«لقد قتلتُ أبي»... حقيقةٌ تنافس الدراما

وثائقي «نتفليكس» الجديد: بين القاتل الضحّية والقتيل الجلّاد

أنطوني تمبله في مشهد من الوثائقي (نتفليكس)
أنطوني تمبله في مشهد من الوثائقي (نتفليكس)
TT

«لقد قتلتُ أبي»... حقيقةٌ تنافس الدراما

أنطوني تمبله في مشهد من الوثائقي (نتفليكس)
أنطوني تمبله في مشهد من الوثائقي (نتفليكس)

«لقد قتلتُ أبي للتوّ»... ليست هذه جملة من رواية خيالية ولا جزء من حوار في مسلسل دراميّ. إنه اعتراف أنطوني تمبله بقتل والده، كما أدلى به للشرطة بعد دقائق على ارتكابه الجريمة.
في إحدى ليالي يونيو (حزيران) 2019، شهَر أنطوني البالغ 17 سنة حينها، مسدّسين في وجه أبيه بورت ولم يكتفِ برصاصة واحدة، بل أطلق ثلاثاً أصابته مباشرةً. وما إن سالت دماء والده أرضاً، اتصل أنطوني بالرقم 911 وقال بصوتٍ خالٍ من التوتّر والانفعال: «لقد قتلتُ أبي للتوّ... ماذا تريدون أن تعرفوا أيضاً؟».
تنقل المخرجة سكاي بورغمان تفاصيل الحكاية إلى شاشة «نتفليكس»، من خلال وثائقيٍ ثلاثيّ الحلقات ويحمل كعنوان جملة أنطوني الشهيرة «I Just Killed My Dad».
على مدى 3 أجزاء قصيرة يتقلّب شعور المشاهد بين دهشةٍ واستغراب وتعاطف وشكّ واستنكار، إزاء الحكاية التي اهتزّت لها ولاية لويزيانا الأميركية.

هي ليست الجريمة العائلية الأولى في بلدٍ يتفلّت فيه السلاح وتتعقّد فيه العلاقات العائلية، لكنّ حكاية أنطوني تمبله لا تشبه أي دراما أخرى، وبذلك استحقّت أن تخرج من ساحة الجريمة وقاعة المحكمة وزنزانة السجن إلى العلن، وأن تُشرَّح فوق طاولة «نتفليكس» منذ التاسع من الشهر الجاري، تاريخ بدء العرض.
*لماذا قتل أنطوني والده؟
قد يبدو الأمر بدايةً وكأنه نزوة مراهق يلهو بسلاح والده أو يظن نفسه أمام لعبة فيديو. وتأتي البرودة التي يتعامل فيها أنطوني مع الموضوع خلال التحقيق الأول معه، لتعزز تلك النظرية.
وقد اعتمدت بورغمان في العمل التوثيقي على مشاهد حقيقية التقطتها كاميرات المراقبة في قاعات التحقيق وحول منزل تمبله، إلى جانب مقابلات مع كل الأشخاص المعنيين بالقضية، من أنطوني، مروراً بأفراد من العائلة والجيران، وصولاً إلى المحامي والمحققين والقضاة والمعالجة النفسية وغيرهم. أما المشاهد التي اعتمدت تقنية إعادة التمثيل فتبقى قليلة ومتقنة في واقعيتها.
مع مرور الدقائق وكشف المزيد عن الوالد بورت، تتراجع نظرية النزوة لمصلحة ما هو أكثر تعقيداً على المستويَين النفسي والعائلي. فأنطوني لم يكن طفلاً عادياً. هو حُرم من والدته منذ كان في الـ5 من عمره. أمضى 12 عاماً رهينة والده الذي أقنعه بأن أمه مريضة نفسياً وبأنها تخلّت عنه، في وقتٍ كانت تدور في البلاد وتعلّق ملصقات تحمل صورته على كل الجدران بحثاً عنه.
احتجز الوالد ابنه داخل المنزل تحت عدسات كاميرات المراقبة، وزرع تطبيقات في هاتفه المحمول من أجل تعقّبه باستمرار. ذهب بورت أبعد من ذلك، فهو حرمَه العلم ولم يرسله يوماً إلى المدرسة. عاش أنطوني من دون أن يعرف لأمه وجهاً ولا حتى اسماً، أمضى سنواته الـ17 من دون أن يدرك معنى الأصدقاء أو الأقارب أو العلاقات الاجتماعية. حتى أنه لم يزر طبيباً يوماً.
احتجز بورت ابنَه بين جدران العزلة فأدمنها الولد، الذي كان من الطبيعيّ أن يتحوّل إلى شخصية غير اجتماعية وانطوائية. وحدَها سوزان زوجة أبيه وابنها بيتون شكّلا نقطة ضوء في نفق أنطوني. بحسب ما تخبر في الوثائقي، فقد وضعته في مرتبة ابنها وحاولت أن تعلّمه قدر المستطاع، إلى أن تمكّن من كتابة أحرف الأبجدية في عمر الـ10 سنوات، كما لقّنته القراءة والحساب.
لم يأسر بورت الولد في البيت لقطع كل السبل بينه وبين أمه فحسب، بل لأنه كان شخصاً متسلّطاً عنيفاً، يرهب من هم حوله بحسب توصيف من عاشوا معه. حتى سوزان، الزوجة الثانية التي أمضت إلى جانبه 10 أعوام، ضاقت ذرعاً من تعنيفه فخرجت ولم تعُد. تزامنَ ذلك مع مشاكل مادية كان يعانيها بورت الذي خسر عمله، فازدادت تصرّفاته الغريبة وإدمانه على الكحول.
في الليلة التي قتل فيها أنطوني والده، كان الأخير قد اقتحم غرفته مستولياً على هاتفه ومتهماً إياه بالتواصل مع سوزان، فما كان من الشاب إلا أن قام بفعلته وسلّم نفسه. «لم أكن أريد أن أقتله، لكني لم أُرِد أن يقتلني... فكان عليّ إما أن أفعلها أو أن أموت»، يقول ببرودة أعصاب صادمة، مصرّاً على أنه بريء.


