في قرية كفرون السورية، حيث التقت نسرين ظواهرة بجورج وسوف، كثير من هواء قرى لبنان وطبيعته. لا يُفوّت لقاء الإعلامية اللبنانية مع نجم يقول إنه سوري الأصل، لبناني الجنسية، أمام مائدة الفطور؛ بندورة جبلية، زيت زيتون، مكدوس، ومُشتهى الخيرات، وإن مرّ بعض الوقت. بجميل التواضع ورفعة البساطة، جعل من حلقة «السلطان في يوم وليلة» («الجديد»)، تأكيداً على أنّ الفنان الحقيقي هو بأخلاقه وقلبه الأبيض، فإذا به نجم القامتين: النفس الكريمة والأغنية الحلوة.
كان السؤال بعد وثائقي «مسيرتي» («شاهد»): أي دفتر لم يُقرأ بعد في حياة «أبو وديع» الصاخبة؟ تفتح نسرين ظواهرة أكثر صفحاته حميمية: عائلته، فتستضيف للمرة الأولى شقيقاته الأربع وأصهاره، بغياب أولاده لضرورات السفر. فجأة، يقترب الدمع من بوابات الذاكرة؛ فالأخوات يملكن من الرقة ما يجعل شقيقهن الوحيد قلباً يضاهي اللهفات. وفيهن من البساطة ما يرفع شأن المرء ويكلله بالمحبة. وإن كن قد سمحن للدموع بملء العيون، فإنّ جورج وسوف تأثّر بصمت. فرحته بالجَمعة أنسته الكاميرا؛ فأهمل وجودها. تهطل الذكريات مع روائع أغنياته: «لو نويت تنسى لفات... وإنو غيري خد مكاني، إنو قلبك مش عشاني».
لمديرة الأخبار في «الجديد»، مريم البسام، لمساتها على الحلقة (إخراج نضال بكاسيني)، وهي لمسات مطرّزة بالودّ. بداية الرحلة من كفرون، «صلة الرحم والحب الأول». لا تفارقه روح والدته، يذكرها بامتنان على العاطفة العظيمة ودروس الحياة، كما يذكر والده بالمحبة رغم القسوة. يعيد حكاية الغسالة، حين اشتراها لها بـ25 ليرة، ليخفف عنها آلام الدعك وتعب الأيادي. 5 ليرات أجرة التوصيل، بعد راتب أول بلغ 50 ليرة. تلقّته بصدمة: من أين لكَ هذا؟ ففسّر أنها الموهبة، لا مدّ اليد إلى المال الحرام. اطمأنت واحتضنت ابناً لمحت فيه نجماً كبيراً.
ترمي مُحاوِرته أسئلتها على طريقة الدردشة العفوية. أمامها فنان يعلم أنّ حبل الكذب قصير، فينجو بالصدق. على بُعد أمتار من جبال قريته المُباركة بالعذراء مريم، يتطلّع إلى صفاء السماء شاكياً ابتعاد الإنسان عن الله. فما الأوبئة برأيه سوى إنذار عساه يعود إلى حجمه الطبيعي. «روقوا على حالكم يا بشر»، يحذّر النفوس من طغيان الشر.
يفتخر بأرشيف غنائي فيه بديع الكلام واللحن، ويسمّيه كنزه، فقد رسّخه حبيباً لملايين الناس، «وهذا كله بفضل الله». تسأله مُحاورته عن غناء اليوم، فيتأسف: «هل نترحّم على الفن، وكل شيء آخر في الحضيض؟»، يتساءل صاحب «ترغلي يا ترغلي» العصية على النسيان.
ربما هبّت نسائم أعادته إلى لبنان الذي نشأ فيه وتزوّج وأنجب. بكلمات قليلة يقول كثيراً عن جرح مفتوح لا يطوله الاكتواء: «الفساد مفردة خجولة أمام فداحة المشهد. لا كهرباء ولا إنترنت، والوضع إلى أسوأ. حين وقع انفجار المرفأ، شعرتُ بشيء قد انفجر في قلبي ورأسي. كيف يهملون الوصول إلى حقيقة مرتكبي الفاجعة؟»، يستغرب متألماً مَن تزوّج والدُه والدته «خطيفة» في حمص؛ فحمله قدره إلى لبنان، حيث «أنا من دونه كسمكة من دون ماء».
جورج وسوف دائماً على طبيعته، وفي حلقة «السلطان في يوم وليلة» بدا مرتاحاً، يصوّر بلا حسابات. التفاصيل تلامس الروعة، وهو يجول بالدراجة الكهربائية في ردحة منزله، ثم يقود سيارته في شوارع كفرون وبجانبه مُحاورته، فيوقفه الأحبة لالتقاط الصور، ويختار بنفسه التمهّل أمام محل فلافل، فيتذوق قرصين ويكمل المشوار.
يحافظ الحجر القديم على هويته، وتضيق بعض الطرقات لتتسع القلوب السعيدة بلقاء النجم. يصطحب معه روحه المرحة في كل خطوة، ووحدها جدران منزل «أم جورج» و«أبو جورج» تعيده إلى أحزانه الأبدية. يخبر مُحاورته بأنّ فقدان الوالدين ندبة غير صالحة للشفاء، وسيظل فريسة الأسى في كل مرة يعبُر بجانب منزلهما المجاور لكنيسة القرية.
الأرز مع اللبن من وجباته المفضلة، تشاركه بها نسرين ظواهرة قبل الأمسية الغنائية مع العائلة وسرد القصص. لا تعامله شقيقاته، لا سيما الكبرى سوسن، معاملة أخت لأخيها، بل أمهات لابن هو أيضاً رجل البيت والسند. يفتتح الجلسة بـ«حلف القمر»، وشقيقاته حوله كأقمار متواضعة. رائعة بساطتهن في الحديث والإطلالة، ونادرة. وهي بذرة الأم في تربة صالحة، فنبتت شجرة طيّبة، تكبُر بالتواضع وتتخذ قوتها من بركة السماء. مع الأخوات، بناتهن، وأجمل ما قيل إنّ الخال لا يرضى لابنة شقيقته الإفراط في التشاوف بخالها بين زملاء الجامعة، خوفاً عليها من الغرور الباطل. يحصّنها بالنفس العزيزة والتربية الحسنة.
يعترض جورج وسوف على سخاء الدموع: «لِمَ البكاء؟ دعونا نفرح». لم تكشف الجلسة نبل القلوب فحسب، بل أيضاً جمال الأصوات، وهي نعمة متوارثة من الأم ودندناتها أمام جرن الغسيل. وكما الشقيقات، يحمل الأصهار محبة للنجم وتقديراً لفضله في احتواء العائلة. يرفض أن يكون حلم شاب يلتقيه في الشارع التقاط صورة معه، ويدعوه للتمادي بالأحلام. بعد المجد، يتمسّك أكثر بأمنيته الوحيدة: «راحة البال ورضا الله».
جورج وسوف «السلطان في يوم وليلة»
https://aawsat.com/home/article/3645871/%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC-%D9%88%D8%B3%D9%88%D9%81-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A9%C2%BB
جورج وسوف «السلطان في يوم وليلة»
- بيروت: فاطمة عبد الله
- بيروت: فاطمة عبد الله
جورج وسوف «السلطان في يوم وليلة»
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة