«الفرجة الثقافية» في الصيف المغربي

إحدى فعاليات «مهرجان مراكش الدولي لفن الحكي»
إحدى فعاليات «مهرجان مراكش الدولي لفن الحكي»
TT

«الفرجة الثقافية» في الصيف المغربي

إحدى فعاليات «مهرجان مراكش الدولي لفن الحكي»
إحدى فعاليات «مهرجان مراكش الدولي لفن الحكي»

حين يطل الصيف في المغرب بين جنبات الطرق المؤدية إلى الشوارع الكبرى، وفي الساحات وداخل فضاءات الاستجمام وأماكن التجوال... تنمو لحظات الفرجة وتتسع دائرتها ضمن قوالب ثقافية متنوعة تجمع بين متعة المشاهدة وتفرد العرض، يكفي أن نمر على إحدى مدن المغرب شمالاً أو جنوباً كي نجد مشاهد ثقافية مفتوحة تُعرض في المسرح الحي أمام جمهور من الزوار والعابرين، إنها عادة صيفية تفصح عن حالة من حالات الثقافة التفاعلية، والتي لا تنتعش بشكل مباشر إلا في الحياة اليومية مع الناس وبينهم.
ففي مراكش مثلاً اشتهرت ساحة جامع «الفنا» قديماً بحلقات العرض الحي أمام المارين من الزوار الذين يتحلقون حول مسرحي متطوع ومتعدد المواهب، فهو تارة يميل إلى سمات الفكاهة في عرضه الحي، وتارة يلبس سترة الحكواتي، ثم ما يلبث أن يرتدي بعدها قبعة الساحر العنيد. يبدأ الأمر أولاً بلوحات من الكوميديا الساخرة التي تستند في جانب كبير منها إلى النكت المعدلة وطرائف اللهجة الدارجة، وبعدها يغرق في فصول المحكي اليومي مما تناقلته ألسن الرواة، ثم يمضي إلى رقصات بهلوانية يروض فيها النار والأفاعي والحيوانات غير الأليفة، وهكذا إلى أن يمعن في العجائبية حين يزعم امتلاكه للغة الجن وقدرته على التواصل مع رمزية العالم الآخر، إنه تجلٍ ثري للثقافة الشعبية مسرحاً وأدباً ضمن عروض لا تخلو ــ كما هو شائع ــ من العنصر الفني مكتمل الصورة، ذلك فإنها ليست مقتصرة في تكوينها على الطابع الفولكلوري فقط، بل تحمل في طياتها حالات عالية من الأدب الشعبي سرداً وزجلاً وشعراً محكياً.
تشد هذه اللوحات انتباه الحاضرين، إلى درجة أنهم يندمجون بدورهم في حالة الجذب تلك، حتى لكأن الأمر ينتقل من طابع التسلية إلى إطار صوفي يتملك الواقف ويجعله متأرجحاً بين إحساس الخوف ولذة الإعجاب. ومثل كل المدن التي تكتظ شوارعها بزوار الصيف، نجد في مدن المغرب عروضاً حية للموسيقى فوق الرصيف، هناك يسهل العثور على أصوات شبابية مجتمعة أو متفرقة تنتشر في المدن فُرادى، تغني وهي تعزف على قيثار بسيط عدداً من إيقاعات العالم، إنها مشاهد تقترب من الطابع الغربي للفرجة في المدن الحديثة لكنها تحتفظ لنفسها بلمسة «الحلقة الشعبية»، يبدو هذا واضحاً من خلال ذلك التواصل الذي يحدث فجأة في عين المكان بين المشاهد وصاحب العرض، حالة الحوار تلك تجسدها طلبات الواقفين وإهداءاتهم فضلاً عما تجود به الأيادي من قطع معدنية تحيي موهبة المغني وكرمه في الغناء وسعة صدره للجمهور، هذا التواصل الإنساني السلس هو ما يميز مجمل العروض التي تَتَزين بها شوارع المدن الكبرى بشكل عشوائي في ساعات الظهيرة أو في المساء، والأمر لا يقتصر على العروض الموسيقية بل حتى الحركات الرياضية المتقنة والرقصات الغريبة وغيرها من اللوحات التفاعلية المثيرة ستجد لها مكاناً في مساحة الفرجة... فوق رصيف شارع ينتظر نصيبه من مواسم الدهشة في الصيف.
في العادة، لا ترتبط المشاهد الكرنفالية بموعد محدد، لكن للصيف حظاً كبيراً منها. للأمر علاقة بالمواسم المحلية للمدن والقرى ذات الطابع الفولكلوري والكرنفالي أحياناً، مواسم يختار القائمون عليها في الغالب أشهر الصيف كي تتزامن الفرجة مع العطلة السنوية، وكل ذلك يصب في مصلحة جماهيرية العرض ويدعم فرص نجاحه. وتتعدد مظاهر الفرجة في المواسم الشعبية، لكن ما يوحدها جميعاً هو اقترابها من الذائقة الشعبية التي تميل إلى المثير والممتع والمفاجئ وغير النمطي، فجماليات الفروسية في المواسم لا تتمثل في هيئة الفرسان أو في حُسن الخيول المشاركة وعراقة سلالاتها، بل في انتظام الفرسان داخل فرقة واحدة تنطلق من خط البداية المستقيم وتمضي بأقصى سرعة ممكنة صوب خط الوصول مطلقة في اللحظات الأخيرة دفعات من البارود الذي يدوي مؤذناً بنجاح «التبوريدة» التي لا يستقيم حال أي موسم شعبي في المغرب بدونها. ومن جانبها، تحضر الرقَصات الشعبية كذلك ضمن طبق الفرجة الموسمي في المدن والقرى على السواء، وتتنوع أشكال الزي وحركات الراقصين وأعدادهم، كما تتنوع أهازيج المغنين الذين يعكفون على حفظ إيقاع الرقص باختلاف المناطق والثقافات المحلية التي تنتمي إليها المجموعات المشاركة في كل موسم.
ومع تعدد الروافد واختلاف الأنماط ونمو الشكل الحديث للفنون في المدينة، تنتعش في الصيف أشكال أخرى من الفرجة على شكل اجتماعي تواصلي حي ومباشر، تحتضنه عدد من المقاهي التي اختارت لنفسها أن تكون فضاءات ثقافية مفتوحة، وهي مقاهٍ ثقافية عدد منها يتمركز في الشمال وأخرى في مدن الداخل الرئيسة. وتحتضن هذه الفضاءات كل مساء من مساءات الصيف فقراتٍ من العروض الحية أمام الملأ... معظم ما يُقدم ذو طابع موسيقي أو مسرحي أو شعري ضمن عروض يحييها الزوار بشكل طوعي تلقائي، وجمهور هذه العروض تلقائي كذلك، فهو مشكل بالأساس من رواد المقهى ممن يأتون إلى هناك يومياً من دون موعد مسبق بحثاً عن فرجة غير محددة اللون والشكل، لكنها فرجة ثقافية حية وغنية، تحضر في كل الفصول ويجعلها الصيف أكثر توهجاً.
*كاتب وشاعر من المغرب


