هي سنة الحياة أن تلبث المجتمعات البشريّة في حراك دائم وتحولات مستمرة، إلا أن أحداثاً معينة عالية الكثافة قد تدفع باتجاه تسريع تلك التحولات، بل ربما تخلق مناخات مواتية لنشوب ثورات ثقافيّة تتسبب بتغييرات نوعيّة في طرائق العيش والاجتماع.
ويبدو أن جائحة «كوفيد - 19» بكل أبعادها المعولمة وتأثيراتها التي لم تنتهِ بعد ستكون ضمن تلك الأحداث الحاسمة في تحفيز تحولات المجتمعات المعاصرة، أو هكذا على الأقل يعتقد عدد من الخبراء والمتخصصين الذين يتتبعون اتجاهات الأفراد عبر سلوكهم على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، ويحاولون ربطها بأحداث العالم الحقيقي.
فقد لاحظت دراسة أجرتها جامعة كوبنهاغن (الدنمارك) ارتفاعاً هائلاً في البحث من خلال محرك «غوغل» عن نصوص أدعية وصلوات دينية في أكثر من 107 دول حول العالم منذ تفشي الوباء، لا سيما في الأشهر الأولى من 2020. وقال استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث في الولايات المتحدة أن ربع البالغين يعتقدون أن عقائدهم الدينية تعززت بشكل ملحوظ بعد مرحلة «كوفيد»، فيما سجّل مركز أميركي لرصد التوجهات المتطرفة في العالم الافتراضي (NCRI) وجوداً متزايداً لمجموعات دينية ثوريّة الطابع تدفع نحو الانفصال عن المجتمع من أجل إطلاق نواة تبشر بـ«عصر طوباوي»، وأن كثيراً من تلك المجموعات بعد استقطابها عدداً كبيراً من المتابعين في العالم الافتراضي، امتد نشاطها للعالم المادي. كما جلب الوباء موجة مضاعفة من الهجمات المعادية للأجانب وطوفان من التعليقات المسيئة للأقليات العرقية والدينية.
العودة للدين قد تكون مفهومة في هذه الأوقات، لكن الأقل وضوحاً هو ما قد تسفر عنه على صعيد صيغ الاجتماع البشري. وهناك من العلماء من يرى أن كثيرين أصبحوا بعد تجربة الجائحة أكثر تقبلاً لأنظمة أشدّ صرامة ومعايير مجتمعيّة أقسى، مقارنة بسنوات قليلة سابقة، كما برزت مستويات أعلى من الإيمان بمفاهيم متفاوتة عن العقاب الإلهي سعياً لتفسير التهديدات البيئية الكبرى مثل الأمراض والمجاعة والمخاطر الطبيعية. وغالباً ما تتعارض تلك التفسيرات مع السرديات الرسميّة أو العلمية أحياناً، مما يخلق أجواء لقلاقل واضطرابات اجتماعيّة ومحاولات لاستعادة السيطرة على الأقدار من خلال الالتزام بسرديّات بديلة.
وبالتأكيد ليست العودة للدين سوى وجه واحد لتحولات ثقافية واسعة اجتاحت المجتمعات، وتزايدت فيها مع انتشار الوباء المعدي المواقف المحافظة والنزعات الاستبداديّة بشكل ملحوظ، وهو ما يفسّر جزئياً مزيداً من دعم التيارات اليمينية المتطرفة في عدد من الدول التي جرت فيها انتخابات عامة أو محليّة (مثل إيطاليا والمجر). ومن المثير للاهتمام وفق دراسة لفريق من جامعة كامبريدج (بريطانيا) أن مثل هذه التوجهات ترتبط بالأمراض التي تنتقل مباشرة من شخص لآخر، وليس عن طريق مضيف وسيط أو ناقل، أي أنها تتعلق بكيفية إدراكنا للآخرين كمصدر خطر. وعززت سلوكيات الأفراد خلال الجائحة الحاليّة استنتاجات الدراسة بنماذج من نحو خمسين دولة شملت أكثر من ربع مليون شخص.
وتستدعي هذه الاتجاهات نماذج موازية من التاريخ القريب والبعيد قد تثير القلق. إذ من المعروف أنّه كانت هناك علاقة طرديّة في المدن الألمانيّة بين ارتفاع معدلات الوفيات خلال جائحة الحمى الإسبانيّة (1918) وارتفاع نسب التأييد للحزب النازي في أوائل الثلاثينيّات. ويُفسّر المؤرخون ذلك بأن الخوف من الفوضى وانعدام السيطرة على المصير في بيئة الوباء يدفع للبحث عن مصدر دعم وطمأنة، ليس إلهياً فحسب، وإنما أيضاً من قبل حكومات صارمة قادرة على فرض نظام مشدد داخل إطار المجموعة المتجانسة في مواجهة جراثيم وفيروسات الغرباء والآخرين المختلفين عرقيّاً أو دينياً أو طائفيّاً.
