«السلطة» من روسو إلى فيبر

TT

«السلطة» من روسو إلى فيبر

منذ بدأ الإنسان في الانتظام بمجموعات بشرية، وهو يحرص دائماً على تنظيم شؤونه داخل مجموعته، بالإضافة لعلاقاته بالمجموعات البشرية الأخرى. وقبل بدء مفهوم الدولة الحديثة، ساد مفهوم السلطة التي تدير شؤون أفراد جماعتها وتكفل لهم الحماية ضد تهديدات المجاميع الأخرى. ومع تطور المجتمعات تطورت فلسفة الحكم والعلاقات البشرية بشكل يوازي - وأحياناً يفوق - بقية مفردات التطور الحضاري.
لا تذكر السلطة وتنظيم شؤون المجتمع دون أن يذكر الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778) الذي نظر إلى علاقة الحاكم بالمحكوم من وجهة نظر أخرى. فهو يرى أن المسألة تتعدى علاقة نخبة قوية بأخرى خاضعة لسيطرتها، فالجميع يخضع لقوة أعلى منه بطريقة أو أخرى. وعليه يقول روسو في مقدمة كتابه الشهير «العقد الاجتماعي»: «يولد الإنسان حراً وهو مقيد في كل مكان. إن أولئك الذين يعتقدون أنفسهم سادة الآخرين هم في الحقيقة عبيد أكثر منهم». وفي مفهومه للعقد الاجتماعي، فإن كل فرد من أفراد المجتمع يتخلى عن بعض من «حقوقه الطبيعية» من أجل الانخراط في المجتمع المدني. والمقصود بـ«الحق الطبيعي» في السياق الثقافي الأوروبي وقتها هو القدرة على فعل الشيء. بمعنى أن الفرد يتخلى عن قدرته المبنية على القوة الممكن استخدامها لفعل أمر ما من أجل السلم العام الذي سيحميه ممن هو أقوى منه. وهذا هو روح العقد الاجتماعي، بألا يعتدي القوي على من هو أضعف منه، مقابل أنه سيضمن الحماية ممن هو أقوى منه.
شهد القرن التالي لروسو - التاسع عشر - التحولات الاجتماعية الأهم في تاريخ أوروبا نحو الصناعة. واكب هذا التحول الاقتصادي تحولات اجتماعية في بنية الأسرة وتطور المدينة وتوسيع دائرة المشاركة السياسية بين أفراد المجتمعات. وخلال القرنين التاليين لروسو، شهد مفهوم العقد الاجتماعي وبنية الدولة الحديثة تطورات عدة في المجالين الفلسفي والميداني. غير أن مفهوم السلطة بشكله المجرد ظل هاجس كثير من الفلاسفة الذين حاولوا إيجاد الجذور التي تؤسس لشرعية السلطة بشكل عام، وليس السياسية فحسب. نقف هنا عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 - 1920) الذي وضع تصوره الشهير لأنماط السلطة.
ميّز ماكس فيبر ثلاثة أنماط للسلطة، كل منها يستمد شرعيته من المفهوم المثالي الذي يتناسب مع ثقافة الجماعة البشرية التي تحكم من خلال سلطة تنتمي لذلك النمط. الأنواع الثلاثة هي:
- السلطة التقليدية: حيث يتسالم أفراد الجماعة (أو المجتمع) على القبول بسلطة مجموعة معينة قبلوا بها على أساس الأقدمية (الحق التاريخي) أو المقدس (الدين). هذه النخبة قد تكون عائلة حاكمة تحكم باسم الحق التاريخي الذي تتوارثه بين أجيالها، أو مجموعة رجال دين يشكلون السلطة الشرعية لمعتقد ما. وينحصر اختيار رأس الجماعة في هذه النخبة التي تحدد زعيمها، الذي سيكون رأس السلطة السياسية أو الدينية. فكما تحدد العائلة الحاكمة الملك وولي عهده، فإن المؤسسة الدينية مثل الفاتيكان متمثلة في سلك الكرادلة تحدد من يكون البابا.
2- السلطة الكارزمية: تتحقق في وجود قائد ملهم يكون صاحب حضور مميز يبهر الجماهير التي ترى في مميزاته الاستثنائية شرعية للممارسة السلطة، بغض النظر عن خلفيته الأسرية أو المؤهلات الأخرى. غير أن الإشكال الأقوى الذي يوجهها هو مسألة الخلافة، ومن يخلف القائد الملهم في حال رحيله المفاجئ.
3- السلطة العقلانية القانونية: وتكون بناء على وصف المنصب ومؤهلات الشخص الذي يفترض أن يشغله، ويقوم بقية أفراد الشعب بانتخابه. ويعرف هذا النمط كذلك بالبيروقراطية، حيث يتم تفصيل مميزات الشخص ومؤهلاته وحدود صلاحياته حتى يتمكن بقية أفراد المجتمع من انتخابه بناء على تلك التفصيلات.
يرى فيبر أن النمطين الأولين ليسا عقلانيين، كونهما يحصران السلطة في مجموعة محددة كما في النوع الأول، أو فرد بعينه كما في النمط الثاني. ويرى فيبر أن النمط الثالث هو الأكثر مثالية والمناسب للمجتمع الحديث، حيث إنه الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الصناعية المتطورة.