أنطوني مع والده بورت (نتفليكس)

نادرةٌ هي الصور التي تجمع الابن بأبيه، وتلك التي يعرضها الوثائقي يبدو فيها أنطوني في سنواته الأولى. حين يُسأل عن بورت، يقول من دون مواربة إن مشاعره تجاهه اختفت وهو في السابعة، وفي مشهدٍ آخر يبوح: «كل شيء كان ليكون بخير لو أنّ والدي شخص آخر... أشعر بأنه سرق طفولتي».
*ظهور الأم واكتمال الصورة
كان يجب أن تنقضي 12 سنة وأن يضع أنطوني حداً لحياة أبيه، حتى يجتمع بأمّه من جديد. ففي الحلقة الثانية تظهر الوالدة تيريزا حاملةً معها الكثير من الأسرار عن شخصية بورت وعن ماضيها الأليم معه. بسلاسةٍ تسحب المخرجة بورغمان الحقائق والمشاعر من أفواه شخصيات الوثائقي وقلوبهم. تفصح الأم كيف أن بورت عنّفها خلال حملها لا سيّما تحت تأثير المخدرات، ثم خطف الطفل منها مراراً، إلى أن حرمَها منه بعد رفع قضية ضدها.


أنطوني مع والدته تيريزا

يحافظ العمل على حيادِه عارضاً كل الآراء، فيستضيف صديق بورت الذي يصعب عليه التصديق أن شخصاً ناجحاً ولطيفاً مثله قد فعل ذلك بابنه. ثم تدخل الكاميرا مراراً إلى مكتب المدعية العامة التي تصر على أن القضية هي جريمة مهما كانت المبررات، ليبقى السؤال العالق: هل نبرر لأنطوني ما فعل؟
تتراكم الوقائع الصادمة التي أحاطت بحياة الوالد لتبنيَ ما يشبه جهاز دفاع عن الابن. هو المعزول عن العالم الخارجيّ، والذي لم يعرف من الحياة سوى والدٍ يعنّفه لفظياً ويجد دائماً المبررات ليُشعرَه بالذنب. اختار أن يحطّم قيوده باللجوء إلى القتل، فأقفل عليه باب الزنزانة. لكن في المقابل، فُتحت أمامه أبوابٌ كثيرة؛ كباب المحامي الذي تبنّى قضيته بقناعة وحب، وباب المعالجة النفسية التي لم ترَ فيه مجرماً بل ضحية، وباب زوجة أبيه التي تعاطفت معه إلى أقصى الحدود. ويبقى الأهم باب أمه التي التقته أخيراً، وإن بحَسرةٍ وارتباك وغصّة، بعد أن خرج إلى الحرية العام الماضي بشروط، وبكثيرٍ من الندوب النفسية.
الفرق بين أنطوني الذي دخل إلى السجن عام 2019 معترفاً بقتل والده، وأنطوني الذي خرج إلى الحرية المشروطة، أن الأول حمل كل قسوة العالم فوق وجهه وفي روحه، أما الثاني فقد فاضت من عينَيه دموع حبسها لسنواتٍ طويلة. ربما وُضعت علامة سوداء في سجلّ أنطوني إلى الأبد، لكنّ المؤكّد أنه بدأ يكتشف مشاعره الإنسانية التي كانت قد دُفنت عُمراً في منزل أبيه.


مقالات ذات صلة

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

يوميات الشرق رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً. فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه.

يوميات الشرق ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

هشام خرما لـ«الشرق الأوسط»: أستلهمُ مؤلفاتي الموسيقية من التفاصيل

يعتمد الموسيقار المصري هشام خرما طريقة موحّدة لتأليف موسيقاه، تقتضي البحث في تفاصيل الموضوعات للخروج بـ«ثيمات» موسيقية مميزة. وهو يعتزّ بكونه أول موسيقار عربي يضع موسيقى خاصة لبطولة العالم للجمباز، حيث عُزفت مقطوعاته في حفل الافتتاح في القاهرة أخيراً.

