بدأت، أمس، من بالمورال «رحلة وداع» الملكة إليزابيث الثانية، ونُقل نعشها إلى إدنبره في رحلة استمرت ست ساعات عبر الأرياف الاسكتلندية حيث احتشد الآلاف في صمت. في غضون ذلك، استقبل الملك الجديد تشارلز الثالث ممثلين عن دول الكومنولث في قصر باكنغهام بعد يوم من تنصيبه رسمياً، فيما يستعد لزيارة إدنبره وبلفاست وكارديف هذا الأسبوع.
- رحلة الوداع
وغادر النعش قصر بالمورال حيث توفيت الملكة الخميس، ونقله ستة من حراس الصيد في الدار الملكية إلى سيارة دفن الموتى. وكانت السيارة التي تحمل النعش المصنوع من خشب السنديان في مقدمة موكب مؤلف من سبع سيارات، تنقل إحداها الأميرة آن ابنة الملكة الراحلة وزوجها. وقد غطى النعش العلم الملكي الاسكتلندي وإكليل من الورد الجبلي والأضالية وسلة الزهور من حدائق القصر. ومر الموكب ببطء أمام باقات الزهور الموضوعة عند أبواب الدار الملكية.
وما أن أعلنت وفاة الملكة الخميس، حتى بدأ أبناء المنطقة يتقاطرون إلى المكان لينضم إليهم لاحقاً أشخاص أتوا من كل أرجاء اسكتلندا والمملكة المتحدة وخارجها. وقال الأستاذ الجامعي مارك ليندلي - هايفيلد، البالغ 47 عاماً والمقيم في إنفرنس على بعد نحو ساعتين من بالمورال، لوكالة الصحافة الفرنسية: «شعرت بالحاجة لآتي إلى بالمورال» تكريماً للملكة. وقد قام بالرحلة مرتدياً لباس الحداد مع سترة رسمية طويلة وقبعة عالية. من جهتها، قالت نيا غراي - وانل، وهي عالمة تقيم في بلدة بالاتير المجاورة: «هي الملكة الوحيدة التي عرفتها طوال حياتي».
وكانت بالاتير أول بلدة يجتازها الموكب، وقد انتشر مئات الأشخاص على طول الشارع الرئيسي وارتدى كثيرون منهم الأسود. ووقف أمام كنيسة البلدة رجال دين وقد انحنى بعضهم عند مرور النعش، وممثلون للسلطات المحلية باللباس الاسكتلندي التقليدي. وعبر الموكب بعد ذلك بلدات عدة، وعلا التصفيق تارة، وانهمرت الدموع تارة أخرى.
وبعد عبور الموكب نحو 300 كيلومتر عبر الأرياف الاسكتلندية الخضراء، وصل النعش إلى قصر «هوليرود»، المقر الرسمي للملكة في اسكتلندا في العاصمة إدنبره. وسيسجى جثمان الملكة لمدة 24 ساعة في كاتدرائية «سانت جيل» حيث ستقام مراسم دينية.
وكانت رحلة الموكب الجنائزي في اسكتلندا الجزء الأول من مراسم مهيبة ستستمر حتى جنازة الملكة إليزابيث الثانية في 19 سبتمبر (أيلول)، والتي ستقام بكنيسة ويستمنستر، ليتم نقل النعش بعد ذلك لوينسور حيث ستدفن إلى جانب والدها ووالدتها وأختها.
وسيُحمل النعش جواً من إدنبره إلى لندن الثلاثاء، حيث يظل في قصر باكنغهام ثم يُنقل في اليوم التالي إلى قاعة ويستمنستر ويبقى هناك مكشوفاً لأربعة أيام. وفي عام 2002، اصطف أكثر من 200 ألف شخص لتقديم احترامهم لـ«الملكة الأم» والدة إليزابيث بينما كانت ترقد في نعش مكشوف. ورجح مسؤولون أن يصل عدد الراغبين في إلقاء نظرة أخيرة على النعش الملكي ملايين. وقالت المتحدثة باسم رئيسة الوزراء ليز تراس للصحافيين: «من البديهي القول إننا يمكن أن نتوقع أعداداً كبيرة من الناس».
- تنصيب تشارلز الثالث... و«شين فين» يقاطع
وفيما كان نعش الملكة الراحلة يشق طريقه عبر اسكتلندا، أعلن نجلها تشارلز الثالث رسمياً ملكاً في إدنبره وكارديف وبلفاست، وترافق ذلك مع 21 طلقة مدفع في المدن الثلاث.
ولم يشارك الحزب الجمهوري الإيرلندي «شين فين» في المراسم التي أقيمت في إيرلندا الشمالية لإعلانه ملكاً، إذ رأت رئيسته ماري لو ماكدونالد أنه مخصص «لمن يدينون بالولاء للتاج» البريطاني. وبعد لندن، السبت، أُعلن تشارلز الثالث ملكاً رسمياً صباح الأحد في مراسم أقيمت في إدنبره وكارديف وبلفاست. وقالت ماري لو ماكدونالد في تصريحات بثتها وكالة الأنباء «برس أسوسييشن» إن حزبها «شين فين» الذي يؤيد إعادة توحيد إيرلندا الشمالية مع جمهورية إيرلندا، لم يحضر، لكن مسؤولي الحزب سيحضرون مناسبات أخرى في إطار الحداد بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية.
وستشارك نائبة رئيسة الحزب ميشيل أونيل، اليوم الاثنين، في مراسم بالبرلمان مرتبطة بوفاة الملكة. وقالت ماري لو ماكدونالد إن «شين فين (...) يقدم تعازيه بوفاة الملكة إليزابيث التي تأثرت بفقدانها عائلتها والكثيرون في مجتمعنا، لا سيما في مجتمع الوحدويين». وأضافت: «ندرك الدور الإيجابي جداً الذي لعبته الملكة في دفع السلام والمصالحة بين جزيرتينا وتقاليد جزيرتنا خلال سنوات عملية السلام».
وشهدت السنوات السبعون من حكم إليزابيث الثانية ثلاثة عقود من «الاضطرابات» في المقاطعة البريطانية بين الجمهوريين الكاثوليك الراغبين في إعادة التوحيد مع إيرلندا، والوحدويين ومعظمهم من البروتستانت الذين يفضلون البقاء داخل التاج. وأدى هذا النزاع الذي شارك فيه الجيش البريطاني إلى مقتل نحو 3500 شخص حتى اتفاق الجمعة العظيمة في 1998.
وفي 2011 أصبحت الملكة أول عاهل بريطاني يزور إيرلندا. وفسرت هذه الزيارة على أنها مبادرة كبرى على طريق المصالحة. والجيش الجمهوري الإيرلندي اغتال لويس ماونتباتن، ابن عم الملكة، وراعي الملك الجديد تشارلز الثالث، في تفجير عام 1979، واعتذر شين فين العام الماضي عن عملية الاغتيال.
وخارج المملكة المتحدة، عُيِن الملك تشارلز الثالث، رسميا أمس، ملكاً لأستراليا ونيوزيلندا في احتفالات أقيمت في البلدين بمناسبة اعتلائه العرش. ففي كانبيرا، أعلن الحاكم العام ديفيد هيرلي أن «الأمير تشارلز فيليب آرثر جورج هو الملك تشارلز الثالث (...) ملك أستراليا».
وفي حفل مماثل في ويلنغتون، حيت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن تشارلز الثالث، مؤكدة أنه «يُكِن الود منذ فترة طويلة لنيوزيلندا، وأظهر باستمرار اهتمامه الكبير بأمتنا». وتعد هذه المراسم شكلية إلى حد كبير، إذ إن المستعمرتين البريطانيتين السابقتين مستقلتان منذ عقود، لكنهما أبقتا الملك رئيساً للدولة. وأعلن رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز الذي سيتوجه إلى لندن لحضور جنازة الملكة إليزابيث الثانية، أن 22 سبتمبر سيكون عطلة رسمية في أستراليا حداداً على الملكة.
- جدل الجولة الملكية
أثار الوجود المرتقب لرئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس في فعاليات بمختلف أنحاء البلاد تكريماً لذكرى الملكة إليزابيث الثانية انتقادات في بريطانيا، ما دفع بـ«داونينغ ستريت» إلى التأكيد أنها «لا ترافق» الملك الجديد رسمياً في هذه الجولة. وقالت الحكومة البريطانية إن «رئيسة الوزراء لا ترافق الملك، وهذه ليست جولة. هي ستحضر الفعاليات فقط»، وذلك رداً على الاتهامات التي تواجه تراس بـ«محاولة» استغلال هذه المناسبة سياسياً. وكان داونينغ ستريت قد أعلن السبت أن تراس، التي عينتها الملكة الراحلة الثلاثاء رئيسة للوزراء، «ستنضم إلى الملك حين يتلقى الحداد الوطني في مختلف أنحاء بريطانيا ليحضر فعاليات» في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز.
وكتبت صحيفة «الغارديان» أن هذه الفكرة «أثارت بعض الانتقادات» في مواجهة شكوك بأن رئيسة الوزراء تستفيد منها لتبرز سياسياً. فيما كتب هنري مانس الصحافي في «فايننشال تايمز»: «يمكنني أن أرى كيف يفيد هذا الأمر ليز تراس، لكن لا أرى كيف يفيد الملك تشارلز»، مضيفاً أن «جو التمنيات الحسنة الذي شوهد خارج القصر أمس سيكون من الصعب إعادة خلقه إذا كان مسؤول سياسي حاضراً ويتدخل في كل شيء».
وعمد فريق رئيسة الوزراء بسرعة إلى تهدئة هذا الجدل، وأوضح «داونينغ ستريت» أن «هذا ليس التزاماً، إنما رئيسة الوزراء تعتبر أن من المهم أن تكون حاضرة خلال ما سيكون لحظة مهمة في الحداد الوطني في كل أنحاء بريطانيا».
وسيزور الملك الجديد المقاطعات الأربع في البلاد التي تشكل المملكة المتحدة إثر وفاة والدته. وسيحضر تشارلز الثالث أولاً حفل «صلاة وتأمل» الاثنين في كاتدرائية «سان جيل» في إدنبره، ثم يتوجه الثلاثاء إلى بلفاست عاصمة إيرلندا الشمالية لحضور مراسم مماثلة في كاتدرائية القديسة آن، ويغادر بعد ذلك الجمعة إلى ويلز.