جيمس كليفرلي... وجه بريطانيا الدبلوماسي الجديد

يفخر بخلفيته العسكرية وجذوره الأفريقية

جيمس كليفرلي... وجه بريطانيا الدبلوماسي الجديد
TT

جيمس كليفرلي... وجه بريطانيا الدبلوماسي الجديد

جيمس كليفرلي... وجه بريطانيا الدبلوماسي الجديد

«ليز تفوز» تغريدة من كلمتين أعلن بها وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي فوز زميلته في حزب المحافظين، ورئيسته الجديدة، بسباق رئاسة الحكومة.
لم يكن تعيين كليفرلي، الذي كان يشغل منصب وزير التعليم قبل أسبوعين فقط، على رأس وزارة الخارجية قراراً مفاجئاً. فقد عمدت ليز تراس، رئيسة الحكومة الجديدة، إلى مكافأة النواب الموالين لها، الذين دعموا حملتها في وجه منافسها المحافظ ريشي سوناك؛ وكان كليفرلي في المقدّمة.
إلا أن أيامه الأولى في المنصب لم تسِر وفق ما خطّط له. فبعد يومين من تعيينه كبيراً للدبلوماسيين البريطانيين، توفيت الملكة إليزابيث الثانية بعد إمضاء 70 عاماً على العرش. وبعد 3 أيام، وجد نفسه بين أعضاء «مجلس العرش» الذي نصّب تشارلز الثالث ملكاً جديداً على المملكة المتحدة. وعقب ذلك بساعات، توجّه كليفرلي إلى إحدى قاعات قصر باكنغهام، ليمثّل الحكومة البريطانية في لقاءات جمعت العاهل الجديد بممثلين عن دول الكومنولث.
دخل كليفرلي، البالغ 53 عاماً، معترك ويستمنستر السياسي في عام 2015، وتسلم عدة مناصب وزارية، تُوّجت هذا الشهر بثاني أهم حقيبة في الحكومة.
فمن هو وزير الخارجية البريطاني الجديد؟ ما أولوياته؟ وما علاقته بالعالم العربي؟
- النشأة والخدمة العسكرية
كان رئيس سيراليون، جوليوس مادا بيو، بين أوّل مهنّئي كليفرلي على تعيينه في حكومة تراس. وكانت لهذه التهنئة رمزية خاصة، إذ حملت إشارة إلى أصول والدته التي يفتخر بها وزير الخارجية البريطاني الجديد. وقال الرئيس إن «تعيينك سيلهم الملايين من السيراليونيين الذين يرونك ابناً لهذا البلد. يحتفي السيراليونيون معك، ويتمنون لك التوفيق في دورك الجديد. لا شكّ أن والدتك الراحلة إيفلين سونا كليفرلي (...) فخورة بإنجازاتك».
وُلد كليفرلي في 4 سبتمبر (أيلول) 1969 بمدينة لويشام في لندن، لوالد بريطاني يدعى جيمس فيليب، عمل مسّاح أراضٍ، ووالدة من سيراليون تدعى إيفلين سونا، عملت ممرضة.
تلقى كليفرلي تعليمه في مدرستي ريفرستون وكولف الخاصتين، وكلاهما في «لي غرين» بلندن. ثم انضمّ إلى الجيش، إلا أنه حُرم من مسيرة عسكرية كاملة بسبب إصابة في الساق عام 1989. التحق بعد ذلك بكلية الفنون التطبيقية في غرب لندن؛ حيث حصل على بكالوريوس في إدارة الضيافة، والتقى سوزانا سباركس التي تزوج منها عام 2000. وأنجبا ولدين، هما فريدي وروبرت.
بعد تخرجه، بدأ كليفرلي مسيرة مهنية في قطاع النشر الورقي والرقمي. والتحق بشركة «إنفورما» مديراً للمبيعات الدولية عام 2002. وفي 2004 انضم إلى شركة «كريمسون» للنشر مديراً للإعلانات، ثم أصبح عام 2006 مديراً للتجارة الإلكترونية في شركة «كاسبيان». وفي 2007 شارك في تأسيس شركة «بوينت آند ثاير» للنشر على الإنترنت، التي أعلنت إفلاسها عام 2008، وتم حلّها عام 2011.
ورغم إصابته في نهاية الثمانينات، انضمّ كليفرلي إلى جيش الاحتياط البري البريطاني عام 1991. وتم تكليف كليفرلي في الجيش بصفته ملازماً ثانياً في 6 أكتوبر (تشرين الأول) ، وأصبح ملازماً ثانياً فنياً في يناير (كانون الثاني) 1993. وتمّت ترقيته إلى رتبة ملازم أول في 6 أكتوبر 1993، ثم إلى رتبة نقيب في 26 مايو (أيار) 1998، وإلى رتبة رائد في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2003.
