مسار محمد المختار ولد أباه... ذاكرة الخاص والعام

عيّنه الملك الراحل الحسن الثاني أول مدير للإذاعة المغربية

مسار محمد المختار ولد أباه... ذاكرة الخاص والعام
TT

مسار محمد المختار ولد أباه... ذاكرة الخاص والعام

مسار محمد المختار ولد أباه... ذاكرة الخاص والعام

صدر أخيراً كتاب «رحلة مع الحياة» للعلامة والأديب الموريتاني محمد المختار ولد أبّاه، عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء.
وحمل الكتاب في طيّاته صفحات من الذاكرة الشخصية للمؤلِّف على مستويات عدة، اجتماعية ونفسية ودراسية وسياسية... وفي خضم استعراضه هذه الجوانب، حرص الكاتب على إثارة الكثير من الملاحظات المؤثرة والمحيطة بالجغرافيا السياسية والثقافية التي عاش متنقلاً بين أطرافها، كما لم يفته التأكيد على موقفه من بعض القضايا الشائكة في موريتانيا والجوار، كقضية الصحراء التي ظل مدافعاً عن مغربيتها، وعلاقاته بالمؤسسات العربية والإسلامية، وعلاقته الخاصة بالمغرب، حيث تتعدد نقط الالتقاء بين ما هو روحي وما هو سياسي وتاريخي وثقافي.
الكتاب كما يصفه المؤلف عرضٌ لذاكرة ببعدين اثنين، الأول يطبع مسار العمر وتقلبات الحياة والآخر يميط اللثام عن لحظات مفصلية شكلت نقط تحول في حياة الكاتب وحددت اتجاه وعيه الخاص والعام.
يبدأ المسار من عذرية الصحراء في أحضان البادية قرب بئر يُسمى «ما إكوم» غير بعيدة عن مدينة «بوتلميت»، وفي البادية التي عاش ولد أباه فيها تجربة اليتم بعد وفاة والده وهو لم يزل ابن ست سنين، ثم ما لبث أن وجد في حنان الأم سلوى من الحنان أهَّلته لمقارعة الحياة وخوض معركة المعرفة في «المحظرة»، ثم ما بعدها من مراكز التعليم والتنوير. يستعرض الكتاب بعد ذلك جملة من اللقاءات التي جمعته بأسماء علمية بارزة في موريتانيا، كالعلّامة المختار ولد حامد «التاه»، ثم يحكي بإيجاز عن زيارته البِكر لأقرب المدن إليه «بوتلميت»... هكذا دخل محمد المختار ولد أباه ما يصفه بمعترك الحياة، وتزامن هذا الدخول الشائك باشتداد وقع الحرب العالمية الثانية على بلاده التي كانت آن ذاك مستعمرة فرنسية، ارتفاع مهول للأسعار وشظف عيش وندرة في الأغذية نتيجة لتزامن الظروف العالمية بظرف مناخي طارئ هو الجفاف الحاد الذي ضرب ربوع موريتانيا؛ وهو ما سبب حالات واسعة من المجاعة وانتشار الوباء، لكن السيول كانت قد أصابت بعض المزارع من مشاع القبيلة التي ينتمي إليها، وكان على ولد أباه حينها أن يفعل ما يقتضيه منه واجب الفتوّة، وكذلك كان فَهَمّ بالسفر إلى تلك البقاع كي يحوز بعض القطع الأرضية ويستصلحها، هذا السفر الذي تعثر بغياب المركوب والعياء والكسل الذي جعله يتمارض منسحباً بحيلة من الرحلة في نصف الطريق، غير مدرك في الوقت نفسه، أن هذه العودة سوف تغير مسار حياته كلها.
يحكي ولد أبّاه عن مرحلة العمل موظفاً وعن خوض غمار السياسة والعمل المؤسساتي داخل بلده وخارجه، من مدرس بسيط في أقصى شرق موريتانيا إلى العمل مراقباً في «بوتلميت»، ثم العمل في «تجكجة»، أعقب ذلك سفر ولد أباه للحج عبر رحلة بحرية طويلة، وفي الديار المقدسة يصف ولد أبّاه تلك المشاعر الروحية التي غمرته وهو ينظر إلى الكعبة في مكة، وإلى المسجد النبوي في المدينة المنورة، حيث التقى هناك أفراد الجالية الموريتانية، ثم ختم أشواط هذه الرحلة الروحية بقصيدة ميمية تغنى فيها بالأشواق والفيض النبوي الصادق.
توالت الأسفار بعد ذلك، فها هو ولد أبّاه يحكي عن أسبوع قضاه في باريس عائداً من الحج، بدعوة من مندوب الحكومة وبغرض لقاء وزير المستعمرات الفرنسية، التبس إحساسه حينها بين الفرح برؤية مدينة الأنوار الأوروبية العظيمة والأسى على مغادرة رفاق الرحلة، وعلى تفويته فرصة زيارة مدينة فاس، وتوجسه في الوقت نفسه من موقف المسؤولين الفرنسيين في تلك الفترة التي تزامنت مع نفي السلطان المغربي محمد الخامس إلى مدغشقر، هكذا تبدأ أولى صفحات الارتباط الوثيق لحياة ولد أبّاه الشخصية والرسمية بالمغرب الوطن والشعب والدولة.
