مارلين يونس تُطعّم الفن بالفلسفة وتنسحب من الضوء

بالغناء والتدريس تخوض معركة ضدّ جمود الأشياء

مارلين يونس تُخرج نفسها من الضوء
مارلين يونس تُخرج نفسها من الضوء
TT

مارلين يونس تُطعّم الفن بالفلسفة وتنسحب من الضوء

مارلين يونس تُخرج نفسها من الضوء
مارلين يونس تُخرج نفسها من الضوء

مارلين يونس فنانة لبنانية، تلميذة المدرسة المصرية القديمة المرصعة بكبار كأسمهان وأم كلثوم. وهي أستاذة في الفلسفة، تمزج الحقلين، الأكاديمي والموسيقي، كامتزاج عطر فواح بالزهر. «أنا من أتباع المنهج الأصيل»، تنطلق في حوارها مع «الشرق الأوسط» من المسلمات. نشأت في ظل والد معجب بالموسيقار محمد القصبجي وأخ يستمع بدهشة لعود محمد عبد الوهاب. وتفتحت الأسئلة الأولى على طبيعة جميلة تعانق صفاء الوجود. يأتي اللقاء من أحقية المواهب على الأقلام بزيارتها، فلا تقتصر الكتابة على الغارقين في الضوء.
شعرت بأن التخصص في علم الآثار عصي على إشباع روح تكتم موهبة غير مكتشفة. تسميها «انقشاع الحجب»، لحظة ينبثق منها لحن، فهي أيضاً ملحنة؛ ولحظة خروج الصوت من الحنجرة الموهوبة. برأيها، الموهبة الإنسانية أبعد من ميزة واحدة يدرجها المرء في اهتماماته ويعرف بها: «هذه فرادة لا يمتلكها كثيرون ولو بلغوا شهرة واسعة». ثمة أحيان، تفرض عليها القصيدة المغناة لحناً يتراءى بتوهجه مشعاً أمامها، مستعداً للتشكل، «وهو وليد نقطة تماس النشوة الفنية مع النغمات، يسبقه مخاض أليم يجعلني أنخرط في صراع. كأن اللحن يصبح لازمة تنخر رأسي وتمارس علي فعل الطرق. الأساس هي الموهبة».
نحو تسع سنوات أمضتها مارلين يونس في الكونسرفتوار اللبناني، منحتها دبلوماً في الغناء الشرقي، وأتاحت تشربها مواد تحيط بعلم الموسيقى. وبموازاة التدريس الجامعي، تشهد لقاءات مع طلاب في «مسرح المدينة» البيروتي، تحيي حفلات تكرس الأصالة، ويختارها «تلفزيون لبنان» لغناء الأمسيات الطربية. لكن، أي مزيج يكونه ذلك الخليط السحري بين الفن والفلسفة؟
تمر على «جانب خفي» في شخصيتها لم يكن قد اكتمل؛ ذلك هو روح الفن ونزيف الألحان. تأتي الفلسفة لتشكل توسعاً للمدارك وتحرر أفكاراً في الموسيقى والحياة، فتقول: «حل بي السؤال الوجودي وأتاح مساحات عريضة يتمدد عليها القلق. إحساسي بهشاشة الوجود دفعني إلى مطاردة أجوبة على أسئلة ملحة استحال تفاديها، فكانت الفلسفة خلاصاً، تماماً كالموسيقى التي بدورها تبحث في روح الكون. خيالي وعقلي هما موسيقاي وهمي الفلسفي، بهما أحيا».
المحرض على نيل الدكتوراه في الفلسفة، هي الدهشة ولغة الاستغراب: «علبت تساؤلاتي في أطر منهجية للحصول على الشهادة، فالاتكاء على أرضية متينة تشيد شغفي الفني»، تربط المتتلمذة على يدي الفيلسوفين موسى وهبي ومشير باسيل عون نظرتها إلى العلاقة بين الحقلين، وتكمل: «كلما تعمقت في القراءة لفلاسفة بينهم روس وفرنسيون، توسعت آفاق الموسيقى وامتلأت بحاجة إلى التأليف».
لم المدرسة المصرية القديمة وعطور «الست»؟ جوابها: «في مصر، لا ينفد محط تساؤلي الدائم. أنا ابنة الطرب، لا أستسيغ أغنية مستعجلة. أستمتع بالمقاطع، بالمقدمات والفواصل. يمنحني الطرب كم التساؤل العميق المتعلق بالفن». لكن خلفيتها الكلثومية لا يعني أنها في صف معارض لأغنيات ذات مدة زمنية قصيرة، كما في أغنيتها «أسكن لغة» مثلاً، بدقائقها القليلة.
رغم المؤهلات والاجتهاد، تتراءى مارلين يونس فنانة «نخبوية» لا تحظى بجماهيرية ضخمة. حقيقة مرة، فما مردها؟ إنه خيارها، فتجيب: «ذلك لأنني أخرجت نفسي من الضوء، وليس الضوء ما أخرجني منه. وضعتني وفني في (زاوية خاصة)، ثقافية رصينة خارج منطقي التجارة والنفعية». بثقة، وبلا ندم، تكمل أنها تحارب التشيؤ على طريقتها: «أتبنى فناً يخوض معركة ضد جمود الأشياء. أريدها أن تنطق فتغني ضمن معايير رفيعة».
يخترق النبرة وخز تعرف عنه على أنه «شعور بالشفقة حيال من يزحفون خلف الضوء لسد النقص». تؤلمها الأيام: «إنه زمن انفعال، لا زمن ابتكار. يتحكم فينا فقدان الشيء، إلى درجة أن المرء إن لم يجد موضوعاً، وقع في فخ تصوير الموضوع».
لا ترى في «نخبويتها» ما «يضر»، وتعترف بأنها لا تغامر: «للمغامرة وقت وجهد، فاستنفدت معظمهما في التعليم. ذلك لا يمنع ظهوري المعلن بإطار آخر. أقاوم الواقع بطريقة مختلفة».
تحذر من أن يستخفن أحدهم بالجيل الجديد ويقنعه بأن الرائج هي فقط الإيقاعات الراقصة: «الشباب أيضاً يتحسسون الأصيل ويلحظون الفارق بين الزائف والحقيقي». يكفيها التعبير بالفن عن تجارب إنسانية لتشعر بالإنصاف، فمارلين يونس ليست ممن يصعدن على المنابر ويعبرن فوق السطور لادعاء المظلومية: «في النهاية، الحقيقة صلبة وواضحة، فتستشعر حس الآخرين».
من أقوالها: «أعشق لغة الصمت لأن الصمت هو للقطاف»، فأي حصاد يتيحه السكوت؟ تذكر بأنه «عصر الانحطاط»، وتضع على الطاولة قناعتها: «إن لم يكن لدى الإنسان ما يقدمه، فالأجدر به الاستراحة. الصمت هنا فرصة للتأمل واستنطاق مكنونات الداخل. هو ليس كسلاً ولا تمجيداً للتراخي. بل ضرورة تتيح المراجعة الذاتية وإعادة النهوض بعد الإخفاق».
يحزنها أن «كل أصيل وجميل استنفد»، ويبقى السؤال: «أمام العجز الإنساني عن الابتكار والخروج بجديد، لم الوقوع في حفرة الاستنساخ والاستسلام الأعمى للتقليد؟». يشمل النقاش التأليف الموسيقي كما الكتابة ومجالات الإبداع، لذا تسدي نصيحة: لا بأس بالسكون حين يتوقف الشلال عن التدفق، «فالصمت بداية جدلية التنوير».