وحتى عام 2005، كان قائد بطارية 266 التابعة لبطارية المدفعية الملكية، ثم تمّت ترقيته إلى رتبة عقيد في الأول من مارس (آذار) 2015.
- صعود سريع
خاض كليفرلي أولى تجاربه السياسية عام 2007، عندما فاز بمقعد في مجلس لندن. وفي عام 2009 عيّنه رئيس بلدية العاصمة البريطانية بوريس جونسون سفيراً للشباب، وأصبح منذ ذلك الحين حليفاً وثيقاً له.
وفي عام 2015، انتخب جيمس كليفرلي في البرلمان للمرة الأولى ممثلاً عن دائرة برينتري في إيسيكس، شمال شرقي العاصمة. وقدّم نفسه عام 2016 مدافعاً عن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، ومقراً بالتعقيدات التي قد ترافق عملية «الطلاق». ورغم التحديات، رأى كليفرلي أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، هو أقل ضرراً من التراجع عن تنفيذ «بريكست».
وأعيد انتخاب كليفرلي نائباً عن دائرته في الانتخابات العامة المبكّرة لعام 2017 بغالبية 62.8 في المائة. وأصبح نائباً لرئيس حزب المحافظين عام 2018، ثم وزير دولة في الوزارة المعنية بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
رشّح كليفرلي نفسه لخلافة رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي في 29 مايو 2019 ليسحب ترشحه في 4 يونيو (حزيران) مقراً بأنه لا يحظى بدعم عدد كافٍ من النواب للصمود في انتخابات حزب المحافظين.
- ولاء ثابت
شهدت مسيرة كليفرلي السياسية قفزة نوعية عقب انتخاب بوريس جونسون رئيساً لحزب المحافظين والحكومة، انتقل خلالها من سياسي مجهول نسبياً لدى غالبية البريطانيين إلى وزير للخارجية.
عُيّن كليفرلي عام 2019 رئيساً مشاركاً للحزب، إلى جانب بن إليوت، ثم حصل في 13 فبراير (شباط) على منصب وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. واستمر في هذا المنصب المندرج تحت وزارة الخارجية حتى 8 فبراير 2022، وقام خلال هذه الفترة بزيارات لدول عربية؛ استمتع خلالها «بوجبات عربية شهية» وتعلّم بعض الكلمات العربية الدارجة، كما قال لـ«الشرق الأوسط» في حديث سابق.
وقبل أيام من شنّ روسيا حرباً على أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، تسلّم كليفرلي منصب وزير الدولة لشؤون أوروبا وأميركا الشمالية. ولم يتأخّر عن المساهمة في دفع جهود حكومته لحشد الدعم لأوكرانيا، وفرض أكبر حزمة عقوبات غربية على روسيا.
وبخلاف رئيس الحكومة ووزيري الخارجية والدفاع، لم يزر كليفرلي أوكرانيا، إلا أنه اتّخذ خطاً صارماً ضد موسكو منذ بداية الحرب، وأدان خلال جولة أميركية وزيارة إلى إستونيا «الفظائع» التي تمارسها روسيا بحق الأوكرانيين.
وأثار دور كليفرلي في إدارة الأزمة الأوكرانية انتقادات واسعة، إذ واجه برنامج اللجوء عدّة تحديات عند إطلاقه، وتأخّر في النظر بآلاف الطلبات.
وكان كليفرلي وفياً لبوريس جونسون حتى إعلان الأخير استقالته في 7 يوليو (تموز) الماضي، ودافع عن أدائه رئيساً للحكومة رغم التجاوزات التي اتُّهم بها خلال فترة إغلاقات «كورونا». وقال كليفرلي متحدّثاً عن رئيس الحكومة السابق: «عملت معه لسنوات، لقد دعمته وما زلت أعتبره سياسياً رائعاً». وبينما قدّم عشرات المسؤولين استقالتهم من حكومة جونسون، رفض كليفرلي سحب ثقته من رئيس الوزراء السابق. وكافأ جونسون حليفه بمنصب وزير التعليم في حكومة لتصريف الأعمال، الذي شغله حتى 5 سبتمبر.
وانتقل هذا الولاء إلى ليز تراس، التي شغلت منصب وزيرة الخارجية في حكومة جونسون. ورأى كليفرلي أن سياسات تراس الاقتصادية ستنجح في إخراج البلاد من أزمة غلاء المعيشة الأسوأ منذ عقود.
