من هو حقاً إيلون ماسك؟

إيلون ماسك
إيلون ماسك
TT

من هو حقاً إيلون ماسك؟

إيلون ماسك
إيلون ماسك

يشير وثائقي «إيلون ماسك: بطل خارق أم شرير» (شاهد)، إلى أنه يقدم معلومات «مبنية على الحقيقة». يحاول بنحو 45 دقيقة إيضاح صورة الملياردير الشهير صاحب مشروع «إنقاذ البشرية». ينطلق من استراتيجيته القائمة على هدف: «أن أكون مفيداً في أمور متعلقة بالأرض ومحاولة تطوير تقنيات الفضاء». ما يزيد على 25 دقيقة تصوره رجلاً يأتي بأشياء لا يمكن توقعها ولا يتخيل أن يفشل.
يسرد الشريط قصة نجاح من وجهة نظر بطلها، قبل الانتقال في ربعه الأخير إلى ما «يُمنع الحديث عنه». يبدأ من الرؤية المستقبلية للمدير التنفيذي لـ«تيسلا»، حيث «ستكون هناك أشياء تتيح الرغبة في العيش». يرفض ماسك المتفائل بمصير الجنس البشري، الحديث الدائم عن المشكلات، ويشاء لو يشعر الناس بإمكان إنقاذ الأرض من دون تضحيات.
تمر تغريدة عالية الحماسة: «لنجعل الحياة كما نعرفها موجودة على كواكب عدة». فيفتح الشريط سيرة السفر المثير إلى الفضاء، حيث نية إيلون وشركته «سبيس إكس»، «الذهاب بين النجوم، إلى أعماق الكون، وما وراء أغرب الأحلام».
على مقربة من أحد منازله؛ «البسيط والعادي»، يبدو المكان هادئاً ولا ضوضاء. يمكن التعرف إلى عاداته: «يسهر في الليل وينام في النهار». لطالما كان الأمر متعلقاً بالمريخ بالنسبة إليه، يقول الشريط قبل طرح السؤال الكبير: «من هو حقاً إيلون ماسك؟».
لسنوات؛ كان الناس يحاولون فهمه. في مقابلة مع أحد أشهر برامج أميركا الحوارية، يضحك الحضور على استفهام يوجهه المذيع إليه: «هل تحاول إنقاذ العالم؟»، فيرد: «نعم؛ أحاول القيام بأشياء جيدة»، ليرشقه بتهكم: «لكنك ملياردير! هذا تصرف يقوم به بطل خارق أو شرير. عليك الاختيار». لم تُظهر الصورة السعيدة لطفولة إيلون ماسك؛ المولود في عائلة ثرية بجنوب أفريقيا عام 1971، الحقيقة الكاملة. فالفتى الحالم، الحاد الذكاء، المهتم بكتب الخيال العلمي، تعرض للتنمر والضرب الجسدي في المدرسة. نشأته في ظل التفرقة العنصرية في فترة سادها الاضطراب، وتحوله شاهداً على قتل والده لعصابة مسلحة اقتحمت منزله، أثرا في بناء شخصيته. إحساسه بفقدان الطمأنينة وبأن المكان لا يبعث على الأمان، صوبا عينيه إلى الفضاء. تقول نظريته: «البشرية فصيلة متعددة الكواكب. بث الحياة في المريخ ممكن».
رأيه أن «الجنس البشري سينقرض ما لم نغادر هذا الكوكب». يضع الشريط متابعيه أمام مقاربة ثورية لرجل من خارج الصندوق، يرفع المستوى ويصعب المعادلات. يمهد الطريق لنشر البشر في الكون، محاولاً منافسة كريستوف كولومبوس على المكانة التاريخية.
تُروى سيرته بالعناوين العريضة. فرجل مثل إيلون ماسك لا يُشرح بـ45 دقيقة ولا تُفك ألغازه بالإجابة عن بضعة أسئلة. الشريط «مقبلات» تشوق للطبق الرئيسي، لكنها قادرة على ترويض الإحساس بالجوع. ماسك بأبرز محطات نجاحه، بألمع أفكاره ونظرته إلى المستقبل. لا مكان للماضي في حياته. لعل بعض ترسباته تعلق في الذاكرة، لكنه أستاذ في تجاوزها.
من الفضاء إلى السيارات الحديثة، حيث طموحه جعل السيارة الكهربائية الأفضل في العالم. يستعيد الوثائقي اقتراب شركتيه «سبيس إكس» و«تيسلا» من الإفلاس، لينقذ مصيرهما في اللحظات الأخيرة. ذلك للقول إن مسألة مهمة يبرع فيها رائد صناعة الفضاء والسيارات، هي عدم التفكير في الفشل. «لا يتخيل أنه يفشل». مع تنويه: «هو مخترع عصرنا، والذين لا يعترفون بموهبته لم يفهموا هذا الأمر».
ثمة محاولة لتفسير جاذبية الرجل. فهي «ليست بسبب موهبته في الابتكار فحسب؛ بل لأن حياته الشخصية مثيرة للاهتمام كذلك». يمر الشريط على تعدد علاقاته العاطفية؛ منها مع نجمة هوليوود آمبر هيرد، نافياً مزاعم أن علاقة جمعتهما وهي لا تزال زوجة جوني ديب. ما حرك كثيراً من نشاطه هو إحساسه بالرغبة في الشهرة. امتلاكه النفوذ والمال، من دون الأضواء الساطعة، لم يشعره باكتفاء. تعمده لفت الانتباه دفعه لتدخين الماريوانا وشرب الكحول في مقابلة إذاعية. يتعامل مع الصحافة كنجم.
في أقل من 10 سنوات، ازداد عدد متابعيه في «تويتر» أكثر من 90 مليوناً، إلى أن توصل لصفقة شرائه، ثم أرجاها. بعد فتح أبواب على إنجازاته، يكتفي الوثائقي بنوافذ تخرج منها روائح كريهة. يحضر عاملون سابقون في «تيسلا» للحديث عن سرقة نحاس وإساءة معاملة موظفين وتحرش عرقي.
أميركية سمراء من جذور أفريقية تتطلع بأسى إلى الكاميرا لتقول إن النساء السود «في أسفل هرم مصنع (تيسلا) في فريمونت». يشير الشريط إلى عدم تمكنه من الحصول على رد من إيلون ماسك حيال أن «مصنع (تيسلا) مشبع بالعنصرية»، مستعيضاً عنه بتعليمات تنادي بالمساواة والإنصاف والدعوة إلى قبول الاعتذار في حال الإساءة، واردة عبر موقعه الإلكتروني.
حسمُ وجهة النظر حيال الملياردير العالمي، مسألة شبه مستحيلة. لكن الإصغاء إليه بالغ الأهمية. يغير المفاهيم بأعصاب باردة: «الأرض هي مهد البشرية، ولا يمكنكم البقاء في المهد إلى الأبد. حان الوقت لأن نتقدم ونصبح حضارة تتنقل بين النجوم». عقل عظيم في دعوته لتوسيع حجم الوعي البشري وعدسته.