محمود الرفاعي (القاهرة)
يوميات الشرق معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

معرض «أحلام الطبيعة» في ألمانيا

زائرون يشاهدون عرضاً في معرض «أحلام الطبيعة - المناظر الطبيعية التوليدية»، بمتحف «كونستبلاست للفنون»، في دوسلدورف، بألمانيا. وكان الفنان التركي رفيق أنادول قد استخدم إطار التعلم الآلي للسماح للذكاء الصناعي باستخدام 1.3 مليون صورة للحدائق والعجائب الطبيعية لإنشاء مناظر طبيعية جديدة. (أ ب)

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

«نلتقي في أغسطس»... آخر رواية لغارسيا ماركيز ترى النور العام المقبل

ستُطرح رواية غير منشورة للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز في الأسواق عام 2024 لمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة الروائي الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1982، على ما أعلنت دار النشر «راندوم هاوس» أمس (الجمعة). وأشارت الدار في بيان، إلى أنّ الكتاب الجديد لمؤلف «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» سيكون مُتاحاً «عام 2024 في أسواق مختلف البلدان الناطقة بالإسبانية باستثناء المكسيك» و«سيشكل نشره بالتأكيد الحدث الأدبي الأهم لسنة 2024».

«الشرق الأوسط» (بوغوتا)

تعزيزاً للتواصل مع المقيمين... العاصمة السعودية تحتضن «أيام بنغلاديش»

فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)
فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)
TT

تعزيزاً للتواصل مع المقيمين... العاصمة السعودية تحتضن «أيام بنغلاديش»

فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)
فعاليات متنوعة شهدت إقبالاً كبيراً (الشرق الأوسط)

تقام «أيام بنغلاديش» في حديقة السويدي بالعاصمة السعودية الرياض، والتي انطلقت لياليها، الثلاثاء، ضمن مبادرة تعزيز التواصل مع المقيمين التي أطلقتها وزارة الإعلام السعودية، بالشراكة مع الهيئة العامة للترفيه، تحت شعار «انسجام عالمي»، وتستمر حتى السبت، بهدف تعزيز التواصل الثقافي بين المجتمع السعودي والمقيمين، وإبراز التنوع الثقافي الغني الذي تحتضنه السعودية.

وتشهد الفعاليات عروضاً فنية متنوعة تقدمها الفرقة الشعبية، حيث تألق المشاركون بتقديم عروض موسيقية واستعراضية تمثل مختلف ألوان الفلكلور البنغالي، إلى جانب أغنيات مستوحاة من أعمال أبرز شعراء بنغلاديش.

عروض موسيقية واستعراضية تمثل مختلف ألوان الفلكلور البنغالي (الشرق الأوسط)

كما يضم الحدث منطقة مخصصة لعرض التراث البنغالي، حيث تُتيح للزوار فرصة استكشاف الجوانب الغنية للثقافة البنغالية عن قرب؛ إذ تشمل المنطقة معروضات للأزياء التقليدية المزينة بالزخارف اليدوية التي تعكس المهارة الحرفية والفنية المتميزة، حيث يتم عرض الساري البنغالي المصنوع من أقمشة الحرير والقطن الفاخرة، إضافة إلى الملابس التقليدية للرجال مثل البنجابي والدوتي، كما تعرض الإكسسوارات اليدوية التي تشتهر بها بنغلاديش، بما في ذلك المجوهرات التقليدية المصنوعة من المعادن والأحجار الكريمة، والحقائب والمطرزات التي تعكس ذوقاً فنياً عريقاً.

الفعاليات شملت استكشاف التراث البنغالي (الشرق الأوسط)

واشتملت الفعاليات على قسم مخصص للأطعمة من بنغلاديش؛ إذ يٌقدم للزوار فرصة تذوق أشهى الأطباق التقليدية التي تمثل المطبخ البنغالي المعروف بنكهاته الغنية وتوابله المميزة، وتشمل الأطباق المقدمة أكلات شهيرة مثل البرياني البنغالي، والداكا كاكوري كباب، وسمك الهيلشا المطهو بطرق تراثية، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الحلويات التقليدية مثل الروشا غولا والميزان لادّو.

وتضيف هذه المنطقة بعداً مميزاً للفعالية، حيث لا تقتصر التجربة على الفنون والعروض، بل تمتد لتشمل استكشاف التراث البنغالي بشكل متكامل يعكس الحياة اليومية والعادات والتقاليد، مما يجعلها تجربة غنية تُثري التفاعل الثقافي بين الزوار.

معروضات للأزياء التقليدية (الشرق الأوسط)

وحظيت الفعاليات منذ انطلاقها بإقبال واسع من الزوار الذين عبروا عن إعجابهم بجمال الفلكلور البنغالي وتنوع العروض الفنية المقدمة، كما أبدى العديد من الحاضرين تقديرهم لهذه المبادرات التي تسهم في تعزيز التفاهم والتفاعل بين الثقافات.

وأكّد المسؤولون أن هذه المبادرة تأتي جزءاً من سلسلة برامج ثقافية تهدف إلى تعزيز المشهد الثقافي في المملكة، بما يتماشى مع «رؤية السعودية 2030» التي تدعم التنوع والانفتاح الثقافي.