«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر

باحث يرصد جوانبه العلمية واللغوية والتاريخية

«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر
TT

«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر

«علم الأنواء»... تراث العرب المجهول في الأمطار والرياح والشعر

فرضت طبيعة الحياة القائمة على الترحال وتتبع مواطن المطر بحثاً عن العشب والكلأ، أن يتقن العرب قديماً بعض العلوم والمعارف؛ خصوصاً عن الأنواء والطقس؛ حيث كانت شمس النهار الملهبة تضطرهم إلى «السُّرى» وهو الرحيل في الليل، فكانوا يقطعون الفيافي الخالية والصحاري البعيدة في الظلام، مهتدين بالقمر أو بالنجوم اللامعة في قبة السماء، حتى لا تضل قوافلهم وتهلك ثروتهم من الإبل عبر كثبان الرمال المتشابهة المتلاحقة كأمواج البحر، والمترامية على مد البصر.
عن هذه المعرفة الفطرية، يدور كتاب «تاريخ علم الأنواء عند العرب» الصادر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»؛ حيث يرصد الباحث الدكتور أحمد عطية الجوانب المختلفة لهذا العلم، متجاوزاً معناه المباشر كأحد العلوم المتفرعة عن علم الفلك، والذي يعنى بالأمطار والرياح في المقام الأول.
وبحسب الباحث، فقد قدمت المعاجم اللغوية تعريفات عدة لمادة «نوأ»، فقد ركز الصاحب بن عباد في كتابه «المحيط في اللغة» على المصطلح، محاولاً تفسير بنيته اللغوية، فقال: «النوء من أنواء النجوم، وهو سقوط نجم بالغداة مع طلوع الفجر وطلوع آخر في حياله في تلك الساعة. وناء الشيء ينوء: أي مال إلى السقوط، ويقال: وما بالبادية أنوأ من فلان: أي أعلم بالأنواء منه». في حين ركز «الجوهري» في تعريفه الوارد بكتاب «الصحاح تاج اللغة» في تعريفه على منازل القمر ومدتها الزمنية، فقال: «والنوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته». وهو المنحى نفسه تقريباً الذي سلكه الزمخشري في كتابه «أساس البلاغة»، فقال: «وناء النجم: سقط، وناء: طلع».
ويتبين من مطالعة التعريفات السابقة وتأملها، أن أغلب المصادر التي نقلت منها هذه المعاجم اللغوية تعريفاتها لمصطلح «نوء» تدور بين علمي الحديث واللغة، ولم نعرف أن أحداً استمد تعريفه لذلك العلم أو لذلك المصطلح من كتب علم الفلك مثلاً، والذي يعتبر علم الأنواء أحد فروعه لقرون طويلة، ولعل هذا يرجع لتأخر علم الفلك عند المسلمين.
ويكتسب المصطلح بعداً آخر لدى بعض علماء وباحثي الفلك القدامى، مثل أبي إسحاق الفزاري، فلكي الخليفة أبي جعفر المنصور، وأبي معشر البلخي المتوفى 272 هـ، في كتابه «الأمطار والرياح وتغير الأهوية»، بحسب ما ذكره المستشرق كارلو نيللينو، نقلاً عن «الفهرست» للنديم، و«تاريخ الحكماء» للقفطي، مروراً بكوشيار الجيلي، المتوفى 420 هـ، وابن سينا المتوفى 428 هـ، والبيروني المتوفى 440 هـ.
ويخلص المؤلف إلى أن معظم الإنتاج العلمي الذي كتبه هؤلاء الأعلام في مجال علم الفلك والتنجيم لم يصلنا، فالفزاري على سبيل المثال لم يصلنا شيء من كتابيه: «العمل بالإسطرلاب المسطح»، و«العمل بالإسطرلاب». ومن الملاحظ كذلك أن علم الفلك عند المسلمين قد اهتم بالقياس وليس بالرصد، فقد اهتم فلكيو المسلمين بمسألة القياسات المتعددة لحساب المسافة بين الكواكب وحركاتها ومواطن التقائها وطلوعها وغروبها، وما يستتبع ذلك من تغير في الظروف الجوية.
ويذكر المؤلف أن في مخطوط «كتاب السر» لأبي معشر البلخي، نجد حديثاً عن علم الأنواء، فيعقد فصلاً عن تفسير الرياح والأمطار وأسبابهما، وهما لب علم الأنواء، قائلاً: «أما الرياح والأمطار فإنها تكون من البخارين اللطيفين اللذين يرتفعان من البحار والأنهار قبل طلوع الشمس، فقد ترى تلك الساعة والبخار صاعد يشبه الدخان، فأحد البخارين يابس، وصعوده من قطر الأرض تنشأ منه الرياح ذات الرعود والبروق والهبوب والصواعق والشرر، وما يشبه هذا النحو. والبخار الثاني رطب، وصعوده من جوهر الرطوبة، ومنه ينشق الضباب والجليد والثلوج والأمطار».
وهذا التفسير الذي قدمه البلخي قريب جداً من الدائرة التي يهتم بها علم الأنواء عند العرب، فهو يربط حركة الرياح والأمطار بسقوط النجوم وطلوعها، ما يؤكد وجود صدى لعلم الأنواء في تلك المؤلفات التي كتبت في علم الفلك في تلك الفترة المبكرة من تاريخ حضارتنا الإسلامية، وهو الأمر الذي يؤكد أن هذه المؤلفات تعد من المصادر الحقيقية لعلم الأنواء عند العرب.
ويذهب جورجي زيدان في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية»، إلى أن المراد بالأنواء عندهم ما يقابل علم الظواهر المذكورة إلى طلوع الكواكب أو غروبها، ولذلك كان علم الأنواء فرعاً من علم النجوم، وكانوا يسمون طلوع المنزلة نوءها، أي نهوضها، وسموا تأثير الطلوع بارحاً وتأثير السقوط نوءاً. ومن ذلك قول أحدهم في قصيدة:
«والدهر فاعلم كله أرباعُ
لكل ربع واحدٌ أسباعُ
وكل سبع لطلوع كوكبِ
ونوءُ نجم ساقط في المغرب»
وجاء في كتاب ابن قتيبة «الأنواء في مواسم العرب»: «من خواص الجنوب أنها تثير البحر حتى تسوده، وتظهر كل ندى كامن في بطن الأرض حتى تلين الأرض، وإذا صادفت بناء بُني في الشتاء أظهرت نداه وجعلته يتناثر، كما أنها تطيل الثوب القصير، ويضيق لها الخاتم في الإصبع. تقول العرب إن الجنوب قالت للشمال إن لي عليك فضلاً، أنا أسري، أي أسير بالليل، وأنت لا تسرين، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري».
ويعد كتاب «الأنواء» لأبي يحيى محمد بن عبد الله كناسة الكوفي، المتوفى 207 هـ، من المؤلفات المبكرة التي ألفت حول علم الأنواء عند العرب، والتي لو وصلت إلينا -بحسب المؤلف- لاستطعنا من خلالها أن نرصد طبيعة البدايات الأولى للتأليف في تلك الحقبة المبكرة من تاريخ تراثنا العربي.
وقد أورد ابن قتيبة عن ابن كناسة ثمانية مواضع للقمر والكواكب على علاقة وثيقة بالرياح والأمطار، ولكن هناك أمراً مهماً آخر تشير إليه تلك النقول الموجودة عن ابن قتيبة ونسبها إلى ابن كناسة، وهي أنها مذهب على مذهب العرب في معرفة علم الأنواء، وهي معرفة عملية قائمة على مشاهدة السماء أو على عملية الرصد لا القياس الذي مثل علامة كبرى في علم الفلك عند علماء المسلمين فيما بعد.
ويكاد يكون كتاب «الأنواء في مواسم العرب» لابن قتيبة الدينوري، المتوفى 276 هـ، كتاباً في علم اللغة؛ إلا أن المساحة التي شملها في حديثه من علم الأنواء أوسع بكثير، ما يدل على أن هذا العلم قد شغل مساحة لا بأس بها من العقلية العربية.
يبدأ ابن قتيبة بعد بيان المقدمة التي وضح فيها الغرض من تأليفه هذا، بذكر منازل القمر، وهو أمر مرتبط تمام الارتباط بقضية الأنواء؛ حيث يقول: «ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، من مهله إلى ثمانٍ وعشرين ليلة، فإن كان الشهر تسعاً وعشرين استسر ليلة ثمانٍ وعشرين ليلة تمضي من الشهر، وفي السِّرار نازل بالمنازل، فإذا بدا من الشهر الثاني هلالاً طلع وقد قطع ليلة السِّرار منزلاً من هذه المنازل». ثم يذكر فقرة مهمة تعكس بحق أن معارف العرب التي اعتمد عليها ابن قتيبة من علم النجوم وما يرتبط بها من أنواء، قد وصلت إلى مرحلة لا يمكن بأي حال من الأحوال الاستهانة بها أو التقليل من شأنها، مع الأخذ بالحسبان أن العرب لم يكن لديهم أجهزة رصد، وإنما كانوا يعتمدون على العين المجردة. يقول ابن قتيبة: «وهذه المنازل الثمانية والعشرون تبدو للناظر منها في السماء أربعة عشر منزلاً، وتخفى عنه أربعة عشر منزلاً، وكذلك البروج وهي اثنا عشر برجاً، كل برج منزلان وثلث من هذه الثمانية والعشرين، وإنما يبدو لك منها ستة بروج، وهذا يدل على أن الظاهر لنا من السماء لأبصارنا نصفها، والله أعلم».
يقع الكتاب في 163 صفحة من القطع الكبير، ورغم طرافة وتشويق الموضوع فإن التزام المؤلف بالمنهج العلمي الأكاديمي جعل لغته جافة أحياناً.