وتطرق واد أباه في مذكراته لقصة تعيينه أول مدير للإذاعة المغربية من قِبل الملك الراحل الحسن الثاني، الذي تحدث عن الموضوع آنذاك في حوار خص به صحيفة «لومنوند» الفرنسية. وقال الحسن الثاني إنه عيّن واد أباه في هذا المنصب الحساس لأنه شخص خارج التجاذبات السياسية.
وعن نضاله من أجل موريتانيا بلاده، يلخص الكاتب تجربة الكفاح التي خاضها ضد الاستعمار في ثلاث مراحل، أولها التفكير في الانتماء الوطني، ثم تأتي المرحلة الثانية فتجعله يحس بوجود احتلال أجنبي على الأرض، أما المرحلة الثالثة الحاسمة فتتوج بمصادمة أساليب حكم الاستعمار.
وفي معرض حديثه عن تجاربه السياسية داخل وخارج موريتانيا، سلط ولد أبّاه الضوء على لحظة المشاركة في أول حكومة موريتانية ناشئة، ثم عاد للحديث عن علاقته الخاصة بالمغرب فوصف أعواماً عديدة قضاها في العاصمة الرباط ابتدأت باستقبال حظي به من الملك الراحل محمد الخامس، وفي هذا السياق تطرق لعلاقته الخاصة بالأمير فال ولد عمير، وهو شخصية موريتانية مرموقة اشتهرت بدفاعها عن فكرة الوحدة السيادية مع المغرب. صاحب ولد أبّاه فال ولد عمير في سفرة خارجية رسمية ضمن الوفد المرافق للملك محمد الخامس في رحلة مشهورة إلى المشرق بداية عام 1960، رحلة زار فيها مصر والسعودية والأردن والكويت والعراق ولبنان، وكانت تلك مناسبة بالنسبة للكاتب كي يقوم بجولة في أهم محطات العالم العربي وأكثرها توهجاً، توفي محمد الخامس بعد ذلك بسنة، ويصف ولد أباه الحزن الكبير الذي أصابه يومها. كان على ولد أباه أن يعود إلى موريتانيا رغم أن الأجواء كانت غير مشجعة... هناك عاش تجربة الإقامة الجبرية والاعتقال، ووجد في مسلك الروح والإيمان طريقة لنيل الحرية داخل السجن. يصف بعد ذلك ولد أباه علاقته بالواقع المؤسساتي الجديد في موريتانيا، بدءاً من العودة إلى التعليم، ثم العلاقة مع الرئيس الراحل المختار ولد داداه الذي سجل الكاتب ملاحظات على مذكراته.
وعن إشكال التعليم ببلاده، تحدث الكاتب عن الإصلاح الذي بدأ عام 1967 وأعقبه آخر عام 1973، كما تطرق لمشكلة التعريب، ثم روى بعض فصول رحلاته إلى البلدان الكبرى كاميركا والصين ودراسته في فرنسا بجامعة السوربون العريقة واحتكاكه بالمستشرقين. وحفاظاً على سمة الذاكرة ذات البعدين العام والشخصي للكاتب؛ فإن الأحداث الشخصية المؤثرة قد حضرت أيضاً في متن الكتاب، ومن ذلك رحيل الأم والأخ وما أحدثه الموت من عظيم الإحساس بالفجيعة والفقد.
وعلى صعيد المواقف، حرص ولد أبّاه على أن يكون صريحاً في شهادته على حرب الصحراء وقضية وحدة الأمة، إنها حرب كان «قتالها يدور بين أفراد عائلة واحدة» يقول الكاتب. وقد عاب ولد أبّاه على الإسبان تنكرهم لمضامين اتفاقية مدريد مع المغرب وموريتانيا، ولعبهم على ورقة تقرير مصير سكان المنطقة، رغم أن الشعور بالحرية «لا يتوقف بالضرورة على إنشاء دولة جديدة». يروي ولد أباه فصول هذه الحرب في موريتانيا وكيف تسببت في إسقاط الرئيس ولد داداه بانقلاب عسكري دراماتيكي، وكيف أصبح الوضع معقداً بعد ذلك في موريتانيا والمنطقة.
وقد ختم كتابه بأحاديث متفرقة عن تجاربه العملية على الصعيدين العربي والإسلامي، سنوات ست في اليونيسكو قضاها ولد أباه، وخمس أخرى في منظمة المؤتمر الإسلامي شابها خلاف مع الأمين العام، ثم كانت العودة إلى المغرب مرة أخرى في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وهناك لعب الكاتب أدواراً علمية وثقافية مهمة في «دار الحديث الحسنية»، وفي منظمة «إيسيسكو» ونادي الجراري ومولاي علي الصقلي، وأخيراً في مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)
أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)
TT

