«جرما الترجمان»... أزمات الثقافة وتجاذبات السياسة

«جرما الترجمان»... أزمات الثقافة وتجاذبات السياسة
TT

«جرما الترجمان»... أزمات الثقافة وتجاذبات السياسة

«جرما الترجمان»... أزمات الثقافة وتجاذبات السياسة

من الواضح أن رحلة الروائي السعودي محمد حسن علوان إلى الأندلس، وما يتصل بها من أبعاد دينية وسياسية، عبر شخصية ابن عربي في روايته الكبيرة «موت صغير» (2016) لم تتوقف بعد، فقد أتبعها برواية أخرى تستكشف مرحلة قريبة من الأولى، تظهر فيها هذه المرة العلاقات الإسلامية المسيحية، وأيضاً المسيحية المسيحية، من خلال شخصية مترجم من مسيحيي المشرق، عاصر بدايات الدولة العثمانية والصراع السياسي بينها وبين دول أوروبا في فترة مليئة بالأحداث المفصلية: فتح القسطنطينية، وبداية الخلافة العثمانية، والاستعادة المسيحية للأندلس بزوال الحكم الإسلامي نهائياً من شبه الجزيرة الآيبيرية. لكن تلك الأحداث ليست موضوع الرواية، وإنما هي ظلال تحوم في الخلف وتترك آثاراً متفاوتة الأهمية.
الشخصية الرئيسة في الرواية وصوتها الروائي أيضاً هو المترجم جرمانوس أو جرما. يسرد جرما علاقته بالوسط المسيحي الذي ينتمي إليه، ثم بسلطان عثماني مخلوع تربطه به الأقدار من خلال عمله مترجماً لدى السلطان.
الشخصيتان الرئيستان هما إذن جرما والسلطان، وبينهما شبه واضح يوازي ما بينهما من اختلاف واضح أيضاً. السلطان، من ناحيته، طريد فقد فرصته في الحكم بعد تولي أخيه بايزيد الحكم. ويبدو هنا أن الكاتب اتكأ على ما يروى عن أن السلطان العثماني بايزيد تخلص من أخ له اسمه يعقوب بقتله؛ لكن حرص الكاتب على عدم الربط التاريخي المباشر جعله يفضل ترك أخي السلطان طريداً بدلاً من أن يكون مقتولاً.
يتوارى البعد التاريخي ليظل خلفية باهتة، وإن كانت مهمة ليبرز البعد الإنساني والثقافي أو الحضاري من خلال التوتر الديني والمذهبي وكذلك السياسي، وأثر ذلك على شخصيات الرواية وحياتها، وما يربطها بعضها ببعض.
تتلخص الحكاية الأساسية في أن جرما صار ترجماناً بعد إجادته لعديد من اللغات الرئيسة آنذاك، وأنه صار رحالة سندبادياً أيضاً بخروجه من مدينته حلب ثم رحلاته، مخيراً حيناً ومرغماً حيناً، إلى جزر وبلدات البحر المتوسط والمناطق المحيطة به: سرقوسة في صقلية، والماغوصة أو فاماغوستا كما تعرف الآن، في قبرص، وأخيراً روما. تنقله يعرضه لمغامرات عديدة يكاد أن يهلك في بعضها؛ لكنه يحقق مكانة وشهرة وبعض المال في أخرى، فهو يتعرض للخداع من قبل أبيه الذي يرسله دون أن يعلم إلى حيث يعمل مزارعاً بالسخرة، ثم حين يخرج من تلك تتحسن حظوظه بعمله لدى السلطان التركي الطريد؛ لكن وضع السلطان ليس أفضل من وضع جرما، وإن على مستوى أعلى وأكثر رفاهية. كلاهما مشردان، يسعى أحدهما لتأمين عيشه وكسب الأمان؛ حيث يذهب، ويسعى الآخر –يائساً- لاستعادة حكمه من أخيه بالتحالف مع أي كان؛ لكن ذلك يجعله رهينة لأهواء الساسة الأوروبيين ورغبات البابا في روما. يسعى أولئك لاستعماله سلاحاً ضد أخيه في حروبهم الطويلة مع الدولة العثمانية التي كانت تنشر بيارقها في كل مكان، وتهدد الأراضي المسيحية باستمرار.
على المستوى الفني، يبدو لي أن الربط بين روايتَي علوان: «جرما الترجمان» و«موت صغير»، ليس في صالح «جرما»، فالعمل أقل كثافة وأقصر مدى من سابقه؛ لكن هذا لا يقلل من أهمية الرواية الأخيرة زمنياً من ناحية تبدو لي في غاية الأهمية، ولعله تحيز شخصي للجانب الفكري في العمل الأدبي، يجعلني أعجب كثيراً برواية تتمحور حول الترجمة، وأهم من ذلك حول التوتر عبر الثقافات والأديان.
جرما المسيحي الذي عاش بين المسلمين، ويعمل مع سلطان مسلم، يطرح قضية الأقليات من ناحية وإشكاليات التلاقح الثقافي والتعايش الديني والمذهبي، من ناحية أخرى. هنا تتضح أهمية الهوية المشرقية لمسيحية جرما؛ لأنها تجعله غريباً على مسيحيي الغرب، فحتى ضمن المسيحية نفسها يعلو صوت القلق والارتياب والمخاوف.
في مدينة سرقوسة بصقلية التي يصلها جرما على سفينة تحمل السلطان، يقرر المترجم ترك عمله وينضم إلى المقيمين في كنيسة محلية. هناك يجد استقبالاً جيداً لكنه لا يخلو من توجس حول أصله وانتمائه الديني، فهو يعبر لقسيس الكنيسة عن قلقه من أن مساعد القسيس يظنه مسلماً، ويشرح ذلك قائلاً: «لقد عشت في بلاد المسلمين طوال حياتي. قد تظنون أننا في المشرق صرنا أقرب إليهم منكم. أليس كذلك؟ ألم تهاجمنا الجيوش الصليبية مثلما هاجمتهم؟ ألم ينهبوا كنائس القسطنطينية؟». وحين يقرر العمل عند حاكم مسيحي ثم يخشى على نفسه لأسباب مختلفة، نجده يطرح التساؤل ذاته مضيفاً الهراطقة إلى المتدينين: «هل يظنني تعاطفت مع الهراطقة لأني كنت مسيحياً شرقياً؟ أو تعاطفت مع المسلمين لأني أعيش في حلب؟ أو تعاطفت مع اليهود من فرط ما قضيت من وقت في حيهم؟».
إنه مأزق وجودي وثقافي تبرزه الرواية بتكرار الإشارة إليه وتذكير القارئ به، والترجمة أحد عناصر ذلك المأزق على مستوى اللغة؛ لكن الدين هو مداره، مثلما كان التعارض بين التصوف وطريق أهل السنة مدار العلاقة بين ابن عربي ومحيطه في المغرب والمشرق الإسلاميين. لكن رواية جرما تطرح هذا المأزق من زاوية أخف فكرياً مما تطرحه رواية «موت صغير»، تطرحه بصورة لا تخلو من السخرية الضاحكة، كما في نصيحة القس لجرما بأن يتزوج: «قال لي وهو يضحك: إن الرهبان الكثالكة الذين لا يتزوجون تختل عقولهم بعد الأربعين، والرهبان الشرقيين الذين يتزوجون تختل عقولهم فوراً». أو كما في صورة السلطان الكاريكاتيرية بعد أن سجنه الفرسان المسيحيون في روما فصار سميناً: «صار السلطان مخروطياً كأنما اقتاته المنفى من طرفيه». وصورة السلطان هذه جزء من تناول الرواية لموضوع السلطة والسياسة والحرية المتصلة بهما.
السلطان شبيه بجرما من حيث إنه في مأزق اللجوء إلى مسيحيين يفترض أنهم أعداء بلاده وغرباء عن دينه؛ لكنه في الوقت نفسه أشبه من دون كيخوته أو الملك لير، يطارد ملكاً وهمياً وقضية خاسرة، وإن لم يصعد إلى أعالي الكوميديا أو المأساة لدى سيرفانتس أو شكسبير. شبيهه الأقرب هو ليون الأفريقي الذي تشرد بين الإسلام والمسيحية في عصر النهضة الأوروبي، وأكثر من ذلك عبد الله الصغير الذي خسر الأندلس في تلك الفترة، كما يأتي الإعلان في مرحلة متأخرة من السرد.
تحضر مسألة السلطة السياسية من خلال تأملات جرما في وضعه لاجئاً عند حكام لا يخلو عملهم عنده من إذلال، فتبرز مسألة الحرية والتحكم بمصائر الناس: «أنا من حاشية السلطان التي لا يحق لأحد أن يدخل فيها إلا مدعواً، أو يخرج منها إلا مطروداً». لكم تختصر هذه العبارة الكثير من واقع السلطة السياسية! لكن الرواية -وهذا مما يميزها- لا تغفل المفارقة في النظر إلى مسألة السلطة، فصاحب السلطة -أي السلطان هنا- خاضع بدوره لسلطة أخرى، هي سلطة أعدائه من الفرسان المسيحيين الأوروبيين الذين يرغمونه في النهاية على الذهاب إلى البابا في روما؛ بل وتقبيل يد البابا نفسه.
هذه المفارقة تأتي ضمن تبني الرواية لوجهة نظر جرما بوصفه الراوي. فعلى الرغم من تمزقه بين الأديان والمذاهب والسلطات السياسية، يظل جرما مسيحياً ينظر إلى المسلمين من خارج الصندوق، كما يقال. إنه يفسح لوجهة نظر غير إسلامية تتعامل مع المسلمين بوصفهم آخر أو حتى عدواً. يقول القسيس لجرما: «هل تظن أن كل ما حدث لك لم يكن مقدراً عن الرب؟ هل تظن أن هروبك من هؤلاء السراسنة ولجوءك إلى كنيستنا محض صدفة؟» هنا يتذكر جرما مأزق أن تكون مسيحياً في بلاد السراسنة، الاسم الذي ظل الأوروبيون يطلقونه على المسلمين لعدة قرون.
«السراسنة» كلمة لم يكن يجرؤ مسيحي على التلفظ بها «فعقاب ذلك مثل عقاب المشي على قبورهم أو الاختلاء بنسائهم». ثمة جرأة هنا، ليست من جرما، وإنما من رواية تخاطب قراء مسلمين في المقام الأول؛ لكنها جرأة يبررها أن الشخصية المتحدثة تتعاطف في مواضع كثيرة مع المسلمين، مثلما أنها تبرز غير المسلمين من زوايا تظهر جوانبهم العدوانية. إنه مأزق جرما والرواية معاً؛ لكنه المأزق الذي ينجح العمل في تجاوزه بتمثيل وجهات النظر المختلفة، وبتوظيف الكوميديا التي تخفف من وقع القضايا المطروحة.



محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف
TT

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

لأول مرة، يجمع عمل واحد كل ما قاله نجيب محفوظ حول أسرار فن الكتابة لديه وطقوس الإبداع، من واقع تجربته العملية الخاصة، وهو ما يوضح أهمية كتاب «نجيب محفوظ– عن الكتابة» الصادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة، للباحث عمرو فتحي.

في هذا الكتاب، يتحدث أديب «نوبل» عن علاقته بمؤثرات خارجية وداخلية تؤثر على الكتابة لديه، مثل الحالة المزاجية، والموسيقى، وفصل الخريف، وكذلك الإلهام، وهل يخضع له أم لا؟ ومتى يعرف أن الموضوع الذي خطر بباله يستحق الكتابة؟ وما الفارق بين كتابة الرواية والقصة القصيرة؟ وهل يشغل نفسه أثناء الكتابة بتساؤلات وجودية؟ مثل: «هل يُكتب لهذا النص الخلود؟».

يتضمن الكتاب إجابات شافية عن كثير من علامات الاستفهام في هذا السياق التي تكشف عن خفايا وكواليس الإنتاج الإبداعي لعميد الرواية العربية، والأب المؤسس لهذا الفن السردي في ثقافتنا.

يقول محفوظ إنه كتب أغلب أعماله وهو في «دوامة انفعال نفسي وفكري»، فهو لا يحب أن يكتب شيئاً وهو في ظروفه الفكرية الهادئة، فالأحداث والأنباء تثير الأفكار، وبوصفه كاتباً يضع نصب عينيه ألا يتخلف عن الحياة، ويسعى لأن يعايش حياة الناس حوله، ليستشف من وجوههم فهمه لواقعهم، لأسلوب حياتهم، لأفراحهم وأحزانهم وكل قيم وجودهم حتى يصورها ويعبر عنها.