مقالات ذات صلة

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

ثقافة وفنون «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

تطرح قصص «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة» للكاتبة المغربية هدى الشماشي تساؤلات وجودية في محاولة للتوفيق بين حيوات أبطالها ومآسيهم الخاصة المتواترة عبر العصور

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
TT

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

الكاتبة والناشرة رنا الصيفي
الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب، خصوصاً مع اعتماد هاشتاغ «بوك_توك»، فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة، لا يوافقون بالضرورة على هذا الرأي. وهم ينظرون إلى المنصات الاجتماعية على أنها متكاملة، وكل منها توصل المؤثر إلى فئة مختلفة تتناسب وتوجهاته.

المؤثرة المصرية نضال أدهم، التي أطلقت قناتها حول الكتب على «يوتيوب» قبل تسع سنوات، وكانت لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، لها اليوم أكثر من 400 ألف متابع. ولها صفحتها على «إنستغرام» التي يتابعها 186 ألف شخص، وعلى «تيك توك» 320 ألفاً، وبعض منشوراتها تنال سبعة آلاف مشاهدة، لكنها تحنّ إلى انطلاقتها الأولى، وهناك تجد نفسها في المكان الذي يريحها وتلتقي فيه بأريحية مع متابعيها.

المؤثر السعودي خالد الحربي

لا تنكر أنها حققت قفزة خلال فترة الوباء، وكانت على مختلف وسائل التواصل. «لكن (يوتيوب) هو بيتي، وفيه أجد راحتي. وكل تسجيل عليه هو بالنسبة لي مشروع، أما على باقي الوسائل فأنا أتكلم عفوياً، من دون حسابات واعتبارات».

خالد الحربي، المؤثر السعودي المعروف بصفحاته التي تحمل اسم «يوميات قارئ»، له رأي آخر، إذ يجد نفسه على «إكس» حيث يتابعه نحو 355 ألف شخص، وبعض منشوراته يتجاوز عدد مشاهديها سبعة آلاف. له متابعوه على «إنستغرام» و«تيك توك» و«سناب شات»، لكن «إكس» بالنسبة له هي الأساس. «من هذه المنصة بدأت، ولا أزال أراها الأهم».