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الربيعة يتسلم جائزة القيادة العالمية في مجال الصحة والإنسانية

د. عبد العزيز الربيعة خلال تسلمه الجائزة من ديلانو روزفلت (الشرق الأوسط)
د. عبد العزيز الربيعة خلال تسلمه الجائزة من ديلانو روزفلت (الشرق الأوسط)
TT

الربيعة يتسلم جائزة القيادة العالمية في مجال الصحة والإنسانية

د. عبد العزيز الربيعة خلال تسلمه الجائزة من ديلانو روزفلت (الشرق الأوسط)
د. عبد العزيز الربيعة خلال تسلمه الجائزة من ديلانو روزفلت (الشرق الأوسط)

تسلَّم الدكتور عبد الله الربيعة المستشار في الديوان الملكي السعودي، المشرف العام على «مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، من ديلانو روزفلت المدير التنفيذي للمجلس الوطني للعلاقات الأميركية العربية، جائزة القيادة العالمية في مجال الصحة والإنسانية، بالعاصمة واشنطن.

وأكد الربيعة أن فوزه بالجائزة لا يُعدّ تكريماً شخصياً له فقط، وإنما تكريم لجميع العاملين في المجال الإنساني والصحي في السعودية الذين عملوا بلا كلل ولا ملل لرفع راية المملكة خفَّاقة في كل الميادين، ومنها الخيرية والإنسانية والصحية.

وبيَّن أن هذا الإنجاز ما كان ليتحقق «لولا توفيق الله تعالى ثم الدعم الكبير الذي يلقاه القطاع الإنساني والصحي من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، اللذين دأبا على تنمية الأداء الفعال والروح الإبداعية والمعرفية لجميع المواطنين؛ مما أهّل المملكة للتميز العالمي برؤية ثاقبة وإلهام وتحقيق الإنجازات المتعددة المتلاحقة بشكل سريع وملموس وفق رؤية ثاقبة وطموحة».