا. يمثلُ شكسبير بموجب هذه الرؤية نمطاً من «الوعي الكوني»Cosmic Consciousness العابر لحدود الزمان والمكان والبيئات المحلية. كلّ العقول العظيمة تتماهى مع هذه الخصيصة الشكسبيرية.

ليس بوسع المرء سوى الشعور بالأسف وهو يشهدُ نكوصاً متعاظماً في أقسام الإنسانيات في الجامعات العالمية لأسباب عديدة منها نقص التمويل وضغوطات سوق العمل والفكرة الموغلة في البراغماتية تجاه التعليم الجامعي، والتي ترى فيه معبراً لحياة مسترخية من الناحية المالية. ربما يرى المدافعون عن أولوية التعليم المهني والعلمي المحض (الذي تختصره مفردة STEM التي تعني حقول العلم والتقنية والهندسة والرياضيات) في أنّ الإنسانيات لا تخلق الثروة ولا تسهم في تعزيز القدرة الاستراتيجية للدول. تلك رؤية قاصرة ولا تدعمها شواهد مختبرة من واقع الحياة؛ فقد أبانت دراسات بحثية عديدة خطل هذه الرؤية وتهافتها. إنّ من يمتلك ذائقة فلسفية وحساً أدبياً وقراءة تاريخية وسوسيولوجية سيتوفرُ على مهارات من شأنها أن تجعله أكثر قدرة في عمله العلمي والتقني. لم تغفل كبريات الجامعات العالمية هذه الحقيقة فراحت تطعّمُ التعليم العلمي والهندسي ببرامج دراسية في الإنسانيات والفلسفة عبر الدراسات المزدوجة Dual Majors، أذكرُ منها على سبيل المثال: برنامج الرياضيات والفلسفة أو الفيزياء والفلسفة أو علم الحاسوب والفلسفة في جامعتي أكسفورد وكامبردج.
يتناولُ هذه الموضوعة روزفلت مونتاس Roosevelt Montás، الأستاذ المحاضر في قسم الدراسات الأميركية والإنجليزية بجامعة كولومبيا الأميركية العريقة، ومدير برنامج الحرية والمواطنة التابع لقسم الدراسات الأميركية بالجامعة ذاتها. ألّف مونتاس بهذا الشأن كتاباً اختار له عنوان «إنقاذ سقراط: كيف غيّرت الكتب العظيمة حياتي»، ولماذا هي مهمّة لجيل جديد Rescuing Socrates: How the Great Books Changed My Life and Why They Matter for a New Generation. نُشِرَ الكتاب عام 2021 عن دار نشر جامعة برينستون.
يبدأ مونتاس كتابه بمقدّمة عنوانها (الحالة The Case) في تذكير لنا بالأدبيات الطبية الإكلينيكية التي تركّزُ على دراسة حالات مرضية منتخبة لفرادتها أو ندرتها. يجعل مونتاس من ذاته ميداناً لدراسة الحالة المقصودة؛ فيسردُ لنا كيف ساهمت دراسة الإنسانيات في إحداث انعطافة كبرى في حياته، وهو يرى أنّ هذه الانعطافة يمكن أن تحدث لكثيرين سواه. يتناول مونتاس في الفصل الأول تاريخ اكتشافه للقديس أوغسطين، وفي الفصل الثاني الذي عنونه (الحياة الممتَحَنة The Examined Life) يتناول الفلاسفة العظماء: سقراط وأفلاطون (والقليل من أرسطو!!). ينقلبُ مونتاس في الفصل الثالث عن السياق الذي بدأ به الكتاب؛ إذ يقفز عبر القرون نحو فرويد وكيفية تحقيق السلام مع اللاوعي، ثم يتناول في الفصل الرابع موضوع الحقيقة من وجهة نظر غاندي. يختتم مونتاس كتابه بحصيلة استنتاجية يقدّمُ فيها خلاصات لكيفية تعزيز أهمية الكتب العظيمة والمفكّرين العظام في حياة الأفراد كما في الأقسام الأكاديمية الجامعية على اختلاف تخصصاتها.