الخوارزميات تفرض منطقها

«تيك توك» كان بالنسبة إلى خالد صادماً. «فهمت حين دخلته أن عليك ألا تتفلسف، قل لنا بسرعة عن ماذا يتحدث الكتاب. المتابع هناك يريد الزبدة وكفى».

هذا مع أن خالد حاصل على جائزة أفضل متحدث عن الكتب على منصة «تيك توك» عام 2024، لكنه مع ذلك، لا يراها مفضلته. «ليس طموحي أن أكون الأفضل، ولا أحب تضييع وقتي. القراءة بالنسبة لي متعة. يقال إن الشخص لا يستطيع أن يقرأ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب في حياته، لهذا لا أريد أن أغرق في الترَّهات. أخذت عهداً على نفسي ألا أقرأ أو أتحدث إلا عمّا يعجبني».

قد يعود اختلاف المؤثرين حول الوسيلة الفضلى لإيصال رسالتهم، إلى مدى انسجامهم مع طبيعة الخوارزميات التي تحكم عمل كل منصة. «حين تنشر على (إنستغرام)، لا بد أن تفهم طريقة عمل خوارزميات التطبيق. لا يمكنك الكلام هناك كأنك في صحيفة». يقول الكاتب السعودي رائد العيد: «أنا متابع لموضوع المؤثرين منذ نحو عشر سنوات، وأرى أن لكل وسيلة أبجدياتها. مثلاً، على (تيك توك) يجب أن يكون محتواك قصيراً ومكثفاً ومحفزاً، من دون تسطيح، وهذا موجود، مع أن آخرين يدخلونه من باب البحث عن الانتفاع أو كسب الشهرة والانتشار».

لهذا وجد خالد ضالته على «إكس»: «لا أحب أن أضيع وقتي في التصوير والمونتاج، والبحث عن المؤثرات على (تيك توك) أو الوسائط المصورة، كلها أمور مجهدة، وبعدها قد لا تجد المادة المنشورة رواجاً. أفضّل الكتابة على (إكس)، وأجدها وسيلة ناجعة وممتعة. التفاعل كبير، ولم أكن أتوقع ذلك. حين بدأت لاحظت أن الكثير من الأطروحات كانت صعبة، فركزت على تسهيل المادة. التفاعل والصدى اللذان وجدتهما كانا بالنسبة لي فاتحة الأبواب».

دور النشر تبحث عن دربها

رائد العيد، متخصص في ظواهر القراءة والكتابة ومرشد في هذا المجال، وله مؤلفات منها «دروب القراءة» و«درب الكتابة»، كما أنه أسس منذ سنوات «مجتمع الكتابة»، ويعتقد جازماً أن المنصة الأشهر الآن هي «تيك توك»، أما «إنستغرام» فقد سجّل صعوداً جيداً، لكنه بدأ يضعف أمام «تيك توك». وفي الخليج يوجد حضور بارز للكتب على «سناب شات»، لكنه يخفت، وكذلك الأمر مع منصة «إكس» التي فقدت وهجها منذ سنتين بعد أن تم تغيير خوارزمياتها.

الناشرة اللبنانية رنا الصيفي تعترف بأن الدور العريقة التي لها عشرات السنين من التاريخ في السوق، لسوء الحظ لا تزال تتردد طويلاً قبل التعاطي مع المؤثرين، وهذا خطأ. فالمنافسة كبيرة، والمواكبة مهمة، مع ذلك، هي دون المطلوب. في حين أن هناك دوراً بالغت في الاعتماد على وسائل التواصل: «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر التي أعمل بها عمرها 50 سنة، ليس من السهل أن تتعامل مع هكذا مستجدات بسهولة». لكنها منذ أصبحت مديرة للنشر بدأت تتعاون مع مؤثرين: «بعضهم يتصلون بنا، ومنهم من نلتقيهم في المعارض، أو نبادر نحن بالاتصال بهم، لأن لهم قاعدة من المتابعين، ولا نغفل أيضاً نوادي الكتب التي هم أحياناً يديرونها أو على صلة معها». تشرح الصيفي: «أتعامل مع أربعة مؤثرين فقط لهم وزن. الفكرة ليست بالعدد بل بالنوعية. لا تهمني الكمية والكثرة، ما يهمني هي الطريقة التي يقدم بها الكتاب، ومستوى من يتحدث أو يكتب عنه. والمؤثرون باتوا يؤثرون فعلياً في قرار الشراء».

الكاتب رائد العيد

كثير من الكتب... قليل من الوقت

ويخبرنا العيد أنه شخصياً بدأ اهتمامه بالقراءة تحت تأثير وسائل التواصل، فدورها ليس تحفيزياً فحسب، ولكنها أيضاً لها أهمية في الإرشاد، والتوجيه نحو نوعية الاختيارات، حيث يبني القراء، خصوصاً المبتدئين، على ما يسمعونه من المؤثرين».

يذهب العيد أبعد من ذلك حين يقول: «في دورات الكتابة التي ننظمها، نقول للمتدرب: عليك أن تتعاون مع هؤلاء المؤثرين، لا أن تخسرهم، لأن صدودك عنهم قد يقتل الكتاب أو يقلل من فرصه».

دور النشر تفهم هذا الدور، بعضها يغدق على المؤثرين من إصداراتهم، ويحاولون اجتذابهم وإغراءهم للتحدث عن كتبهم. لكنَّ هذا يتحول إلى عبء على مؤثرين كثر، تنزل عليهم الكتب بكميات، تفوق قدرتهم على القراءة. «بينها كثير مما لا يتناسب وذوقي، ولا أرغب في أن أحتفظ به»، تقول نضال.

مؤثرون يطلبون الحرية

خالد يوافقها الرأي: «لست آلة، ولا أريد أن ألتزم، وكثيراً ما أُحرج. لو أخذت الكتب من الناشرين بالمجان أشعر بالتزام نحوهم، رغم أنهم لا يطلبون ذلك بشكل مباشر. أفضِّل الكتب التي أشتريها وأختارها بنفسي. أريد أن يتركوني على راحتي. القراءة بالنسبة لي متعة، ولا أحب أن أُجبَر على قراءة ما لا أريد. كما أنني أحب أن أكتب بهدوء ومن دون رقيب». يفهم خالد أن الناشر في النهاية تاجر، وهو لا يريد أن يدخل في هذه الدوامة.

لكن نضال تؤكد أنها تتحدث بحرية عن الكتب التي تصل إليها. «تسع سنوات في صحبة الكتب على وسائل التواصل، لم أعمل دعايةً لكتاب». لكنها في الوقت نفسه ترى أن دور النشر لا بد أن تخصّ المؤثرين بمبالغ مادية من خلال عقد محترم ينظم العلاقة بين الطرفين. هذا يحدث في الغرب. وهي مدفوعات يجب ألا تكون مشروطة.

المؤثرة المصرية نضال أدهم

مهنة أم هواية؟

درست نضال (27 سنة) طب الأسنان، لكنها لم تمارس هذه المهنة، ونالت ماجستير في العلوم السياسية وتعمل في مجال البحث، كي يتكامل هذا مع اهتمامها بالقراء. لذلك تعتقد أن الجهد الذي تقوم بها يستغرق وقتاً، ويحتاج إلى مكافأة كي تتمكن من الاستمرار. إنما كيف للمؤثر أن يبقى مستقلاً وهو يتقاضى أجراً؟ «ليتعاملوا مع المؤثر على أنه ناقد، له رأيه الذي قد يكون سلبياً أو إيجابياً». تقول نضال: «وفي كل الأحوال يجب أن يرحبوا بالنقد، ويعملوا على تحسين أنفسهم. إن كانوا لا يريدون سوى المديح، فهم الخاسرون في النهاية».