من المهم تسجيل شهادة لماكس فيبر، أنه قد نجح في تنميط السلطة بثلاثة أقسام يصعب تخيل أي نوع من أنواع السلطة عبر التاريخ خارج إطار أحد هذه الأنماط الثلاثة. فمهما اختلفت التطبيقات، سنجد أن السلطة ترجع في شرعيتها في نهاية المطاف إلى أحد هذه الأنماط الثلاثة.
إن تفضيل ماكس فيبر للنمط الثالث الذي يشرعن للديمقراطية لا ينفصل عن البيئة التي عاش فيها فيبر. فالمجتمع الأوروبي الصناعي يقوم على الاقتصاد الرأسمالي الذي يعطي الأولوية للفرد. فكما يكون الفرد حراً في الجانب الاقتصادي، فإنه كذلك يتوجب أن يكون حراً في حياته الاجتماعية الخاصة؛ ولضمان حريتيه الاقتصادية والاجتماعية توجب أن تكون هناك سلطة متجددة يتم انتخابها من الأفراد بشكل دوري، وذلك لضمان مواكبة تغير المزاج العام من خلال المحدودية الزمنية لفترة الحكم.
بالنسبة للمجتمعات التي لا تقوم على الرأسمالية الصناعية بشكل أساسي، فإن النمط الثالث ليس بالضرورة هو الأنسب لها. فالبلدان التي تقوم على الاقتصاد الريعي، أو التي يطالب مواطنوها حكامهم بالتدخل المباشر في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية عن طريق دعم بعض السلع أو توفير خدمات مجانية (أو شبه مجانية) بالذات في مجالي التعليم والصحة، لا تستطيع أن تضمن ذلك من خلال سلطة متجددة بشكل كامل. فالنظام الذي يقوم على الديمقراطية بشكل مثالي يتعامل مع حكم الدولة تماماً كما يتعامل مجلس إدارة الشركة مع المساهمين. فالنمط العقلاني الذي يتحدث عنه فيبر لا يتيح فضاءً واسعاً للمرونة، فالأنظمة تقوم على مواد مكتوبة بشكل تفصيلي تصل إلى حد يصفه فيبر بـ«لاعقلانية العقلانية»، والذي على أساسه يتم سن قوانين تفضي إلى نتائج غير منصفة، ويحتاج التخلص من تبعاتها السلبية إلى التحايل على النظام - أو تفسيراته - عن طريق توظيف محامين حاذقين. وهذا ما تشهده الدول الديمقراطية اليوم من ازدهار لسوق المحامين الذين يحاولون إيجاد مخارج عقلانية - قانونية لمن لم تنصفهم نصوص القانون.
تعيدنا تلك المفارقة إلى عبارة روسو التي بدأنا بها «يولد الإنسان حراً وهو مقيد في كل مكان. إن أولئك الذين يعتقدون أنفسهم سادة الآخرين هم في الحقيقة عبيد أكثر منهم». فالحرية التي تدعو لها وتدافع عنها السلطة العقلانية في جانبها النظري، هي ذاتها التي تقيد الأفراد في الجانب العملي. وعليه، فإن الأنماط الثلاثة التي طرحها ماكس فيبر تصف حال المجتمعات على اختلاف ثقافاتها وبُناها المعرفية التي تحدد الأسس المقبولة لشرعية السلطة التي تفوّضها لإدارة شؤونها. فما كان يراه فيبر صالحاً في أوروبا، وتم نقله بنجاح إلى دول أخرى، لم ينجح في كثير من الدول التي ما زالت تختزن فكر الجماعة التقليدية أو المقدس الديني. ولنا في تجربة الديمقراطية القسرية في العراق نموذج لإسقاط الديمقراطية في محيط ما زال يقدّس العشيرة ورجل الدين.
- أستاذ بجامعة غراند فالي، وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط - واشنطن.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

عائلة سعودية تتوارث لقب «القنصل الفخري» لفنلندا

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
TT

عائلة سعودية تتوارث لقب «القنصل الفخري» لفنلندا

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)

حملت أسرة بن زقر التجارية العريقة في جدة شرف التمثيل القنصلي الفخري لفنلندا عبر 3 أجيال متعاقبة.

يروي الحفيد سعيد بن زقر، لـ«الشرق الأوسط»، أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما علم الجد سعيد بن زقر بوجود جالية مسلمة في فنلندا تعاني من غياب مسجد، سافر إلى هناك لبناء مسجد، لكنه واجه تحديات قانونية.

ويضيف: «بعد تعثر بناء المسجد، تقدمت الجالية المسلمة هناك بطلب رسمي إلى الحكومة الفنلندية لتعيين الجد سعيد قنصلاً فخرياً يمثلهم، وهو ما تحقق لاحقاً بعد موافقة الحكومة السعودية على ذلك».

ويسعى الحفيد بن زقر إلى مواصلة إرث عائلته العريق في تعزيز العلاقات بين السعودية وفنلندا.