ويشير إلى أنه أحياناً يكون قد مر على الفكرة عام أو عامان دون أن يمسك بالقلم، حتى إذا وصل إلى مرحلة التنفيذ فإن المسألة تتحول إلى عمل يجب أن يُنجز، ولن ينجز إلا بالإرادة والصبر، فهو لا يعرف «دلال الإلهام»، وإنما يعرف أن عليه أن يجلس إلى مكتبه كل يوم ساعة أو ساعتين، حتى يفرغ من الرواية في عام أو عامين.

إنه يكتب الموضوع كتابة أولى غير متمهلة وشبه عفوية، ولكنه لا يبدأ الكتابة إلا بعد اختمار الفكرة في نفسه وكذلك الشخوص، ثم يشرع في كتابتها بتأنٍّ من أولها إلى آخرها. وفي الكتابة الثانية يتغير النص تغيراً كبيراً، ولكن الفكرة لا يصيبها التغيير إلا في أضيق الحدود.

ويوضح أنه عبر تجربته الممتدة، مرت عليه فترة لم يكن يبدأ في كتابة الرواية إلا بعد أن يعايش أحداثها مدة طويلة، إلى أن تتبلور الفكرة تبلوراً نهائياً في ذهنه، بعد أن يكون قد تحدث إلى أشخاص كثيرين، بوصفه نوعاً من البحث وجمع المعلومات واستقراء الأحداث، وعندها يبدأ في الكتابة من منظور واقعي بحت.

وفي فترة أخرى، كان يكتب نصوصاً مدفوعاً بحالة ذهنية، فيشرع في تأليف العمل وليس في ذهنه سوى زاوية صغيرة أو فكرة معينة غامضة، ويترك للقلم أن يتدفق ويسيل عبر توارد الأفكار لاحقاً.

وفي أحيان ثالثة، كان يكتب انطلاقاً من «اللاشيء» بمعنى أنه لا توجد في ذهنه أي فكرة على الإطلاق، سوى الرغبة في الكتابة.

ويرى محفوظ أن عملية الكتابة في حد ذاتها هي فعل متفائل؛ لأنها تؤكد أن الكاتب يعتقد أن العالم رغم كل ما به من مآسٍ يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه، وهذا يقودنا إلى أن الكتابة مسؤولية، فلا بد من أن ينطوي النص على ابتكار جديد، وإلا فهو لا يستحق أن يكون عملاً فنياً. والقارئ لا يريد أن يطالع ما سبق أن كتبه الآخرون.

الخلود والسجائر

وعما إذا كان يشغل نفسه بمسألة الخلود الأدبي، يتساءل محفوظ: ولكن ماذا يعني الخلود أصلاً؟ مائة سنة؟ عدة مئات من السنين؟ وماذا تكون تلك الفترة البسيطة إذا قورنت بتاريخ الوجود الإنساني؟ الحقيقة أن أي كاتب يتمنى أن يبقى إنتاجه؛ لكنه لم يشغل نفسه قط بموضوع الخلود أو يفكر فيه أو يتصوره، بالعكس هو دائماً خائف من الموت، ولذلك كتب عنه كثيراً؛ لأن الكتابة عن الشيء تحرر الإنسان من مخاوفه، على حد تعبيره.

ونتيجة انقسام حياته بين الوظيفة والأدب، اقتضى الأمر من محفوظ إخضاعها لنظام دقيق، حتى يتسنى له دائماً وبصفة مستمرة مواصلة الكتابة. ولظروف خاصة وحتمية، اقتصر موسم عمله الأدبي على الفترة ما بين أكتوبر (تشرين الأول) وأبريل (نيسان) من كل عام. ولم يعد ذلك خسارة مطلقاً؛ إذ أخذ من أشهر مايو (أيار) ويونيو (حزيران) ويوليو (تموز) وأغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) راحة نسبية، واختلاطاً بالناس والأماكن، فنضجت خبرته بالمكان الضيق الوحيد الذي عاشره على ظهر الأرض، وهو القاهرة.