وهناك دلائل متراكمة على أن وباء الموت الأسود (الطاعون) الذي ضرب أوروبا خلال العصور الوسطى وكان له أبلغ الأثر في إعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع والثقافة فيها تسبب فور انتشاره في عودة جماعيّة إلى التدين وظهور التنبؤات بعقاب إلهي يُنهي العالم، وانتشار الطوائف المتطرفة التي تحدّت سلطة رجال الدين، وفي المذابح المسيحية ضد يهود أوروبا. وكان لهذا التدين المكثف آثار مؤسسيّة طويلة المدى، عززتها وفاة العديد من رجال الدين، والمخاوف من إرسال الطلاب في رحلات طويلة وخطيرة إلى الجامعات المعروفة، مما دفع التدين المتزايد لتأسيس جامعات جديدة محليّة فتحت باب الجدل والنقاش على نحو تسبب نهاية في تقويض وحدة المسيحية في العصور الوسطى، ومهد الطريق لصعود هويات قومية أقوى، وأسس آخر المطاف لحركة الإصلاح التي قسمت المسيحية نهائياً إلى بروتستانت وكاثوليك. وفي موازاة الجامعات الوطنيّة، فإن تنظيم إجراءات الحجر الصحي ضد الطاعون منح سلطة الدولة المدنية دفعة كبرى تجاه تقبل السكان لدورها في تنظيم حياتهم.
وربما يجب ألا نتجاهل في هذا السياق التأثيرات الحاسمة للموت الأسود على البنية الاقتصاديّة والطبقيّة للمجتمعات الأوروبيّة آنذاك. إذ إن هروب الناس من الوباء نحو الأراضي الفارغة والأعداد الهائلة للوفيات رفع من مستويات الأجور بشكل دراماتيكي، حيث كان الأسياد والملاك على استعداد لدفع المزيد مقابل العمالة الشحيحة بشكل متزايد. وجادل المؤرخ الفرنسي الشهير مارك بلوخ بأن مجتمع العصور الوسطى بدأ الانهيار في هذا الوقت تحديداً، لأن التدفق المضمون للدخل من عمل الفقراء إلى الأسر النبيلة في الإقطاعيات انتهى مع التراجع المخيف في عدد السكان، ومع ضعفهم انتشرت انتفاضات الفلاحين والصراعات المسلحة مع بقايا الإقطاع التي حاولت استبدال الريع بالنهب تحت تهديد السلاح.
وفي الوقت نفسه، فإن الوباء أهلك طرق التجارة البريّة بين الشرق والغرب منهياً بذلك ما يعرف باسم النظام العالمي القائم وفتح الباب للمغامرين البرتغاليين والإسبان بالبحث عن طرق جديدة عبر البحر والتي قادتهم في النهاية إلى استكشاف أفريقيا وأستراليا والأميركيتين وتأسيس ممالك غربيّة على أنقاض مجتمعات السكان المحليين. وللمفارقة، كان للأوبئة التي حملها معهم الغزاة: جدري الماء والحصبة، والجدري دور كبير في إبادتهم.
هذه وغيرها الكثير من الأدلة الواضحة على أن تغييرات نوعيّة هائلة على ثقافة المجتمعات تأتي عادة في أعقاب الكوارث الكبيرة، إذ إن الصدمات التي تأتي بها الجوائح الوبائية تنتج نوعاً من «الطفرات» الآيديولوجية التي تُضعف الفئات الأقل تكيّفاً في السكان، بينما تدفع الأكثر قدرة منهم على التكيّف إلى موضع أكثر رسوخاً. لكن في النهاية، فإن تلك التغييرات ليست بالأمر التلقائي، وتحدث بناء لقدرة المجتمع على الاستفادة من الاضطراب الجلل لتصحيح المسار وابتداع الجديد، إذ إن هنالك دلائل أخرى تشير إلى أن المجتمعات التي لا تفعل ذلك فإنها تخاطر بأن تكون أكثر عرضة لكوارث تالية، وأقل قدرة على التعامل معها، وكثير منها انتهى فعلاً إلى الانهيار.
ولعل واحدة من أطرف النظريات السائدة بين علماء الاجتماع هي الربط بين مدى انتشار الفيروسات والجراثيم وتفشي الأفكار التغييرية والثورية، حيث تبدو الظروف نفسها التي تجعل المجتمعات أكثر عرضة للعدوى - كاتساع فجوة الدّخول بين الطبقات، والانفجار السكاني، والعولمة هي ذاتها التي تفتح الأبواب لانتشار الأفكار التغييرية. وإذا لم يكن «كوفيد - 19» وحده بحامل لثورة ثقافية شاملة بمفرده هذه المرة - كما كان الطاعون يوماً ما - فإنه دون شك أحد العوامل الأساسية وراء ما سيكون عليه شكل العالم تالياً.
هل ثمة ثورة ثقافيّة في أعقاب «كوفيد ـ 19»؟
الجوائح الوبائية تخلق طفرات ومناخات مواتية لنشوبها
هل ثمة ثورة ثقافيّة في أعقاب «كوفيد ـ 19»؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة