إيتالو سفيفو... رجل مولود في زمن غير مناسب

إيتالو سفيفو  -  غلاف الرواية
إيتالو سفيفو - غلاف الرواية
TT

إيتالو سفيفو... رجل مولود في زمن غير مناسب

إيتالو سفيفو  -  غلاف الرواية
إيتالو سفيفو - غلاف الرواية

يقول زينو كوزيني في رواية «رجل عجوز جداً» لإيتالو سفيفو: «أنا رجل مولود في زمن غير مناسب». وهي عبارة مفعمة بسخرية درامية، لأن الوصف ينطبق بشكل أفضل على مُنشئ الشخصية الروائية، وبالنسبة له يمكن أن تكون بمثابة مرثية منقوشة على شاهدة الضريح. في حالة زينو، فإن معنى كلمة «غير مناسب» معنى ضيق للغاية. فلم يكن كبار السن يعاملونه باحترام في شبابه. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد حيازة زينو أخيراً لمكانته الرفيعة، يكتشف أن الشباب لا يديرون العالم فحسب، وإنما يباشرون أعمال عائلته كذلك. ومن ثم، يتعرض للتجاهل مرة أخرى.
لكن الأمور كانت أسوأ كثيراً لدى مُبدع شخصية زينو نفسه. إذ إن عدم الملائمة بجميع مظاهرها - من التوقيت السيئ، والحظ العاثر، والروابط الفائتة - هي السمة السائدة لحياة إيتالو سفيفو، وأعماله، وربما حياته الآخرة. ولد «آرون إتور شميتز» من أصل ألماني وإيطالي في «ترييستي»، المدينة ذات الأنساب المختلطة، ومحل نزاع الأصول والمنشأ بين إيطاليا والإمبراطورية النمساوية المجرية، والتي تسكنها أغلبية سلوفينية إلى حد كبير. ويتحدث سفيفو باللهجة التريستية، اللهجة المُستعارة من اللغات السلوفينية، واليونانية، والألمانية، وغير المفهومة لدى جُل الإيطاليين الآخرين. وبرغم من أنه كتب رواياته باللغة الإيطالية التوسكانية الرسمية، اتباعاً للتقاليد الأدبية القومية، فإنها لم تكن اللغة الأولى بالنسبة له، بل كانت اللغة التي يئس من إتقانها. يقول على لسان شخصيته المبتكرة في رواية «ضمير زينو»: «كل كلمة نكتبها باللغة التوسكانية هي كذبة».
لم يكن حس شميتز الثقافي إيطالياً ولا تريستياً، بل كان ألمانياً. وقد التحق بمدرسة داخلية في «شوابيا»، حيث تأثر إلى حد كبير بالفلسفة الحتمية المُتبناة لدى الفيلسوف «أرتور شوبنهاور»، ومن ثم اتخذ لنفسه اسماً مستعاراً يعكس هويته المُهَجَّنة («إيتالو سفيفو» أي «الشوابي الإيطالي»). كان يهودي الديانة بحكم النشأة، ثم اعتنق الكاثوليكية استرضاءً لزوجته، لكن بعد حصوله على «إِبراء» لرفضه تلقي التعاليم المسيحية، وجد نفسه في موقف جيد ما بين الديانتين.
قضى أحد أعظم مؤلفي إيطاليا جُل حياته خجلاً للغاية من الاعتراف بأنه كاتب. وقد أخفى شغفه بالكتابة عن الرأي العام - حتى أنه تجنب مناقشتها مع زوجته - فيما كان يعمل طوال عقدين تقريباً في قسم المراسلات بالفرع المحلي لبنك الاتحاد في فيينا. وكتب خلال هذه الفترة رواية «أونا فيتا» (الحياة) عام 1892. عن اليأس المُضطرِم الذي يخيم على حياة ذوي الياقات البيضاء (طبقة الموظفين)، ثم رواية «سينيليتا» (مع تقدم الرجل في العمر) عام 1898، عن علاقة غير سوية بين كاتب فاشل وامرأة مشكوك في أخلاقها. نُشرت الروايات، المتطرفة، الخارجة على التقاليد الأدبية المعتمدة في القرن التاسع عشر، على حسابه الشخصي، وتم تجاهلها بشدة، إلا من قبل اثنين من النقاد الذين كثيراً ما وجهوا إليه اللوم بسبب ثيماتها المتدنية. وعندما سمع أحد المصرفيين في وقت لاحق بأن زميله نشر روايات، قال: «من هو؟ ليس ذلك الأحمق شميتز بكل تأكيد؟».
في النصف الثاني من حياته المهنية عمل مع حميه، إذ كان يصنع الطلاء الواقي لهياكل السفن. وبحلول عيد ميلاده الأربعين، تخلى عن طموحاته الأدبية. وتقول زوجته «ليفيا» في مذكراتها عن زوجها إيتالو سفيفو عام (1950): «عندئذ، خمدت حمية الكاتب لديه وغطت في سبات عميق». وقضى العقدين التاليين، أي في أوج المسيرة المهنية للعديد من الروائيين، في صناعة الطلاء.
كانت ابتسامة الحظ الوحيدة لدى سفيفو بالغة التطرف - واحدة من أعظم الفواصل المواتية في التاريخ الأدبي - حتى أنه بالنظر إلى تاريخ حياته نجدها حتمية بشكل لا محيد عنه، ومتماهية تماماً مع منوال حياته، وكان لا بد أن تتبعها ضربة قاسية وأخيرة من القدر. ففي حياة إيتالو سفيفو، كما في رواياته، لم تمر قط أي مفاجأة سارة مرور الكرام.
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».