الملا عثمان جوهري يستذكر العمليات ضد الأميركيين

الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
TT

الملا عثمان جوهري يستذكر العمليات ضد الأميركيين

الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)
الملا عثمان جوهري في جولة بين التلال بولاية نورستان قال: «لم تكن هنا طالبان هنا عندما بدأت الحرب» (نيويورك تايمز)

قاد الملا عثمان جوهري واحدة من أعنف الهجمات على القوات الأميركية في أفغانستان، وهي معركة «ونت» التي باتت رمزاً للحرب ذاتها.

كان جوهري، قيادي «طالبان» السابق يرتدي نظارات شمسية ومعطفاً من الصوف الثقيل، كما لو أنه قد يترك المكان في أي لحظة. على طاولة مغطاة بالبلاستيك تفصل بيننا تحت ضوء الفلورسنت، كان هناك تل من اللحم والأرز الذي لم يُمس. كانت هذه هي المرة الأولى التي نلتقي فيها، تحديداً في شتاء عام 2022، وقد اختار للقاء مكاناً يقع في نُزل وسط شارع مزدحم.

كانت أصوات التجار وهدير حركة المرور تتسلل عبر نافذة مفتوحة فيما كنت أشرح له لماذا تعقبتُ أثره. منذ أكثر من عقد من الزمان، حاصر 150 مقاتلاً من «طالبان» قاعدة أميركية في سفوح جبال «هندوكوش»، وقُتل تسعة جنود وأُصيب أكثر من عشرين فيما باتت تُعرف بمعركة «ونت»، التي تعد واحدة من أعنف الهجمات على القوات الأميركية خلال الحرب بأكملها.

وايغال هي قرية كبيرة في عمق وادٍ باسمها لم تتمكن القوات الأمريكية من الوصول إليها مطلقاً خلال حملتها بنورستان (نيويورك تايمز)

هذا الرجل، الملا عثمان جوهري، كان قائد ذلك الهجوم، وهي معجزة أنه لا يزال على قيد الحياة. فخلال الحرب، كان القادة المتوسطون في «طالبان» يلقون حتفهم بانتظام. لكن ها هو حيٌّ يُرزَق. على مدار أكثر من عشرين عاماً، كانت الصحافة الأميركية تغطي نصف الحرب فقط. وأنا، بصفتي صحافياً سابقاً في أفغانستان ورئيس مكتب كابل، كنت جزءاً من ذلك أيضاً. كانت أجزاء كبيرة من البلاد محظورة، وكان تصوُّر «طالبان» غالباً ما يقتصر على دعاية الحركة، وكانت القصة الحقيقية غير معروفة. قرأتُ بصفتي صحافياً كل التقارير المتعلقة بمعركة «ونت»، وكل درس مستفاد. لكن الآن وقد انتهت المعارك، أصبحت أتساءل عما فاتنا. قد أتمكن من الحصول على بعض الرؤى حول كيفية انتهاء الحرب بشكل سيئ بالنسبة إلى الولايات المتحدة (وكذلك بالنسبة إلى كثير من الأفغان، لا سيما النساء).

أردت رؤية الحرب من الجانب الآخر لتقديم منظور قد لا يراه القارئ مطلقاً، ودروس مستفادة من الجماعة الوحيدة التي لم يُطلب منها ذلك، جماعة «طالبان». فبعد حرب فيتنام، التي تتشابه إلى حد كبير مع الحرب في أفغانستان لدرجة أنها أصبحت أشبه بالإكليشيه، مرّت عقود قبل أن تتعامل الولايات المتحدة مع عدوها السابق.

وبحلول ذلك الوقت، كان كثير من قادتها العسكريين قد ماتوا، وضاعت فصول من التاريخ ربما إلى الأبد، حسب المؤرخين.

الملا عثمان جوهري بمنزله في وايغال بولاية نورستان بأفغانستان (نيويورك تايمز)

قدمتُ هذا العرض للملا عثمان جوهري مرتين من قبل: الأولى كانت عبر حارسه الشخصي، الذي كان يرتدي زياً يشبه زي قوات العمليات الخاصة؛ والأخرى كانت عبر مساعده، الذي كان بمثابة قنبلة موقوتة في الانتظار، ولم يعد مطلوباً. أخيراً، جلستُ أمام الملا عثمان نفسه، وعندما انتهيت من حديثي، لم يقل شيئاً، ولم يحرّك حتى رأسه. نظرنا إلى الطعام الذي بدأ يبرد أمامنا حتى أشار إلى حارسه ليتهيأ، فقد كنا متجهين إلى موقع «ونت» بسفوح جبال «هندوكوش».

اليوم في «ونت»، ما زالت بقايا القاعدة الأميركية السابقة قائمة، مهدمة وممزقة كذكرى باهتة، أطرافها التي كانت قائمة في السابق ذابت في الأرض مثل لوحة لسلفادور دالي. أراني الملا عثمان خطوط إمداد «طالبان» ومواقع إطلاق النار، وأعاد تمثيل الحصار. لكن بينما كنا نتحدث على مدار الأيام التالية، ثم الأشهر والسنة التالية، أقنعني الملا عثمان بأن معركة «ونت» بدأت فعلاً قبل سنوات -لكنّ الأميركيين لم يكونوا يدركون ذلك. قال لنا إنه لكم يكن عضواً في «طالبان» عندما بدأت الحرب. وبعد انضمامه، أصبح موضع سخرية في قريته. كان السكان المحليون في الوادي يؤمنون بمستقبل وَعَدَتْهم به الولايات المتحدة. لكن بعد ذلك، بدأت الغارات الجوية الأميركية، التي استهدفت مسلحين مشتبه بهم، في قتل الأبرياء. هذه القصة مألوفة بشكل محبط، ولكن كان ما هو أغرب، فالأمريكيون قتلوا وجرحوا أولئك الذين دعموا وجودهم أكثر من غيرهم.

بدأت عمليات تجنيد «طالبان» في الازدياد، حسب الملا عثمان، مع تحول الأميركيين من حلفاء إلى أعداء.

يقول : «لم يكن هناك أي عنصر لـ(طالبان) هنا عندما بدأت الحرب»، عبارة قالها لي الملا عثمان جوهري في تلك الرحلة الأولى إلى قريته الأصلية في ويغال، التي تقع في عمق الوادي تحت الجبال الشاهقة المغطاة بالثلوج. «لكن بعد أن دخل الأميركيون وبنوا قواعدهم وقتلوا الأبرياء، نهض الناس وقرروا القتال».

دروس مستفادة

نورستان، منطقة جبلية في شمال أفغانستان، لم تكن تهدف مطلقاً لتكون نقطة محورية في الحرب على الإرهاب. لم تكن معقلاً طبيعياً لـ«القاعدة» أو «طالبان». في الواقع، خلال فترة حكمهم الأولى في التسعينات، كانت «طالبان» قد دخلت المنطقة بالكاد. ومع ذلك، اعتقد الأميركيون أنها طريق لتهريب الأسلحة والمقاتلين وملاذ آمن لتنظيم «القاعدة»، لذا بنوا قواعد وبدأوا في تنفيذ دوريات عدوانية في أماكن كانت معتادة على الاستقلال.

في رحلاتي عبر الوادي، قابلت حلفاء للولايات المتحدة تعرضوا للتشويه جراء الغارات الجوية، والذين فقدوا عائلاتهم أيضاً. هؤلاء الأشخاص كانوا بمثابة تذكير بقلة إدراك الولايات المتحدة للحرب التي كانت تخوضها. اتضح أن الأميركيين كانوا مخطئين بشأن كون نورستان معقلاً للإرهابيين. لكن قواعدهم أصبحت بمثابة مغناطيس يجذب المسلحين، مثل «حقل الأحلام» للمتمردين: الأميركيون بنوها، ثم جاءت «طالبان». وبحلول الوقت الذي قاد فيه الملا عثمان فريقه عبر الجبال لشن الهجوم على القاعدة الأميركية في «ونت»، كان الوادي قد تحوَّل ضد الأميركيين، وكانت النتيجة مأساوية.

*خدمة «نيويورك تايمز»