مقالات ذات صلة

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

يوميات الشرق رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً. فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه.

يوميات الشرق ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

يعتمد الموسيقار المصري هشام خرما طريقة موحّدة لتأليف موسيقاه، تقتضي البحث في تفاصيل الموضوعات للخروج بـ«ثيمات» موسيقية مميزة. وهو يعتزّ بكونه أول موسيقار عربي يضع موسيقى خاصة لبطولة العالم للجمباز، حيث عُزفت مقطوعاته في حفل الافتتاح في القاهرة أخيراً.

محمود الرفاعي (القاهرة)
يوميات الشرق معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

زائرون يشاهدون عرضاً في معرض «أحلام الطبيعة - المناظر الطبيعية التوليدية»، بمتحف «كونستبلاست للفنون»، في دوسلدورف، بألمانيا. وكان الفنان التركي رفيق أنادول قد استخدم إطار التعلم الآلي للسماح للذكاء الصناعي باستخدام 1.3 مليون صورة للحدائق والعجائب الطبيعية لإنشاء مناظر طبيعية جديدة. (أ ب)

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

«نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

ستُطرح رواية غير منشورة للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز في الأسواق عام 2024 لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الروائي الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، على ما أعلنت دار النشر «راندوم هاوس» أمس (الجمعة). وأشارت الدار في بيان، إلى أنّ الكتاب الجديد لمؤلف «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» سيكون مُتاحاً «عام 2024 في أسواق مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية باستثناء المكسيك» و«سيشكل نشره بالتأكيد الحدث الأدبي الأهم لسنة 2024».

