التخت الشرقي... تاريخٌ عصيٌّ على الاندثار

يكاد يكون أساس الموسيقى العربية منذ العصر العباسي

نصير شمة
نصير شمة
TT

التخت الشرقي... تاريخٌ عصيٌّ على الاندثار

نصير شمة
نصير شمة

لم تكن حاجة الذائقة السمعية ماسّةً لما تمثله موسيقى التخت الشرقي، في أي وقت مضى، مثلما هي اليوم. ليس للحفاظ على طبيعة هذا الطراز الموسيقي الذي يعود إلى قرون، فهو عصيٌّ على الاندثار، كما يخبرنا التاريخ بذلك. لكن الحاجة ماسّة لموسيقى بقيت ملهِمة في آلات التخت الشرقي، ولم تستطع الآلات الإلكترونية الجديدة، على أهميتها، إزاحتها.
ذلك أحد أهم الأسباب في اختيار مسرح «بيير بولسار» ببرلين في دورته الخامسة، لأيام الموسيقى العربية بوصفها أفضل ما يجمع الدول العربية لتقديم فنها في تبادل إبداعي، فالموسيقى لا تخضع لجغرافيا التقسيم وهي تكتنز كل هذا التاريخ في متنها الحسّي.
التخت الشرقي لا يكتفي بالتعبير عن خصوصية بلد ما في الشرق، بل هو جامع لكل تلك البلدان، فاسمه مستلٌّ من مفردة تعني المجلس أو المنصة الخشبية التي كان يجلس عليها العازفون والمنشدون في معابد البابليين، كمكان مرتفع قليلاً عن المتعبدين.
واستوحت موسيقى التخت الشرقي، تلك الطقوس في المقامات العراقية حتى القدود الحلبية والطقطوقة السورية والموال والأدوار المصرية، وصولاً إلى الموشحات والمألوف في بلدان المغرب العربي بشمال أفريقيا.


 لبانة القنطار

كذلك تتنوع خيارات هذه الأيام العربية وهي تحتفي بالموسيقى في أعمق صورها، عبر نتاجات مجموعات فنية من البلدان العربية التي بقيت على خيارها في التعريف بحضارتها وثقافتها بالموسيقى، عابرة في ذلك الخلاف السياسي والجغرافي.
فالتخت الشرقي يكاد يكون أساس الموسيقى العربية منذ أن وُجد في العصر العباسي، لكنه اتخذ لنفسه فيما بعد تلك الصورة المصغرة لموسيقى تقتصر على عدد قليل من الآلات الشرقية تحديداً: القانون، والعود، والناي، والبزق، والدف. حتى ضم إليها الكمان، الموسيقار السوري أنطوان الشوا عام 1865.
وتمثل تجربة الفيلسوف العربي يعقوب بن إسحاق الكندي الذي عاش في القرن الثامن الميلادي إبان العصر العباسي في بغداد، وأدخل مفردة الموسيقى إلى اللغة العربية التي انتقلت إلى اللغات الأخرى بما فيها الإنجليزية، بدايات التخت الشرقي الذي تطور إلى مفهومه المعاصر.
وضع الكندي أولى قواعد الموسيقى في العالم الإسلامي آنذاك، ولم يكتفِ بالتنظير المعرفي لفلسفة الموسيقى وتأثيرها على الحواس، إذ كوّن تختاً شرقياً ووضع سلماً موسيقياً من اثنتي عشرة نغمة، ما زال يُستخدم في الموسيقى العربية إلى اليوم، وكان أول مَن اقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود.
والكندي الذي كان شديد العقلانية ووضع خمس رسائل في الموسيقى، اكتشف في الموسيقى علاجاً عندما عدّها بمثابة «الحيلة لدفع الأحزان»، في نوعٍ من المواساة الفلسفية.
واليوم تقدَّم هذه المشاركات في أيام الموسيقى العربية بطريقة معاصرة، لكنها لا تغادر صورة التخت الشرقي التاريخي. فالموسيقار العراقي نصير شمة يحافظ على هوية تلك الآلات الشرقية لكنه في الوقت نفسه يضيف لها آلات هوائية ووترية مثل فيولونسيلو ودبل باس والفلوت، بينما يقدم لنا الفنان اللبناني فادي أبو سعد «ألف» التخت الشرقي من البيانو بوصفها الآلة التي تمتلك تلك القدرة العجيبة لتكون جزءاً حيوياً من موسيقى الغرب والشرق على حد سواء، فتأتي مع التخت المصاحب لبيانو «ألف»، أنغام القانون والرق والترومبون محمّلة بطاقة موسيقية تجمع موسيقى الشعوب.
بينما ستكون قيادة عازف الكمان المغربي محمد العثماني مع جوق الموسيقى الأندلسية في تخت شرقي مغاربي، يحافظ على هويته الأندلسية المتمثلة بالعود والربابة والدربوكة والطار، مضافاً إليها الفيولا. مثلما يقدم الموسيقى الصوفية التي بقيت أعمق طرق التعبير الروحي عن المناجاة والابتهالات.
يكاد هذا الجوق المغربي الذي بقي مخلصاً لخصوصية الموسيقى المغاربية، أكثر المحافظين على أطوار المألوف والموسيقى الأندلسية التي بقي المغرب أميناً عليها، مثلما يجسد جوق العثماني التعريف التاريخي والمعاصر في آن واحد لمفهوم التخت الشرقي.
لا يمكن للتخت الشرقي أن يكتمل من دون الغناء! فالفنانة السورية لبانة القنطار الصوت الأوبرالي القادم من عمق بلاد الشام، تكاد تعيد الفنانة الراحلة أسمهان إلى الحياة، في استلهام عربي معاصر للغناء الأوبرالي مع التخت الشرقي في جوقة تذوب ولهاً مع سحر الناي والقانون.
فإذا كان نصير شمة أكثر المخلصين لاستمرار مدرسة العود العراقية الممثلة بجميل بشير وسلمان شكر ومنير بشير وروحي الخماش، فإن لبانة القنطار امتداد لغناء الراحلة أسمهان بطبقة صوتية أوبرالية وبحس عربي.
كذلك ستكون تلك الجوقات ملهمة ومعبرة عن الفكرة التي تأمل بها أيام الموسيقى العربية على امتداد أماسيّها في برلين. مثلما هي فرصة للجمهور المختلف في تنوعه وذائقته وخلفياته الثقافية، لتكوين فكرة جيدة عن التخت الشرقي، على نفس المستوى من اختبار مشاعر الذائقة السمعية الأوروبية وتفاعلها مع الموسيقى العربية الممثلة بأبرع العازفين المعاصرين الممثلين لخصوصية موسيقى بلدانهم.
ستكون هناك استعادة لدور التخت الشرقي الذي كان يستوطن القصور والسرايا في القرن التاسع عشر، قبل أن ينتقل إلى المقاهي والأحياء في الدول العربية، فالموسيقى لا تفرّق بين الأغنياء والفقراء، كما أن نغماتها لا تتغير أو تصاب بالوهن سواء قُدمت في القصور المدججة بالفخامة أو في المقاهي التي يرتادها عامة الناس.
كانت التخوت تسمى باسم فنانيها، مثل تخت سامي الشوّا في سوريا، وتخت منيرة المهدية في مصر، وتخت صالح الكويتي ومحمد القبانجي في العراق.
ولا يمكن للتاريخ الموسيقي إلا أن يتأمل «فرقة خماسي الفنون الجميلة» التي جمعت نخبة فنية بارعة من الموسيقيين العراقيين (سالم حسين: قانون. غانم حداد: كمان. روحي الخماش: عود. حسين قدوري: الجلو. حسين عبد الله: الدف) بوصفها المعبّر الأمثل عن التخت الشرقي.
وما قدمه هذا التخت من بشارف وسماعيات وتقاسيم، يعد اليوم مرجعاً لفهم دلالة الرقي بالذائقة السمعية.
استمر تخت «خماسي الفنون الجميلة» منذ سبعينات القرن العشرين حتى بداية عام 1990 جاب خلال تلك السنين عواصم العالم، مرسخاً مفاهيم الموسيقى العربية التي يمثلها التخت الشرقي.
كذلك بقيت السطوة لآلات التخت الشرقي متوجة في سحرها على المشاعر الإنسانية، فالقانون لم يفقد تسيّده على كبرى الجوقات الموسيقية على مر التاريخ «يتوسط عازف القانون عازفي التخت الشرقي للتعبير عن هيبته وقيادته الموسيقية»، والعود يكاد يكون السيد منذ أن اكتُشفت أول قيثارة سومرية قبل ستة آلاف سنة في بلاد الرافدين. ويبقى الناي أداة العاشقين الهائمين والفلاحين والرعاة على مر التاريخ، ثم تطور إلى آلات هوائية معاصرة أضحت المصاحب الأساسي لأوركسترا الموسيقى الكلاسيكية، بينما يكتفي الكمان بكونه الجامع بين الموسيقى في الشرق والغرب، متجاوزاً فكرة «ربع تون» التي يتذرع بها البعض لتقسيم الموسيقى.
الرقّ احتفظ بهيئته المشرقية وبقي أساسياً في التخت الشرقي، فضلاً عن كونه أداة كل احتفالات الشعوب وابتهالاتها وأناشيدها، لذلك تطوّر وتحوّر وتغيّر حجمه واسمه، لكنه لم يغادر التخت الشرقي، وذلك ما سيكون واضحاً في أماسيّ الأيام الموسيقية العربية لمسرح «بيير بولسار».
التخت الشرقي بمثابة مدرسة موسيقية وإن كانت صغيرة فإنها جادة في التعبير عن الأنماط الموسيقية العربية، مثلما هي قادرة على أن تكون مثالاً يعود له الدارسون لعلوم الغناء وأسرار هذا الفن الأزلي، التي باتت بموجبه الموسيقى المعبّر الأصدق عن الحرية الإنسانية.
في حين كان التخت الشرقي يتألف في الغالب من عدد قليل من الموسيقيين، لكنه لم يكتفِ بذلك وخرج عن الشكل التقليدي حتى أصبح فرقة متكاملة يماثل عددها الأوركسترا الغربية. مع ذلك تبقى لمسة الحنين باقية للتخت الشرقي كما هو بعدد من الموسيقيين الذين لا يتجاوزن خمسة عازفين، فضلاً عن كونه يمتلك من الطاقة الموسيقية ما يجعله قادراً على إيصال أصعب المقامات، ومصاحبة أعمق الأصوات في أدائها الغنائي.
ولأن الموسيقى والغناء هي نتاج لتاريخ من القوالب والقوانين والأشكال والبيئات على مستوى حقب التاريخ، فإن التخت الشرقي وليد تلك الحقب والأشكال الموسيقية التي توارثتها الأجيال عبر امتزاج علوم الغناء بالأفكار الفطرية عن ذلك الفن الذي بقي يحمل أعلى الرسائل الإنسانية.
سيحمل التخت الشرقي على مدار الأماسيّ الأربع في أيام الموسيقى العربية، ما يؤكد الحقيقة التاريخية بأن الموسيقى بقيت الأصدق على مر العصور عندما تقترن بالمشاعر الإنسانية، ولم تؤثر عليها كل التقسيمات الجغرافية، بقدر ما منحتها مساحة مضافة للتنوع والتلاقي والتطور والنمو.
إذا كان الإنسان لم يختلف في يوم ما على أهمية الموسيقى في حياة البشرية منذ أول نغمة صدرت من قيثارة بدائية قبل آلاف السنين، فإنه اليوم يستعين بها من أجل التعرف على ثقافة الآخر المختلف عنه، بوصف الموسيقى الفن الأمثل العابر لكل الحواجز العرقية والإثنية والوطنية.
كان العالم العربي محمد أبو نصر الفارابي، الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، قد رأى في الموسيقى في كتابه الشهير «كتاب الموسيقى الكبير» أنها تُحدث في «نفس الإنسان تخيلات وتصورات، مثل ما تفعل التماثيل المحسوسة بالبصر» لذلك استحدثها الإنسان تحقيقاً وإيفاءً لفطرته.
والعالم اليوم يلجأ إلى الموسيقى بوصفها العامل الإنساني الموحّد لكسر الخلافات والفروقات. وسيكون التخت الشرقي أحد أشكال الموسيقى المصورة للهوية والثقافة العربيتين، فهناك الكثير ما يجمع العرب من شمال أفريقيا حتى الخليج العربي، لكن الموسيقى كانت وستبقى أكثر ما يجمع الشعوب بعضها مع بعض.

* كاتب وصحافي عراقي


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».