ومر محفوظ إبداعياً بثلاث مراحل، هي: مرحلة «الوظيفة»، ومرحلة «ما بعد التقاعد»، ومرحلة «ما بعد جائزة نوبل». في مرحلة الوظيفة كان يفرغ من عمله في الثانية ظهراً، ويعود إلى البيت لتناول الغداء، ثم يستريح بعض الوقت عبر نوم القيلولة، ثم يجلس على مكتبه عندما تدق الساعة الرابعة، ويبدأ في الكتابة أولاً لمدة 3 ساعات، ثم تليها 3 ساعات أخرى للقراءات المتنوعة. وفي هذه المرحلة كان يمنح نفسه إجازة من الأدب، يومي الخميس والجمعة.

يقول محفوظ: «لم يكن جلوسي اليومي للكتابة بالأمر السهل؛ لأنه يقتضي أولاً أن يكون موضوع الكتابة قد اختمر في ذهني، وكان هذا الأمر يجعلني في حالة تفكير مستمر أثناء وجودي في الوظيفة، وفي أوقات العمل، وفي أثناء المشي، وحتى وقت تناول الطعام. وفي كل مرة تأتيني تفصيلة من جسم الرواية، وما الراوية إلا مجموعة تفاصيل صغيرة تتجمع وتكون العمل الروائي في صورته النهائية. في بعض الأحيان كنت أسجل بعض الملاحظات والأفكار العابرة التي تأتيني أثناء وجودي خارج المنزل في ورقة صغيرة حتى لا أنساها، وكنت أهتم بتسجيل هذه الملاحظات خلال فترة اهتمامي بالكتابة الواقعية. أجلس على المقهى مثلاً، فتجذب اهتمامي ملاحظات وتفاصيل صغيرة كانت تفيدني أثناء الكتابة».

ويوضح أنه إلى جانب السجائر، يحب أن تكون هناك خلفية موسيقية أثناء الكتابة، يجعلها في هامش الشعور ولا يلتفت إليها، ثم إنه لا يتناول أي مشروبات بما فيها الشاي والقهوة، ويدهشه ما يسمعه عن بعض الكتاب الذين يحرصون على تناول الخمر أو الحشيش حتى يهيئوا أنفسهم للكتابة، فعندما يمسك بالقلم لا بد من أن يكون في أقصى درجات الوعي والتركيز والانتباه، ثم إنه لا يستطيع الكتابة إلا على مكتبه في البيت، أما خارجه فلا يمكنه الإمساك بالقلم. وكل أعماله الروائية كتبها في البيت باستثناء السيناريوهات، فأغلبها قام بكتابته على المقهى، وذلك لأنها لا تحتاج إلى درجة التركيز نفسها التي تحتاجها الروايات.

وعندما خرج إلى المعاش وتقاعد، لم يختلف نظام الكتابة كثيراً. يذهب إلى المقهى مبكراً، ثم يعود ليبدأ الكتابة ولمدة 3 ساعات؛ حيث خصص فترة الصباح للكتابة. أما القراءة فكانت في فترة ما بعد الظهيرة حتى بدايات الليل. وقبل حصوله على جائزة نوبل أصيب بضمور في شبكية العين، ما جعل موضوع القراءة والكتابة من الأمور العسيرة والمرهقة، وسبَّب هذا الأمر له إزعاجاً شديداً وهدم النظام الذي سار عليه طيلة حياته؛ بل لم يعد هناك نظام أصلاً؛ حيث امتنع عن القراءة نهائياً، وأصبح أقصى مدة يجلس فيها إلى مكتبه لممارسة الكتابة ساعة واحدة في اليوم.

ويشير نجيب محفوظ إلى أنه أحب فصلَي الخريف والشتاء، وكان يجد نفسه مقبلاً على الدنيا أكثر في ذلك الوقت من السنة، بينما يتحمل الصيف بصبر، وكأنه يغالب حالة -وإن كانت خفيفة- من الاكتئاب، ويظل ينتظر حلول الشتاء التالي، ويجد نفسه مقبلاً على الكتابة وهو في حالة من الاشتياق.