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)
أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى، وأعربوا عن رغبتهم في تعزيز أثر هذه الشراكة من خلال التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة.

جاءت تلك التأكيدات في بيان مشترك صادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية، المنبثقة من الاتفاق الحكومي المشترك في 10 أبريل (نيسان) 2018، والمتعلق بالتنمية الثقافية والبيئية والسياحية والبشرية والاقتصادية، وتعزيز التراث في محافظة العُلا.

ناقش أعضاء اللجنة من الحكومتين المشاريع الكبيرة الحالية والمستقبلية للتعاون السعودي - الفرنسي في العُلا (واس)

وناقش أعضاء اللجنة من الحكومتين المشاريع الكبيرة الحالية والمستقبلية للتعاون السعودي - الفرنسي في العُلا. وأشادوا بتقدم مشروع «فيلا الحجر» وهي مؤسسة ثقافية سعودية - فرنسية مشتركة مخصصة للفنون والثقافة لكلا البلدين، كما ورد في الاتفاق الحكومي المشترك الموقع في 4 ديسمبر (كانون أول) 2021.

كما رحبت اللجنة بنجاح البرنامج الأثري الذي جمع بين ما يقارب 150 باحثاً وعالم آثار فرنسياً منذ عام 2018. وأثنى أعضاؤها خلال الاجتماع على إطلاق الشراكة بين الهيئة الملكية لمحافظة العُلا وجامعة باريس 1 بانتيون سوربون.

وأعرب أعضاء اللجنة عن تقديرهم لمشاركة الشركات الفرنسية في نجاح هذه الشراكة، لا سيما من خلال مشروع ترام العُلا الذي تنفذه شركة «ألستوم»، ومشروع منتجع «شرعان» الذي صممه المعماري الفرنسي جان نوفيل وفريقه، والذي سيتم بناؤه من قبل مجموعة «بويغ».

وترأس الاجتماع الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي ومحافظ الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، وجان نويل بارو، وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي.

وقال الأمير بدر بن عبد الله عبر حسابه الشخصي على منصة «إكس»: «بين الرياض وباريس شراكة ثقافية عميقة»، مشيراً إلى بحثه مع رشيدة داتي في سبل تعزيزها.

شارك في الاجتماع الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله، وزير الخارجية السعودي، والمهندس خالد الفالح وزير الاستثمار، بالإضافة إلى عبير العقل الرئيس التنفيذي المكلف للهيئة الملكية لمحافظة العُلا.

كما حضر الاجتماع من الجانب الفرنسي رشيدة داتي وزيرة الثقافة، وأنطوان أرمان وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية، وجان إيف لودريان رئيس الوكالة الفرنسية لتطوير العُلا.