يكتب مونتاس، وبطريقة مؤثرة، عن معرفته الأولى بسقراط:
«في تلك المجموعة من حوارات أفلاطون التي أنقذتها في ليلة شتائية من تلّ القمامة القائم قريباً من منزلنا في ضاحية كوينز في نيويورك، قابلتُ - عبر القراءة وحدها - رجلاً عجوزاً يعيشُ أيامه الأخيرة، يدعى سقراط، كان يجتهدُ في الدفاع عن نفسه تجاه اتهامات بإفساد الشباب. اعترض سقراط (كما قرأت في تلك المحاورات) على تلك الاتهامات الباطلة، وراح يخاطب مواطنيه الأثينيين:
يا رجال أثينا... أشعرُ بالامتنان، وأنا صديق لكم؛ لكن برغم ذلك، وطالما كانت في قدرة على تنسّم الهواء فلن أنكفئ عن الاشتغال في الفلسفة وحضّكم على التفكّر والمساءلة... (وهنا يسألهم): ألا تشعرون بالخجل من أنفسكم وجشعكم في تملّك كلّ ما تستطيعون بلوغه من غنى وصيت وأوسمة نصر ونياشين فخار في الوقت الذي لم تكلّفوا فيه أنفسكم عناء التفكّر - ولو بفكرة عابرة - في الحكمة أو الحقيقة، أو في الحالة الفضلى الممكنة التي يمكن أن تكون عليها أرواحكم؟
في نهاية تلك المجموعة الحوارية نجد سقراط نزيل السجن في اليوم الموعود لإعدامه، ثم نشهده يتناول السم «بهدوء ويُسر»، ويضطجعُ محتضراً حتى يغادر الحياة. «هكذا كانت نهاية حياة رفيقنا»: هذا ما يقوله السارد في تلك الحوارات، ثم يضيف: «الرجل الذي سنقول عنه إنه كان الرجل الأكثر علماً بين كلّ من عرفنا، والأكثر حكمة واستقامة». يعلّق مونتاس هنا:
«لم تكن لي حاجة حينها، وأنا أقرأ تلك الكلمات، لأن أكون غنياً أو ذا حظوة كبيرة وميزات ثقافية رفيعة لكي أجد في تلك الكلمات شيئاً كأنه كان يخاطبُ أعمق إحساساتي الشخصية. لم أكن في حاجة كذلك لأن أكون أبيض اللون أو أوروبياً لكي تصيبني الدهشة وأنا أقرأ كلمات سقراط الحكيمة (إنّ حياة لا نُخْضِعُها للمساءلة ليست بالحياة التي تستحق عبء عيشها)».
ليس المرء في حاجة لأن يفترض ماهية ميتافيزيقية للطبيعة البشرية لأجل إدراك أنّ كلّ البشر يتشاركون خصائص أساسية متماثلة: ابتداءً من التنظيم البيولوجي المتخصص حتى المعمارية الجينية المتخصصة، ومن أشكال محدّدة من الإدراك حتى حالة العيش الوجودية التي ندرك فيها جميعاً حقيقة الموت الذي يمثل الخاتمة الطبيعية لوجودنا البشري. من المثير للملاحظة والدراسة أننا يمكن أن نستمرئ متعة إلى أقصى الحدود المتصورة من الحقيقة الخارقة للطبيعة والتي مفادها أنّ الأعمال العظيمة في الأدب والفن يمكن أن تمسك بالخواص المشتركة في تجربتنا الإنسانية عبر وسائط وأساليب أبعد ما تكون عن الخصيصة التشاركية؛ أي بمعنى أنّ قراءتنا لهذه الأعمال العظيمة المندرجة في المعتمد الأدبي ستتلوّنُ بحسب رؤيتنا الفردية ومديات تجاربنا الشخصية، وهي أبعد ما تكون عن التجربة النمطية الجمعية.
يكتب مونتاس حول تجربته الجامعية في تدريس الإنسانيات:
«عندما شرعتُ بتدريس مادة (كتب عظيمة The Great Books) لطلبة الدراسات الإنسانية الأولية بجامعة كولومبيا فإنني في الغالب أسألُ الطلبة المسجّلين على المنهج الدراسي لهذه المادة السؤال التالي: عندما تبدأ الشيخوخة والموت بالزحف إليك، ما الذي يجب فعله؟ أعلَمَني هؤلاء الطلبة أنّ هذا السؤال ظلّ يرنّ في عقولهم لسنوات طويلة بعد تخرجهم وانغماسهم في مشاغل مهنية متنوعة المشارب. صحيحٌ أنّ هؤلاء الشباب يأتون للجامعة مدفوعين بدافع تحسين فرص توظيفهم وحيازة مهارات يمكن لهم معها الحصولُ على ميزات تنافسية في سوق محكومة باعتبارات تجارية ومالية محتدمة؛ لكنهم يدخلون الجامعة في غمرة معضلات وجودية تجتاحهم بطريقة عنيفة، وهم يتطلعون لا إلى الحصول على وظائف مرموقة مالياً فحسب، بل إلى إعادة تكييف حيواتهم أيضاً وجعلها أكثر تناغماً مع الحقائق الصارخة للوجود البشري بكلّ تعقيداته وتناقضاته وإشكالياته».
التعليم الحر Liberal Education، وبخاصة تعليم الإنسانيات، مقاربة في التعليم تكشفُ أساس حالتنا الوجودية، وهي تتناول - بكلّ جدية ممكنة - فكرة المساءلة العقلانية للمعضلات الأساسية في وجودنا البشري، وأنّ هذه المساءلة مسعى يستحقّ كل الأعباء المترتبة عليه لكلّ فرد في المجموع البشري. ربما ليس من وسيلة أقوى لتحقيق هذه المساءلة من المناقشات المفتوحة في جماعات صغيرة من القرّاء أو طلبة الجامعات المكرّسين، هؤلاء الذين يجدون لذة لا تقاومُ في قراءة الأعمال الأدبية والفلسفية العظيمة التي لم تزل لها مفاعيلها المؤثرة في تشكيل حياتنا وثقافتنا المعاصرتين.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».