وفي 6 سبتمبر، أصبح كليفرلي وزيراً للخارجية في واحدة من أكثر الحكومات البريطانية تنوعاً، إلى جانب وزيرة الداخلية سويلا برافرمان المولودة في الهند، ووزير الخزانة كوازي كوارتنغ المنحدر من جذور غانية.
تولّى كليفرلي منصبه بينما تمرّ البلاد بظروف اقتصادية وسياسية عصيبة. فبالإضافة إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا والعلاقات المتوترة بشكل متزايد مع الصين، سيتعيّن عليه إدارة الخلافات المتصاعدة مع الاتحاد الأوروبي بشأن وضع آيرلندا الشمالية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
- بريطانيا العالمية
تبنّى كليفرلي شعار «بريطانيا العالمية» بعد بريكست، ملتزماً «استعادة» مكانة بلاده على الساحة الدولية بعد «تحررها» من قيود الاتحاد الأوروبي.
يعوّل كليفرلي على الخبرة التي اكتسبها في وزارة الخارجية خلال السنتين الماضيتين، وزيراً لشؤون الشرق الأوسط ثم أوروبا وأميركا الشمالية. وفيما لم يعلن بعدُ عن أولويات وزارته، احتراماً لفترة الحداد الوطني بعد وفاة الملكة، لا شكّ أنها ستندرج في إطار السياسات الخارجية التي اعتمدتها ليز تراس، عند شغلها منصب وزير الخارجية في حكومة جونسون.
وخصص كليفرلي أول تعليق له، عقب انتخاب تراس زعيمة لحزب المحافظين، للحديث عن الحرب الروسية - الأوكرانية، وقال إن «علينا بكل تأكيد أن نقف بثبات في دعمنا للرئيس (فولوديمير) زيلينسكي وشعب أوكرانيا. ليس لدي شك في أننا سنستمر حلفاء أقوياء (لكييف) كما كنا في عهد بوريس جونسون».
ودعمت تراس سياسة خارجية جريئة، قريبة من توجّهات الحليف الأميركي على الجانب الآخر من الأطلسي. فاتّخذت موقفاً صارماً من روسيا، وكانت من أول الداعمين لإرسال أسلحة هجومية ثقيلة لأوكرانيا، كما كانت سبّاقة في دعم سكان هونغ كونغ عبر برنامج واسع للتأشيرات، وعزّزت دور بريطانيا في المحيطين الهندي والهادئ، وحذّرت من اعتماد بلادها على شبكة «هواوي» الصينية للـ«5 ج».
- علاقة وطيدة مع العالم العربي
خلال شغله منصب وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عمل كليفرلي على تعزيز علاقة بلاده بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وانخرط في مباحثات اقتصادية واستثمارية مع دول مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص، وذلك لبحث تعزيز التعاون التجاري غداة بريكست.
وقاد كليفرلي مباحثات لإطلاق مراجعة مشتركة للعلاقات التجارية والاستثمارية، «وهي إحدى الآليات التي ستتيح إيجاد طرق لزيادة التجارة بين المملكة المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي»، كما أوضح في تصريحات سابقة لـ«الشرق الأوسط». وقال إن بلاده «حريصة جداً على تعزيز العلاقة التجارية القوية جداً بالفعل، وتوسيع هذه الشراكة إلى مجالات تحظى باهتمام في الخليج، بما في ذلك الطاقة الخضراء والتعليم والرعاية الصحية، فضلاً عن مجالات التعاون الاقتصادي التقليدية».
وأكد الوزير أن «علاقتنا طويلة الأمد (مع دول الخليج) خدمتنا بشكل جيد». ولكن الآن بعد مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي «نتطلع إلى بناء علاقة أقوى ومستدامة، والبحث عن فرص أعمال في كل من بريطانيا ودول الخليج لسنوات وعقود مقبلة».
وبسؤاله عن الانتقادات التي تواجه المملكة المتحدة؛ خصوصاً من المعارضة، حول العلاقة الجيدة مع السعودية، أجاب الوزير أن «المملكة العربية السعودية اقتصاد رئيسي في الساحة العالمية، ولها تأثير كبير في المنطقة، فهي الوصي على أقدس المواقع في الإسلام، ومن الضروري للغاية أن نحافظ على علاقة قوية وإيجابية مع المملكة (...) أعتقد أن الانتقادات غالباً ما تكون غير عادلة، وفي كثير من الأحيان تستند إلى معلومات غير دقيقة».


مقالات ذات صلة

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

العالم شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

شرطة لندن تقبض على «مسلّح» أمام قصر باكنغهام

أعلنت شرطة لندن، الثلاثاء، توقيف رجل «يشتبه بأنه مسلّح» اقترب من سياج قصر باكينغهام وألقى أغراضا يعتقد أنها خراطيش سلاح ناري إلى داخل حديقة القصر.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

شاشة لتوفير خصوصية خلال اللحظة الأهم في تتويج الملك تشارلز

قال قصر بكنغهام وصناع شاشة جديدة من المقرر استخدامها خلال مراسم تتويج الملك تشارلز الأسبوع المقبل إن الشاشة ستوفر «خصوصية مطلقة» للجزء الأكثر أهمية من المراسم، مما يضمن أن عيون العالم لن ترى الملك وهو يجري مسحه بزيت. فالشاشة ثلاثية الجوانب ستكون ساترا لتشارلز أثناء عملية المسح بالزيت المجلوب من القدس على يديه وصدره ورأسه قبل وقت قصير من تتويجه في كنيسة وستمنستر بلندن في السادس من مايو (أيار) المقبل. وقال قصر بكنغهام إن هذه اللحظة تاريخيا كان ينظر إليها على أنها «لحظة بين الملك والله» مع وجود حاجز لحماية قدسيته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

استقالة رئيس هيئة «بي بي سي» على خلفية ترتيب قرض لجونسون

قدّم رئيس هيئة «بي بي سي» ريتشارد شارب، أمس الجمعة، استقالته بعد تحقيق وجد أنه انتهك القواعد لعدم الإفصاح عن دوره في ترتيب قرض لرئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون. وقال شارب، «أشعر أن هذا الأمر قد يصرف التركيز عن العمل الجيد الذي تقدّمه المؤسسة إذا بقيت في المنصب حتى نهاية فترة ولايتي». تأتي استقالة شارب في وقت يتزايد التدقيق السياسي في أوضاع «بي بي سي».

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»: على البريطانيين القبول بصعوباتهم المالية

أكد كبير الاقتصاديين في «بنك إنجلترا»، اليوم (الثلاثاء)، أنه يتعين على البريطانيين القبول بتراجع قدرتهم الشرائية في مواجهة أزمة تكاليف المعيشة التاريخية من أجل عدم تغذية التضخم. وقال هيو بيل، في «بودكاست»، إنه مع أن التضخم نجم عن الصدمات خارج المملكة المتحدة من وباء «كوفيد19» والحرب في أوكرانيا، فإن «ما يعززه أيضاً جهود يبذلها البريطانيون للحفاظ على مستوى معيشتهم، فيما تزيد الشركات أسعارها ويطالب الموظفون بزيادات في الرواتب». ووفق بيل؛ فإنه «بطريقة ما في المملكة المتحدة، يجب أن يقبل الناس بأن وضعهم ساء، والكف عن محاولة الحفاظ على قدرتهم الشرائية الحقيقية».

«الشرق الأوسط» (لندن)
«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

«التنمر» يطيح نائب رئيس الوزراء البريطاني

قدّم نائب رئيس الوزراء البريطاني، دومينيك راب، استقالته، أمس، بعدما خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّه تنمّر على موظفين حكوميين. وفي نكسة جديدة لرئيس الوزراء ريشي سوناك، خلص تحقيق مستقلّ إلى أنّ راب، الذي يشغل منصب وزير العدل أيضاً، تصرّف بطريقة ترقى إلى المضايقة المعنوية خلال تولّيه مناصب وزارية سابقة. ورغم نفيه المستمر لهذه الاتهامات، كتب راب في رسالة الاستقالة الموجّهة إلى سوناك: «لقد طلبتُ هذا التحقيق، وتعهدتُ الاستقالة إذا ثبتت وقائع التنمّر أياً تكن»، مؤكّداً: «أعتقد أنه من المهم احترام كلمتي». وقبِل سوناك هذه الاستقالة، معرباً في رسالة وجهها إلى وزيره السابق عن «حزنه الشديد»، ومشيداً بسنوات خدمة

«الشرق الأوسط» (لندن)

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.