اهتمت تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة عام 2002 باستغلال أدوات قوتها الناعمة، سواء عبر القنوات التلفزيونية أو الإلكترونية حتى الدراما للوصول جمهورها الداخلي أو في الخارج وتحديداً دول الجوار، خاصة العربية منها في ظل سياسة جديدة تبناها الحزب لسنوات عرفت بـ«صفر مشاكل» مع دول الجوار.
وكثفت تركيا مدها الإعلامي والدرامي خلال 20 عاماً الماضية بعد أن عملت في السنوات السابقة على ذلك في تقديم نفسها كقوة إقليمية في الشرق الأوسط، وهو ما لم يكن محوراً بارزاً في السياسة التركية قبل حزب العدالة والتنمية برئاسة الرئيس رجب طيب إردوغان، فيما ترى جهات معارضة في تركيا أن الإعلام خادم للسلطة داخلياً وبشكل واضح. وهنا يشيرون إلى بسط سيطرتها على نحو 95 في المائة من الصحف وقنوات التلفزيون، حتى الخاصة منها، بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا ما ترك هامشاً بسيطاً للمعارضة التي تجد ضالتها في وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الجمهور، كما أنه دفع قطاعاً عريضاً من الشعب التركي إلى اللجوء إلى وسائل إعلام مستقلة جديدة تعتمد على الإنترنت، وقنوات مستقلة أو معارضة للحكومة، مثل: «فوكس»، و«خلق تي في»، و«تيلي 1» ووسائل الإعلام الدولية مثل «بي بي سي» البريطانية و«دويتشه فيليه» الألمانية و«صوت أميركا»، التي أنشأت مواقع إلكترونية لها باللغة التركية.
جهات معارضة في تركيا تشير إلى بسط السلطة سيطرتها على نحو 95 في المائة من الصحف وقنوات التلفزيون (غيتي)
ترويج سياسي
أما في الخارج فإن القنوات والمواقع التي تبث ومنها اللغة العربية، تتصدرها وكالة «الأناضول» وقناة «تي آر تي» العربية الرسميتان، إلى جانب العديد من المواقع الإلكترونية تستخدم كأداة لترويج سياسات تركيا، وتعزيز مكانتها كلاعب إقليمي، وفي الوقت الذي أعلنت فيه منظمة «مراسلون بلا حدود»، الأسبوع الماضي، بالتزامن مع «اليوم العالمي لحرية الصحافة، تقريرها حول مؤشر حرية الصحافة للعام الحالي كشفت أن تركيا احتلت المرتبة 149 من بين 180 دولة في حرية الصحافة منتقدة غياب الحرية. وفي المناسبة ذاتها، انتقد رئيس حزب «المستقبل» المعارض ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، «التضييق على الصحافة في بلاده»، قائلاً على «تويتر» إنه «من غير المقبول أن تحتل تركيا المرتبة 149 من بين 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة... نحتفل للأسف باليوم العالمي لحرية الصحافة. دعونا لا ننسى... إذا لم تكن الصحافة حرة، فإن الحقيقة ستبقى في الظلام». ونشير هنا، إلى أنه عندما أطلق داود أوغلو حزبه عام 2019 لم يجد قناة واحدة تنقل مؤتمر إطلاق الحزب، فاضطر لاستخدام منصة «فيسبوك».
حول هذه المسألة، يوجد عدد لا يتجاوز أصابع اليدين، من الصحف والقنوات، التي لا تزال في صف المعارضة، غير أنها تواجه أزمات وضغوطاً من جانب الحكومة، سواء بملاحقتها بالضرائب أو فرض الغرامات الضخمة أو إيقاف البرامج.
ولم تكن الحال بالنسبة لنائب رئيس الوزراء الأسبق علي باباجان أفضل بكثير مما كانت عليه مع داود أوغلو. إذ بعد استقالته من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في يوليو (تموز) 2019. أطلق حزبه «الديمقراطية والتقدم» في مارس 2020. وبدوره لم يحظ حزب باباجان بتغطية إعلامية تذكر، ولم تلق تحركاته إلا لقاء واحداً ظهر فيه على قناة «خبر تورك»، والظهور مرة أخرى عبر موقع «تي 24». وبقي الاعتماد الرئيس لفريقه السياسي منصباً على وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن قناة «فوكس»، التي باتت النافذة الأبرز للمعارضة مع قناتي «تيلي 1» و«خلق تي في»، وتتعرض القنوات الثلاث لعقوبات متكرّرة.
نافذة للمعارضة
على صعيد آخر، أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي فاعلية كبيرة جداً في الحملة التي خاضها رئيس بلدية إسطنبول (المعارض) أكرم إمام أوغلو خلال الانتخابات المحلية في مارس 2019. ولقد فاز إمام أوغلو في جولتها الأولى، ثم في جولة الإعادة في يونيو (حزيران)، بفارق شاسع جداً عن منافسه رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم، الذي حظي بدعم القنوات والصحف الموالية لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم.