هناك من يتقاضون مقابلاً، كما يخبرنا العيد، وهذا يظهر في الترويج لكتب ضعيفة، أو التركيز على دار نشر واحدة. هناك دور نشر تتعاقد مع مؤثر على مدى شهر مثلاً للترويج لكتبها، أو يطلَب من المؤثر أن يتحدث عن كاتب موجود في معرض للكتاب، أو أي مناسبة أخرى.

ويضيف العيد: «المؤثرون في الغالب لا يحبِّذون هذا، لأنهم يخافون من فقدان المصداقية، خصوصاً أن العائد قليل، ولا يستحق أن يقيِّد المؤثر حريته في سبيله، ويفقد ولاء وثقة متابعيه».

فقدان المصداقية... أزمة الأزمات

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر، هي المشكلة الكبرى، حسبما قال كل الذين تحدثنا معهم.

خالد يتألم وهو يتجول في المعارض من كثرة الغثّ. «ثمة كتب كثيرة لا ذوق ولا طعم ولا رائحة. كانت أسماء المؤلفين والمترجمين معروفة، اليوم كثرت النتاجات، وعمَّت الفوضى». بالنتيجة تقول نضال: «بات القارئ يفضل أن يقرأ الكتب المترجمة أو القديمة، لأن الكتب الرائجة بحجة أنها (تراندي)، كثيراً ما تصيب بعد شرائها بالإحباط. وهذا يسيء إلى الكتاب الموهوبين، ويعطي انطباعاً أن الكاتب العربي الجيد غير موجود». ويوافق خالد معتبراً أن القارئ ذكي، وأن المؤثر حين يحاول أن يروج لنتاج رديء فإنما يجعل المتابعين ينفضّون عنه سريعاً، ولا يثقون به، وبنصائحه.

تعي الناشرة رنا الصيفي عُمق الأزمة. لهذا لا تحب التعامل مع مؤثرين لا يقرأون، ويتحدثون عمَّا لا يعرفون. «ما يهمني أن ينتشر فكر المؤلف ونتاجه، وليس فقط بيع الكتاب. وكذلك التعريف بكتاب موهوبين جدد»، ولا تنكر أن هؤلاء بات لهم دور وتأثير كبيرين بشرط تحليهم بالمصداقية. فإذا رأى المنشور 500 شخص، فهذا يكفي.

بعض القراء، حسب العيد، يرون أن نصائح المؤثرين أشبه بوصاية تمارَس عليهم، والإصغاء إلى هذا النوع من التوجيه يحدّ من حريتهم. لكنَّ المؤثر المتمكن يقدم مقترحات بناءً على تجربة، وللقارئ الحرية في النهاية.

غياب المصداقية بين دور النشر والقارئ والمؤثر هي المشكلة الكبرى

الخلطة الناجحة

«أعتقد أن الخلطة الأساسية الناجحة على وسائل التواصل هي في مهارة الجمع بين الجدية في الطرح، والتوافق مع المؤثرات الخاصة بهذه التطبيقات»، يقول العيد.

«نسبة كبيرة من المراجعات الجادة لا تلقى رواجاً. نجد نقاداً كباراً لا ينجحون لأنهم يتعاملون مع المنصات كأنهم في مجلة ثقافية أو في محفل أدبي، كأن يتحدث أحدهم عن البنيوية في الرواية والتفكيكية. هذا لا يتناسب مع وسائل التواصل التي تحتاج إلى أسلوب جاذب يتناسب معها».

كلما ازددت توغلاً في فهم ما يحدث حول الكتب على وسائل التواصل، تشعر بأن المشهد يزداد ضبابية. فالقارئ الخليجي، كالمؤثر، له ظروف مختلفة، والجمهور لا يعاني أزمات كبرى. في لبنان، القارئ غائب تقريباً لكنّ الناشر حاضر بقوة، وفي مصر وضع آخر. وإذا كانت الفئة العمرية الناشئة تدمن «تيك توك» و«إنستغرام»، فإن قراء أعمارهم فوق الخمسين قد لا تكون لهم صفحات على «فيسبوك» أو «إكس».