«الشرق الأوسط» (بوغوتا)

مصر تُكرّم فنانيها الراحلين بالعام الماضي عبر «يوم الثقافة»

مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية
مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية
TT

مصر تُكرّم فنانيها الراحلين بالعام الماضي عبر «يوم الثقافة»

مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية
مصطفى فهمي في لقطة من أحد أعماله الدرامية

في سابقة جديدة، تسعى من خلالها وزارة الثقافة المصرية إلى تكريس «تقدير رموز مصر الإبداعية» ستُطلق النسخة الأولى من «يوم الثقافة»، التي من المقرر أن تشهد احتفاءً خاصاً بالفنانين المصريين الذي رحلوا عن عالمنا خلال العام الماضي.

ووفق وزارة الثقافة المصرية، فإن الاحتفالية ستُقام، مساء الأربعاء المقبل، على المسرح الكبير في دار الأوبرا، من إخراج الفنان خالد جلال، وتتضمّن تكريم أسماء عددٍ من الرموز الفنية والثقافية الراحلة خلال 2024، التي أثرت الساحة المصرية بأعمالها الخالدة، من بينهم الفنان حسن يوسف، والفنان مصطفى فهمي، والكاتب والمخرج بشير الديك، والفنان أحمد عدوية، والفنان نبيل الحلفاوي، والشاعر محمد إبراهيم أبو سنة، والفنان صلاح السعدني، والفنان التشكيلي حلمي التوني.

أحمد عدوية (حساب نجله محمد في فيسبوك)

وقال الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة المصري في تصريحات الأحد، إن الاحتفال بيوم الثقافة جاء ليكون مناسبة وطنية تكرم صُنّاع الهوية الثقافية المصرية، مشيراً إلى أن «هذا اليوم سيُعبِّر عن الثقافة بمعناها الأوسع والأشمل».

وأوضح الوزير أن «اختيار النقابات الفنية ولجان المجلس الأعلى للثقافة للمكرمين تم بناءً على مسيرتهم المميزة وإسهاماتهم في ترسيخ الهوية الفكرية والإبداعية لمصر». كما أشار إلى أن الدولة المصرية تهدف إلى أن يُصبح يوم الثقافة تقليداً سنوياً يُبرز إنجازات المتميزين من أبناء الوطن، ويحتفي بالرموز الفكرية والإبداعية التي تركت أثراً عظيماً في تاريخ الثقافة المصرية.

وفي شهر أبريل (نيسان) من العام الماضي، رحل الفنان المصري الكبير صلاح السعدني، الذي اشتهر بلقب «عمدة الدراما المصرية»، عن عمر ناهز 81 عاماً، وقدم الفنان الراحل المولود في محافظة المنوفية (دلتا مصر) عام 1943 أكثر من 200 عمل فني.

صلاح السعدني (أرشيفية)

كما ودّعت مصر في شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2024 كذلك الفنان التشكيلي الكبير حلمي التوني عن عمر ناهز 90 عاماً، بعد رحلة طويلة مفعمة بالبهجة والحب، مُخلفاً حالة من الحزن في الوسط التشكيلي والثقافي المصري، فقد تميَّز التوني الحاصل على جوائز عربية وعالمية عدّة، بـ«اشتباكه» مع التراث المصري ومفرداته وقيمه ورموزه، واشتهر برسم عالم المرأة، الذي عدّه «عالماً لا ينفصل عن عالم الحب».

وفي وقت لاحق من العام نفسه، غيّب الموت الفنان المصري حسن يوسف الذي كان أحد أبرز الوجوه السينمائية في حقبتي الستينات والسبعينات عن عمر ناهز 90 عاماً. وبدأ يوسف المُلقب بـ«الولد الشقي» والمولود في القاهرة عام 1934، مشواره الفني من «المسرح القومي» ومنه إلى السينما التي قدم خلالها عدداً كبيراً من الأعمال من بينها «الخطايا»، و«الباب المفتوح»، و«للرجال فقط»، و«الشياطين الثلاثة»، و«مطلوب أرملة»، و«شاطئ المرح»، و«السيرك»، و«الزواج على الطريقة الحديثة»، و«فتاة الاستعراض»، و«7 أيام في الجنة»، و«كفاني يا قلب».

الفنان حسن يوسف وزوجته شمس البارودي (صفحة شمس على فيسبوك)

وعقب وفاة حسن يوسف بساعات رحل الفنان مصطفى فهمي، المشهور بلقب «برنس الشاشة»، عن عمر ناهز 82 عاماً بعد صراع مع المرض.

وجدّدت وفاة الفنان نبيل الحلفاوي في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، الحزن في الوسط الفني، فقد رحل بعد مسيرة فنية حافلة، قدّم خلالها كثيراً من الأدوار المميزة في الدراما التلفزيونية والسينما.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

وطوى عام 2024 صفحته الأخيرة برحيل الكاتب والمخرج بشير الديك، إثر صراع مع المرض شهدته أيامه الأخيرة، بالإضافة إلى رحيل «أيقونة» الأغنية الشعبية المصرية أحمد عدوية، قبيل نهاية العام.