وبعد هذه التجربة، اعتبر خبراء أن وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت انقلاباً هائلاً في تلك الانتخابات، وباتت القبضة المفروضة على وسائل الإعلام التقليدية من جانب الحكومة قليلة الجدوى وضعيفة التأثير بشكل كبير، لا سيما بعدما باتت جميعها صوتاً واحداً ينطق بلسان الحكومة، مما دفع المواطنين للبحث عن التنوع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
قيود جديدة
إذن تحاول الأحزاب والشخصيات السياسية المعارضة الوصول إلى الجماهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي عوضت إلى حدٍ بعيد غياب نوافذ التعبير، ووفرت تفاعلاً مباشراً ومؤثراً مع جموع المواطنين. وحقاً، أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي فاعلية كبيرة جداً.
ومن جانبها، تنبهت الحكومة إلى خطورة وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح فعال في يد المعارضة، منحها قوة تأثير هائلة في الشارع التركي، وبالأخص في أوساط الشباب والمثقفين. ولهذا السبب شنّ إردوغان وحليفه رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي، حملات لشيطنتها ووصفها بأنها «مكمن الشرور والقاذورات». وأقر البرلمان التركي العام الماضي قانوناً فرض قيوداً مشددة على مشغلي مواقع التواصل الاجتماعي، وألزمها بفتح مكاتب وتعيين ممثلين في البلاد، والسماح للحكومة بالاطلاع على محتوى بعضها وتقييده، كما فرض غرامات ضخمة على المخالفين.
كذلك أقر البرلمان أخيراً مشروع قانون يفرض مزيداً من القيود على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بذريعة التصدي لنشر معلومات وأخبار كاذبة، يتضمن عقوبات بالسجن والغرامة لمن يروجون أخباراً كاذبة.
توظيف الدراما
ولكن لا يتوقف التوظيف السياسي للإعلام على الوسائل التقليدية المباشرة. إذ إن تركيا لا تدخر جهدا اليوم في محاولة تسويق المسلسلات التي تعتبر حلقة قوية من حلقات الدعاية السياسية والتغلغل الاجتماعي في آن معا، فضلا عن الترويج لنفسها كجسر يصل بين أوروبا والشرق الأوسط، وتحقيق منافع تجارية والترويج للسياحة إلى تركيا.
ويعتقد مراقبون ونقاد، أن من أهم أسباب انتشار المسلسلات التركية المدبلجة خاصة الموجهة للعرب هو الطابع الاجتماعي الذي تعكسه، والعلاقات الأسرية تشبه إلى حد كبير واقع المجتمعات العربية. كما لعبت اللهجة السورية المألوفة في العالم العربي، وإبدال أسماء الشخصيات التركية بأسماء عربية سهولة في وصول هذا المنتج لعدد أكبر من المشاهدين.
وراهناً، تثير بعض الدراما التركية جدلاً في الوطن العربي بسبب تصادمها مع العادات والتقاليد من حيث العلاقات الزوجية وشيوع الخيانة وتعدد العلاقات، والرومانسية الخيالية المفرطة والبعيدة تماماً عن الواقع. ومع أن المشاعر بين الرجل والمرأة، هي بطبيعتها متشابهة في كل المجتمعات، إلا أن تفاصيلها تتأثر بالخلفية الثقافية والمجتمعية للفرد. وحسب البعض، لم يكن تعريب المسلسلات كافياً لجعلها مناسبة للمجتمع العربي، فبعض المشاهد التي أثارت حفيظة المشاهدين، والتي تحمل إيحاءات أو تتضمن المشروبات الكحولية كجزء طبيعي من الحياة اليومية في بيت العائلة، دفعت إلى الهجوم على تلك المسلسلات والقنوات التي تقدمها.
هذا الجدل حول المسلسلات التركية لم يقتصر على المجتمع العربي فحسب، بل إن هناك نقاشاً مشابهاً في تركيا نفسها، واتهامات للمنتجين بقلة المصداقية في عكس حقيقة المجتمع التركي وتفاصيل حياته الاجتماعية فضلاً عن النمطية في المواضيع التي تدور جميعها، باستثناء المسلسلات التاريخية والقصص الحقيقية، حول فكرة زواج الغني من الخادمة أو من الطبقة الفقيرة أو مواضيع الخيانة الزوجية، وهو ما أحدث عزوفاً كبيراً، لا سيما في أوساط الشباب، ودفعهم إلى التوجه إلى البحث عن دراما أكثر واقعية في منصات أخرى أهمها «نتفليكس».